د. عبدالله مسعود أرحومة
في لمسة ود رائعة وصلتني من الكاتب والأديب حسين بن قرين درمشاكي هدية غالية وثمينة متمثلة في مجموعتيه القصصيتين (المرأة التي تزوجت الجني)، (أنا وأبي).. مع ملاحظة إن المجموعة الأخيرة (أنا وأبي) صدرت في ثوب قشيب في طبعتها الثانية.. والمجموعتان صدرتا عن دار فنون للطباعة والنشر والتوزيع ….
تتصفح بداية المجموعتين ..ولكن سرعان ما تجد نفسك غارقا في مهرجان من المعاني المكثفة عبر احداث صغيرة يمكن أن تقع لأي واحد منا ..ولكن تلك اللحظات العادية تحولت بأسلوب الأديب حسين بن درمشاكي الى نص ادبي زاخر ببلاغة الصياغة التي تشدك بالمعاني والدلالات العميقة ..في بعضها رمزية لا تغرق كثيرا في التعقيد ..منذ اللحظة الأولى لشروعك في قراءة النصوص تجد نفسك وسط الحدث بكل ما فيه من صراع وحيرة وحالة اندهاش من روعة ما تقرأه…وردت نصوص المجموعتين على هيئة الأقصوصة او القصة القصيرة جدا مثلما جاء في مجموعة (أنا وأبي).
تقرأ تحت عنوان (أرق).. النص الآتي:
(جفاه النعاس، فتمنى الظفر بغيمة سبات.. ماطرة)
إنه الأرق الذي تغشاك فيه امنية أن يلم النعاس بجفنيك ولكن لحظة السبات تلك لا تتعدى امنية قد لا تتحقق…
أو كما ورد تحت عنوان (وهن):
(انتعل خوفه.. ركب ظله.. تاه مخترقا جيوش قلقه، يبحث عن بقايا طفولته).
يا لروعة الأسلوب وجمال زخرفة النص رغم قلة كلماته ولكنه يضعك أمام افق فسيح يكتظ بالمعاني.. ويفتح في مخيلتك براح واسع لتأويل النص والغوص في معانيه وجماليته.. حينها لا يمكن لك ان تكون محايدا لتحولك من قارئ الى جزء من النص ومتوحدا فيه تعيش اللحظة بكل ابعادها النفسية …
وانت تتجول بين تلك النصوص الثرية في معناها الباذخة في صورها الأدبية الشيقة عبر واقعية لا تنقل الواقع بحرفيته ولكنه ـ اي الواقع ـ يتحول الي نسيج ادبي يجمالايته يجعلك تعيش الحدث ولا تقرأه فقط..
وفي اقصوصة (خنفر) يقول الأديب حسين درمشاكي..
(وانسكب الشاي على الجمر مخلفا دخانا اختلط ببعض الرماد الذي بلله الشاي).
صورة مرت بالكثير منا خاصة نحن ابناء الأرياف والبوادي ولكنها كنص ادبي يجعلك ذاهلا امام دقة التفاصيل التي حولت الصورة الى عبارة بلاغية وظفت لصالح حدث القصة وابعادها … وأنت تقرا هذا النص وكأنك تشم حينها رائحة الشاي المحروق.. وتتساءل من اين يأتي هذا الشعور بقيمة النص وتأتيك الاجابة سريعا.. إنها القدرة على التقاط ادق التفاصيل التي ربما لا ينتبه اليها الكثير منا ولكن بقلم الأستاذ درماكشي تتحول الى صورة فيها روعة الصياغة وعمق المعنى..
أمام قصة (العصفور) توقفت طويلا نتيجة لما فيها من ايحاءات تعبر بك الى بر اليقين بروعة ما تقرأ.. انها قصة بسيطة في شكلها الظاهري ولكنها عميقة المعاني وذات اغوار بعيدة في دلالاتها وما تحمله من توق للحظة معانقة الوطن حتى وهو في اسواء حالاته.. تبدأ القصة بضياع عش العصفور نتيجة لتشغيل صاحب البيت للمكيف وقد صورها الأديب درمشاكي بالصياغة الجميلة التالية
(كئيبا بدأ هذا العصفور وهو يحلق جيئة وذهابا.. يطوف حول عشه مرغما، لما ادار صاحب المنزل جهاز التكييف.. ظل العصفور يزقزق وكأنه يبكي.. ويرثي لحاله.. رأى عيدان عشه تتطاير بفعل هواء المكيف).
وتستمر الأقصوصة التي لها رمزية تتعلق بالوطن على الأقل كما فهمت أنا ..فالوطن عش الجميع الدافئ ينتابنا حزن اذا ما المت به الخطوب …اراد العصفور أن يعيد بناء عشه ..فالعصفور لا يمكن أن يعيش بلا عش يأوي اليه وفيه يشعر بالانتماء وبالرباط الوجداني المتين ..يضطر العصفور ان يبني عشه مرة اخرى وفي هذه المرة بناه على قاعدة جرس الباب ..بعدها تعود العصفور أن يزقزق كلما وقف احدهم بالباب ..وكانت مكافأة رب البيت له أن بنى له بيت جميل من الخشب ..وذات مساء رأى العصفور سربا من الطيور المهاجرة .فدفعه الشوق والحنين للحاق بالسرب.. رحل معهم ولم يعد.
في هذا النص يحتويك شعور دافئ نحو الوطن وتنداح بداخلك كل مشاعر الانتماء اليه ..فالوطن حتى وإن رحلنا بعيدا عنه لكنه يبقى يعيش بين جدران القلب يتوحد عشقه مع دقاته ,,مهما كان البديل عن الوطن جميلا ورائعا ..لكن يبقى الوطن اجمل ما في الوجود فالعصفور لحق بالسرب المهاجر ربما حنينا الى وطن جاء منه ذات يوم بحكم الضرورة ..فيه ولد ..ودرجت قدماه على اديمه خطواته الأولى ..ورفت جناحاه رفيفها الأول في فضاء سمائه ..فشده الحنين اليه ..وشرع في رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر ..ولكن رغبة الوصول الى الوطن تستهين حتى بالموت …
لا يمكن لي ان اطل على كل النصوص القصصية الواردة في هذه المجموعة.. ولكنها تبقى ارثا ادبيا رائعا جديرة بالقراءة والاقتناء لتكون جزءا من مكتبة كل واحد منا.. ربما في فرصة أخرى نطل معا على مجموعته الثانية (المرأة التي تزوجت الجني).. فليغفر لي استاذنا حسين بن درمشاكي ربما لقصور في فهم المعاني أو محدودية في صياغة هذه الإطلالة على قصصه ..ولكني اردتها محاولة لتقريب هاتان المجموعتان لأذهان القراء والتعريف بهما لدي اوساط المثقفين ..والمجموعتين اعتبرهما وهذه وجهة نظر شخصية من الأعمال الرائدة في الأدب بوجه عام وفي القصة الليبية خاصة. مما يرشح كاتبها لأن يكون احد اعمدة الأدب الليبي المعاصر..
أديب وروائي ليبي
2 تعليقات
عاطر الشكر وعظيم الامتنان للطيوب على سخاء النشر وبهاء التوثيق..وشكرا من القلب لصديقي الأديب الكبير د.عبدالله مسعود أرحومة.
__درمشاكي
الشكر موصول لك