حكايات وذكريات : سيرة قلم 5
هذه هي الرسالة الثانية من رسائل المرحلة الإبتدائية.. ورغم أنها كانت قصيرة وبسيطة.. إلا أنها كانت مؤلمة جدا.. ووقعها وتأثيرها على نفسي كان كبيرا ولايزال.. لم أكن أدرك في ذلك الوقت المبكر.. أنها رسالة سياسية خطيرة.. رغم عفويتها وبساطتها.. ومشروعية وبساطة مطلبها الوحيد.
لم أكن الطرف الوحيد في هذه الرسالة.. ولا الطرف الرئيس فيها.. فقد كنت شريكا لابن عمي الأستاذ عبد الرحمن ــ متعه الله بدوام الصحة والعافية ــ الذي أشار علي بكتابتها معا.. فلم أمانع ولم أتردد في ذلك.. حيث اجتمعنا بالخصوص ودبجنا تلك الرسالة على مهل.
كنا في ذلك الوقت ندرس معا في الصف السادس الإبتدائي.. وكانت الرسالة ومضمونها أكبر منا بكثير.. فقد طالبنا من خلالها.. بضرورة تغيير ضابط مركز الشرطة بضابط آخر (يقرأ ويكتب).. وهذا هو السبب الوحيد الذي دعانا لكتابتها.. واختتمناها بالتالي : (نيابة عن سكان منطقة المقرون/ عبد الرحمن خليفة العريبي وسعيد مفتاح العريبي.. ووقع كلانا تحت اسمه).
لم تكن هناك أجهزة كمبيوتر.. ولم تكن الطابعات متوفرة في قريتنا في ذلك الوقت.. فاقترحت على صديقي عبد الرحمن أن يكتبها بخطه الجميل.. فوافق في الحال وبلا تردد.
وانتهينا بالفعل من كتابتها.. ووضعناها في ظرف كتبنا عليه ــ إن لم تخن الذاكرة ــ (إلى/ مدرية أمن بنغازي).. ووضعنا عليه الطوابع البريدية المطلوبة.. ومن ثم سلمناه إلى مكتب البريد الذي كانت له أهمية كبيرة في ذلك الوقت.
وبعد أيام قلائل.. وبينما كنت أنا وصديقي عبد الرحمن في الفصل.. دخل علينا أحد أفراد مركز الشرطة.. وسلم للأستاذ.. ورقة استدعاء فوري وعاجل.. فنادى الأستاذ علينا.. فخرجنا مع الشرطي الذي توجه بنا إلى مركز الشرطة.. وهناك أمام مركز الشرطة شاهدنا سيارة شرطة غريبة وغير مألوفة.
قادنا الشرطي إلى إحدى غرف المركز حيث وجدنا مجموعة من الضباط في انتظارنا.. اعتقدت من نظراتهم أنهم استغربوا أن تصدر تلك الرسالة من أطفال يدرسون بالمرحلة الإبتدائية.. لكن ذلك لم يمنعهم من توبيخنا وضربنا قبل بداية التحقيق معنا.. كنوع من الإرهاب الذي يرغم المتهم من خلاله على الاعتراف وبلا تردد.. ثم عرضوا علينا الرسالة قائليين :
ــ من منكما أرسل هذه الرسالة.. ؟
ــ فقلنا : نحن الإثنين.
ــ هل شارككم أحد في كتابتها.. ؟
ــ لا.
ــ هل اقترح عليكم شخص آخر كتابتها.. وإرسالها.. ؟
ــ لا.
ــ لماذا تطالبون بتغيير ضابط المركز.. ؟ هل أساء إليكم.. ؟
ــ لا.. ولكنه لا يقرأ ولا يكتب.
ــ من الذي كتب الرسالة.. ؟
ــ فقال عبد الرحمن : أنا.
بعد ذلك سلموا لكل منا وقة وقلما.. وطلبوا منا كتابة ما يملى علينا.. فكتبنا ما أملوه علينا.. ثم أخذوا الورقتين وقارنوا ما كتب فيهما بالرسالة.. فاقتنعوا أنها بخط رفيقي عبد الرحمن.
عندها.. ضربني المحقق بعصاة كانت في يده.. وطلب مني الإنصراف.. فخرجت مسرعا.. محملا بمشاعر الفرح والخوف معا.. فرح بخلاصي من قبضة الشرطة التي كان الجميع يخشونها في ذلك الوقت.. وخوفا على ابن عمي عبد الرحمن.
وبعد أقل من ساعة تقريبا.. إطلق سراح عبد الرحمن.. فسعدت بذلك.. بخلاصة من قبضتهم.. وذهبت إليه مهنئا.. ومواسيا على ما ناله من الضرب والتأنيب.. وعندما رأيته سلمت عليه وضحكت:
(فاعذروني أيها السادة إن كنت ضحكت.. كان في نيتي أن أبكي.. ولكني ضحكت)