بشير بلاعو
حين بلغني أن الصديق العزيز، الأكاديمي والباحث المرموق “الناجي الحربي” يزمع أن يضع، في كتاب، سيرة الراحل الكبير، شاعر الأغنية الليبية المجدد المجيد، فضل المبروك، رحمه الله، ساورني شيء من الشك، والحيرة معا. الشك، لا في ملكة البحث و المثابرة لدى “الناجي”، و قدرته على الإنجاز، و إنما فيما الذي سيأتي به من جديد، فالراحل “فضل المبروك” ليس من (نماذج الظل)، بل يمكن الجزم أن المرشحين لقراءة الكتاب، و حتى عموم الليبيين، تقريبا، يعرفون “فضل” أكثر مما يعرفون “الناجي”، وحين كان الكاتب ما يزال على مقاعد الدراسة الجامعية، كان “موضوع الكتاب” إن جاز التعبير، ملأ سمع و أبصار الليبيين، وكان قلمه يسهم بنصيب وافر في رسم صورة ( بنكهة مختلفة ) للأغنية، بلوحة الفنون الليبية، ثم سرعان ما صار “فضل المبروك” ممن يتصدرون توليفة المغنى التي تكاد لا تفارق أذهان الليبيين، و هي (الخيمة الغنائية).
أما الحيرة، فكانت فيما سيضيفه “الناجي” لفضل من فضل، وقد بدت فضائله عيانا، ينقلها الأثير بالصوت والصورة للأعين والآذان.
قبيل رحيل العام المنصرم استلمت نسختي من كتاب (مطلوق سراحك يا طوير) ممهورة بإمضاء الدكتور، الناجي الحربي، ويعلوه إهداء رقيق بخط يده الجميل، فزاده رقة وجمالا، ومع ذلك لم تأبه النفس الأمارة إلا أن علقت بالقول: إن ما بين يدي هو محض ترجمة لانغماس “الناجي” فيما أسمته (عصبية مسة).
“مسة” التي اعتنت يد الطبيعة بوشي حسنها فيما حبته الجبل الأخضر من بهاء، هي علاقة المكان بين الشاعر الراحل “فضل المبروك” و “مترجمة”، الناجي الحربي، فكلاهما ولد بها، و هي مراتع طفولتهما، والصبا، والشباب، ومكان بحجم قرية تستوطن الجبل الأخضر، في ليبيا، لا شك يصنع من الوشائج بين الناس فيه، ما يعادل، وقد ينافس، قربى العائلة، و روابط الدم، و لكن “الحربي”، و كما فعل بي، سيفاجئك، حين تكتشف أنه و منذ صفحة الغلاف الأولى، سيقوض مبدأ ما وصفته بعصبية مسة في ذهن قارئه، لا بالنص، و بخط بارز، على أن علاقته بالكتاب، فقط، لا تزيد عن (إعداده) للنشر، وإنما أيضا في عدم ركونه مطلقا، تقريبا، لما تختزنه ذاكرته الشخصية في سرد سيرة “فضل”، فعلى مدى ما يزيد عن ستين صفحة، تبلغك سطورها ما يشبه “ببليوغرافيا” الشاعر، فإن “الحربي” بدى كما لو أنه يدير حديثا بين ثلة من ثقاة من كانوا على صلة بالشاعر الراحل، منذ مولده عام 1946 حتى وافاه الأجل عام 2002.
بمثل ما اعتنى ” الحربي ” بانتقاء من تناوب على سرد سيرته، حرص أيضا على أن يجعل للحديث عنها أجنحة من أثير تحلق بالقارئ في فضاء الأغنية الليبية صحبة طائفة من أجمل أشعار “فضل المبروك” الغنائية، عاطفية كانت أم تبتلا في محراب الوطن، فيصبح الكتاب بين يديك أشبه بجوقة موسيقية، ترق بصوت “تونس مفتاح” وتعلو مع “محمد حسن”، تطاول الشاهقات بشدو ” أشرف محفوظ “، وتجوب الحواري مع “محمد السيليني” تعذب مع ” سالمين الزروق ” ويضوع مذاق حنينها بشجو ” سيف النصر “.
جوقة تقصي سيرة ” فضل ” يعلو نغمها من جديد على وقع شهادات رصد تجربته فتستغرق هي الأخرى نحوا من ستين صفحة، وما تبقى من الكتاب فقد أفرد لبعض الصور والوثائق وثبتا بأشعار السبعة عشرة لوحة لملحمة ( رحلة نغم ) التي تكاد تشكل السيرة الغنائية الأشهر للبلاد الليبية.
عدد لا بأس به من الكتاب والشعراء والمثقفين أسهموا في سبر ثنايا تجربة ” فضل “، وأضاف تعدد مشاربهم، وتنوع مناهج تحليلاتهم، زخما للكتاب، وإعلاء لقيمته، فهذا ” الصديق بودوارة ” يذهب لاستكناه العلاقة الملتبسة بين المثقف والسلطة، من خلال ما يمكن وصفه بأشعار الحماسة لدى ” فضل المبروك ” وهي التي عدها البعض نواة مشروع تسييس الأغنية الليبية خلال عقدي السبعينات والثمانينات، على نحو خاص ،
أما ” جمال الزايدي ” فيرى في أشعار ” فضل ” ما يصنع جسورا بين المرء ووطنه، لاسيما حين يقود الظرف خطاه لبلاد الغربة، بل إنه يذهب إلى حد اعتبار مثل ” فضل ” ومثل ” أشعاره ” من وشائج ما يشد به وثاق مشروع الأمة، إذ يقول: ( لم أعرف فضل المبروك شخصيا لكنه ظل رغم المسافة بين البيضاء وطرابلس قريبا من العقل والروح كصديق أو شقيق.) ولقد استوقفتني، مطولا، وباستغراق، قراءة الأديب الشاعر ” جمعة الفاخري ” للنص الذي اتخذ ” الناجي الحربي ” مطلعه عنوانا لكتاب سيرة الراحل الكبير ” فضل المبروك ” وهو ” مطلوق سراحك يا طوير “، لقد حلق السيد ” الفاخري ” بهذا النص إلى مدايات أبعد مما يوحي به لحن وأداء الفنان الراحل ” محمد حسن “، فخلصه من إسار علاقة عشق محدودة ومحددة بطرفيها، ليسمو به نحو فضاءات المحبة والحرية.
قبل أيام قليلة نشر الصديق العزيز ” خالد الشقروني ” يقول: المواطن لدينا لا يجد في ذاكرته أسماء ليفتخر بها.. الفنانون والعلماء وأبطال التاريخ والأحداث، كلها مطموسة لديه، ولا يجد في حاضره إلا أسماء باهتة يخجل من أن يفاخر بها.)
“الشقروني” قد يكون محقا فيما ذهب إليه، وقد يكون كثير من الليبيين ووجهت جهودهم وأعمالهم بالتجاهل والإنكار، كما أن زمن الأعمال الخارقة، وأبطال قصص الفروسية الغابرة، وأساطير (السوبرمان) لم تعد محبذة حتى لأفلام الكرتون، ولذا فإن كل جهد يوجه للاحتفاء بذوي الملكات الخاصة، والذين يستخدمون مواهبهم لتحقيق فائدة للمجتمع، وحتى لإمتاع الناس، فهو جهد مقدر، وبهذا المعنى فإن السيد ” الناجي الحربي قد أدى لنا أمانة معتبرة، حتى وإن لم يفكر أحد في تحميلها له.