تجارب

زنقة الباز.. تاريخ الناس المنسية

نهاية الرجل الكبير

صورة قديمة لمنطقة فشلوم
صورة قديمة لمنطقة فشلوم

قبل أن أقدم  لكم الحاج محمد وأحكي عن مأساة عمره  سأقدم لكم  المدينة لأن مأساته كانت مأساة المدينة، مدينة طرابلس مدينة مفتوحة، نوافذ قلبها مشرعة  لكل طارق، هكذا أرادت لها شروط مولدها، لا أكثر ولا أقل،،لذلك لم يكن غريبا أن تتجمع فيها جنسيات العالم من مالطا الأقرب إلى السويد الأبعد، هكذا تصبح طرابلس مدينة خدمات من الدرجة الأولى في الصناعات الصغيرة والتجارة، لا يخلو شارع أو زقاق إلا وفيه دكان أو محل، وكان لا بد أن تكون مدينة للهدوء وللمحبة تستقبل كل يوم قادمين جدد فتفتح لهم قلبها وتمنح كلا منهم قبسا من روحها لذلك أصبح كل من أقام فيها وكأنه ولد فيها، وكانت الدكاكين  والمحلات الصغيرة ملمحا بارزا فيها، من هنا أقدم لكم الحاج محمد وكيف جار عليه الزمان، كان  الشخصية الأبرز في زنقة الباز فهو يقرأ ويكتب ويعرف السياسة، دكانه يقع  في أول زنقة فرعية على يمين الداخل  إلى  زنقة الباز، كنا نرى في دكانه زينة الدكاكين في كل شارع فشلوم، وعندما ترسلني أمي لشراء غرض للبيت كان يجلسني على كرسي صغير ويبدأ يحدثني ثم يقرأ من ورقة كبيرة مطبوعة وكانت من جريدة الأهرام، كان يقرأ ولا أعرف أين تعلم القراءة وكان يحاول الاحتفاظ بي أطول مدة ممكنة كان سعيدا بوجودي، وعندما يطلق سراحي أتعرض لتوبيخ غليظ من أمي لكنها تعلم سطوة الحاج محمد على الصغار والكبار والنساء أيضا، تجده حكما في كل نزاع وكان رأيه حكما نافذا، كان عقلا مسيطرا على الجميع، ثم يمضي زمان ويعقبه زمان  ثم  يأتي معمر القذافي على صهوة دبابة يلغي القوانين ويلغي الموزع الفردي وتخلو المدينة من محلاتها الصغيرة ودكاكينها  ومن كل عمل فردي وتموت الخدمات ويسود المدينة موت اقتصادي، وفي هذا الموت يجوع الناس، الحاج محمد أقفل دكانه وبقي عاطلا عن أي عمل واختفى عن كل العيون، أين اختفى الرجل الكبير ؟ في يوم من الأيام عرفت أن صديقا صار مدير شركة عامة، سألت عن عنوان الشركة وذهبت لزيارته، أمام مكتبه جلست على ركابة خشبية طويلة وكنت وحدي أنتظر الدخول فيما عيني تبحث عمن يبلغه بوجودي، رأيت رجلا قادما في الممر الطويل، كان مسنا ونحيفا ويمشي بخطوات زاحفة ويحمل بين يديه سفرة عليها فنجال قهوة وكوب ماء، وعندما أوشك أن يكون أمامي. رأيت الرجل الكبير.. الحاج محمد بأسره.. كتمت صرخة أوشكت أن تمزق قلبي، اجتازني ولم تسعفه نظارته القديمة برؤية صديقه القديم الذي كان يجلسه على الكرسي الصغير ليقرأ له جريدة الأهرام، أسرعت بالخروج فيما دموعي تتناثر أمامي وفي البيت حكيت لأمي ما رأيت فبكت وطلبت من الله أن يجازي الظالمين.

مقالات ذات علاقة

“المطر الأحمر” .. روايتي الأولى

المشرف العام

للـتاريخ فـقـط (1)

عبدالحميد بطاو

جلال

المشرف العام

اترك تعليق