يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.
الحلقة: 1/ كلهـم يحــاولـون اسـتـقـطــابي
حينما تم اعتقالنا من قبل رجال مباحث المملكة الليبية صيف عام 1967م بتهمة الانتماء لحركة القوميين العرب ووجهـت لنا تهمـة أكـثر خطورة وهى محاولة قلب نظام الحكم بالقوة لم تكن يومها متوفرة كل وسائل الرصد والتأريخ المتاحة الآن من وكالات أنباء وصحافة ومراسلين وأقمـار صناعية تسبح في الفضاء وتصور الحدث اثناء تفجره وكأنه مباراة كرة تنقل مباشرة ويتابعها كل العالم لكى نستعين بـهم كمراجع موثوق بها وبما رصدوه بالصوت والصورة كما يحدث في أيامناهذه التي يوثق الآن فيها كل شيء وحينما استمعت لحديث السيد إبراهيم فتحى عميش لتلفزيون ليبيا الحرة عن تاريخ (حركة القوميين العرب) في ليبيا رأيت أن هـناك أخطاء كثيرة وقع فيها الرجل بحسن نية وجل من لا ينسى وشعرت بمدى المسئولية في سرد التاريخ الليبي المعاصر، الذى حاول القـذافي تجاوزه والقفز عليه أو مسخه في كثير من الأحيان.
وبما أنني لا أملك إلا الجزء الذى يخصني من خلال حياتي الخاصة فربما يكون هذا فيه تسليط للضوء على بعض الأمور العامة والأحداث التي مرت بليبيا عامة ومدينتي درنة خاصة خلال الفترة من عام 1951م وحتى تاريخ الانقلاب المخادع الذى تورطنا في تأييده خلال الأسبوع الأول فقط لنكتشف بعد السنوات الأولى مدى بشاعة الوجـه الحقيقي الذى بدأ يظهر وبدون رتوش لصغار الطغـاة هؤلاء.
ولكى نعطى هذه المدينة حقها لابد أن نقول أن مدينة درنة انتفضت انتفاضة رهيبة بكل أهلها تضامنـًا مع الشقيقة مصر عام 1956م أثناء مواجهتها للعدوان الثلاثي وأهلها كانت لهم الريادة (في مواجهة الغزاة بالحجارة) حيث ذهبوا يومها الى معسكرات الجيش البريطاني المقامة على أطراف المدينـة وأمطروهم بالحجارة وفجر كــل من (على سالم هارون) و(مراجع الخشخاش) سياراتهم العسكرية داخل معسكرهم (الكازرما صالصا) بقوالب الجيلاطينه فاضطر الجيش البريطاني إلى الجــلاء مرغمًا من مدينة درنة دون سائر المدن الليبية، وشاركت الجماهير الدرناوية بمظاهرات عارمة احتفالا بالوحدة المصرية السورية عام 1958م واحتجاجًا على الانفصال الذى اغتال أول مشروع وحدوي جدى وصادق وفجع الجماهير العربية في أجمـل احلامهـا وأمانيها.
وسجنت السلطات الملكية في مظاهرة تندد بمذبحة الموصل في العراق عام 1959م التي ارتكبها (عبدالكريم قاسم) ضد ضباط الجيش العراقي بالموصل الذين كان منهم (ناظم الطبقجلي) و (رفعت الحاج سرى) وغيرهم مجموعة من شباب المدينة كنت من بينهم ومن هنا اسمحوا لي أن أدخل في سرد بعض سيرتى لابرز من خلالها بعض من سيرة درنة، وما مر بها من أحداث وسيرة ليبيا كلها في تلك المرحلة غير العادية، والتي كما قلنا لها مالها وعليها ما عليها. وسألتزم بالصدق والموضوعية في هذا السرد بإذن الله.
كنت عام 1964م في الثانية والعشرين من عمرى، وكانت العقيدة والحياة وفلسفة الموت شاغلي الذى كدر على فرصة التمتع بما في الشباب من نشوة ونزق، وقادني نهم القراءة وعشق الشعر الى متابعة أشعار (ايليا ابوماضى) وخاصة قصيدته الشهيرة (الطلاسم) التي ضيعتنى في تساؤلاتها المربكة وطلاسمها الغامضة، وكدرت صفو حياتي حتى صار شبح الموت يهـدد كل معتـقـداتي، فأوشكت أن اقتنع بعـبثية كل ما في الحياة مادام الموت يذهب بكل شيء آخر الأمر ويستوى عنده المائت من عام ومن مليون عام (كما قال في طلاسمه)، وهنا نصحني بعضهم باللجوء الى رجال الدين لكى يعيدونني الى جادة الصواب.
وكان في درنة ثلاثة فـقهاء من شيوخ مصر استعارهم المرحوم (الصالحين بن سعود) على حسابه الخاص ليعلموا الناس شئون دينهم، كان على رأسهم شيخ في الثمانين من عمره اسمه (أحمد الزيني) وكانوا يقيمون في بيت المرحوم (فتحى الشيخ) الذى على البحر، وذهبت لهم وقدمت نفسى لهم باعتباري شاب ضال وأبحث عن الهداية، فاحتفلوا بي حتى أن الشيخ “الزيني” في يوم من الأيام قبل يدى وحينما قلت له: لماذا فعلت ذلك يا شيخى؟ قال لي: إن الله يحب الشاب التائب، وأنت شاب تائب وأنا احبك كما يحبك الله.
بقيت مع هؤلاء الشيوخ أتردد عليهم يوميـًا بعد العصر وحتى المغرب، كنا نتحدث عن الصلاة والعبادات وكل أمور الدين وضرورة التقوى والخوف من الله. وحينما استأنسوا لي ووثقـوا بى أعلنوا لي صراحة أنهم من شيوخ (الإخوان المسلمين) وأنهم يحقدون على “جمال عبدالناصر” ويتحينون الفرصة للقضاء عليه وعلى حكمه، حتى إن الشيخ الزينى قال لي:
– أننا كنا في مرة من المرات قد فكرنا في تكسير وفتح أقفاص الحيوانات المفترسة بحدائق الحيوانات بالقاهرة والاسكندرية لكى ترتبك الدولة ونحن نستغل الفرصة ونستولى على السلطة!!!
وحينما قلت له مذعورًا:
– يا سيدى الشيخ وما ذنب الطفل الذى ستمزقه هذه الحيوانات المفترسة؟
قال لي بإصرار غريب:
– الغاية تبرر الوسيلة!!!
وهكذا اكتشفت يومها أنني كالمستجير من الرمضاء بالنار (كثيرون اعتبروني افترى على هؤلاء الجماعة، ولكنني أقسم بالله ان هذا ما قاله لي يومها، يشهد الله).
وكنت حينما أخرج من هؤلاء الشيوخ أجلس في مقهى الشرق، ذلك المقهى الذى كان مقامًا في حديقة على ضفة الوادي، والتي أزالوها، وكانت معلمـًا من معالم درنة المتميزة، هى والسينما الصيفية المكشوفة المقابلة لها على الضفة الثانية من الشارع كان منظرًا جميلا رومانسيًا يتربـع وسط المدينـة افتـقدنـاه بدون مبرر.
المهم كنت أجلس مع الصديق (عبدالسلام على عيله)، الذى كنت أحدثه عن تفاصيل لقاءاتي وحواراتي مع هؤلاء الشيوخ، وكان يسخر من أفكارهم ويأسف لما لديهم من عدوانية وشراسة غير مبررة. ويدافع بحماسة صادقة عن “جمال عبدالناصر” وعن العروبة والتاريخ العربي الذى كان مشرقـًا ولايزال، وستعيد الأمة العربية أمجادها بفضل شبابها المناضلين والواقفين بصمود في وجه الزيف والطغيان.
وفي ليلة من الليالي، وحينما استأنس بى هو أيضـًا ووثق بي فاتحني صديقي (عيله) هـذا، لأدخل عضوًا في (حركة القوميين العرب)، كان ذلك صيف عام 1965م، فكانت مفاجأة لي لأن الشيوخ هم أيضًا كانوا يمهدون لضمي لحركة (الإخوان المسلمين)، وكنت اتوقع هذا وأجـهز نفسـى لرفضه.
دعونا نتوقف عند هذا الحد؛ لكى نتحدث في الحلقة الثانية عن وقـائع وأحـداث وأسـماء كل من شاركوا في تلك المواجهات والمصادمات والأحداث التي مرت بها المدينة في ذاك الحين ولن أغمط أحدًا حقـه..
فإلى الحلقة الثانية انشاء الله..