يُعيدُ كتاب (قراءاتٌ مناوئة)(1) للأديبة فوزية شلابي الاعتبار للأغنية ويبرز أهمية مكانتها في الخارطة الثقافية ومنظومة الإبداع الشعري والفني الغنائي، ويعزز دورها بالارتقاء بالحس الوجداني والمستوى الذوقي، وبث مشاعر الحماسة الوطنية. كما يعتبر دعوة لتأمل الأغنية العربية من حيث الكلمات البسيطة والنغم المطبوع بآلات موسيقية محدودة، والأداء والطقوس الطربية المكلمة لعملية نشر رسالة الأغنية سواء السياسية أو الوطنية أو العاطفية في الوسط المتلقي.
قدَّم (قراءاتٌ مناوئة) الدكتور خليفة التليسي بقوله (. … تعتبر هذه المقدمة قراءة غير مناوئة لعقل كاتبة شابة ثائرة، على درجة عالية من الثقافة والكفاءة والوعي الثوري الرافض، يبشر قلمها وثقافتها ووعيها بأنها ستكون قيمة أدبية بارزة في حياتنا الفكرية والأدبية المعاصرة. وقد استطاع قلمها أن يؤكد نفسه كأحد الأقلام النسائية الممتازة في وطننا العربي الكبير ..).
لقد تجاوزت مضامين (قراءاتٌ مناوئة) حدود الجغرافية القطرية الليبية بتناول أغانٍ وفنانين عرب من المشرق والمغرب، كما انفتحت على الأغنية الايديولوجية والسياسية والعاطفية الصادقة والنقية الخالية من المشاعر الزائفة والموسيقى الصاخبة المسكونة بالضجيج الإيقاعي والتلوث الموسيقي السمعي، فتخلصت من “آه يا ليل” ومغازلة طيف الحبيب المجهول بكلمات مبتذلة وأوصاف وهمية وألحان كلاسيكية فقدت أنغامها سحرها وجاذبيتها.
أما نماذج الأغاني التي تضمنها كتاب (قراءاتٌ مناوئة) فقد جاءت متنوعة التركيبة اللغوية وظل المشترك فيها هو التغني بالوطن والقيم الإنسانية، وجميعها لفرق فنية بعيدة عن أضواء الشهرة وبريق الدعايات الرخيصة، وفنانين وشعراء غير مشهورين أو بارزين في المشهد الفني العربي بشكل دائم متكرر، تؤدى بأدوات موسيقية تقليدية لا تحضر فيها آلات حديثة مثل “الأورج” و”الأوكورديون” والجيثار” وتعتمد على مهارة الصوت وعذوبة الكلمة وصدقيتها ونقاوتها وانتماءها للإنسان والوطن.
وسلط الكتاب الذي تناول الأغنية العربية بمنظور سياسي وأيديولوجي الضوء على أغاني فرقة (ناس الغيوان) المغربية الذي اعتبر (انّ خاصية “ناس الغيوان” علاوة على كونها قد اقتحمت الواقع العربي من قائمة ممنوعاته الدينية -في أنها قد استطاعت- وبوعي نموذجي – أن تفشل المخطط اليميني القائم على جر القوى المتناقضة معه إلى أساليب -المواجهة المرحلية- ليتمكن من كسب – الوقت – وبالتالي ليتمكن من إعادة بناء مخططه وتنظيم صفوفه بحيث يظل – الرابح – دوما! من خلال (فرض المعارك المتلاحقة) و(التغيير المفاجيء لساحات المعارك. ف”ناس الغيوان” لم تتوقف عند (الظاهرة الاسطورية) ولم تعتبر (تثوير الثقافة) بتخليصها من (اسطوريتها الراهنة) هي المقدمة الأولى والضرورية لمعالجة الأزمة العربية وإنها بالانتهاء من هذه (المهمة المرحلية) تستطيع أن تعبر إلى المهمة التالية (مهمة إعادة اكتشاف الجوهر التقدمي للدين) ولكن الذي فعلته “ناس الغيوان” هو أنها اتجهت مباشرة إلى (الدين) وأعلنت من داخله معركة المواجهة التي بدأتها (بالفضح والتعرية) فانتزعت بذلك من اليمين سلاحين..)(2)
أما فرقة (أصحاب الكلمة) التونسية فاعتبرها الكتاب بأنها (تجربة غنائية أخرى تشكل ملمحاً آخر في التجربة الكبيرة للأغنية غير الرسمية في وطن (التابوات الرسمية). كل الذي نعرفه عنها .. أو كل الذي سمحت به إمكانيات التحايل على تلك التابوات لكي نعرفه عنها .. ما قاله الشريط ذاته. هو معلوماته السريعة المقتضبة التي لا تسمح لنا بأن نسأل (من هم) (كيف بدأوا) و(من أين) ولعل هذا الشح ينقذنا من مواجهة الأسئلة التفصيلية الاعتيادية الصغيرة ويضعنا في مواجهة السؤال الأكبر الذي يحتويها جميعاً ولا يلغيها …”ماذا أضافوا”؟!)(3)
وعند إشارتها إلى فرقة (الطريق) العراقية قالت: (تفتتح فرقة “الطريق” العراقية مرحلة أخرى في علاقتها بالشعب/ بالناس/ بالمعذبين في السجون/ بالجياع/ العراة/ الحفاة/ المنفيين من الوطن إلى معسكرات الإعتقال وأسلاك الكهرباء وأحذية الفاشست حيث تتحول الأغنية، وكما أكدت تجربة الغناء السياسي العربي، من كرنفال موسيقي وكلامي، ومن دليل عمل للمراهقين، إلى برنامج عمل ثوري يمتلك أدوات التحليل التي تبدأ بإعادة صياغة الدور التاريخي لأداة الاستفهام، إذ تتحول من أداة استفهام شكلي / إلى أداة تحليل اقتصادي وسياسي…)(4)
وفي موضع آخر تضيف الكاتبة حول تميز هذه الفرقة بأن (الجديد في تجربة “الطريق” كما عبر عنه هذا الشريط الجديد القادم مع بداية الحرب، هو أنها لم تكتفِ بغناء نصوص عربية ولكنها اتسعت وامتدت لتستوعب نصوصاً عالمية فقد تضمن الشريط أغنية لبريخت هي “العائد”)(5)
وبدت تحليلات مؤلفة الكتاب لتجربة الفرق الفنية ونصوص أغانيها وطبيعة الأنغام والألحان والأصوات المنحازة للوطن على حساب الأنظمة الحاكمة والمستوى المبتذل للفن بشكل عام، عميقة من حيث دلالاتها الفكرية والذوقية ودورها الوطني وحسها الذوقي الرفيع سواء من حيث الكلمة أو الصورة الفنية والموسيقية. كما تعرضت بالنقد الموضوعي للفلكلور الديني وتأثيره في الأغنية العربية والشعبية خاصة في أغاني فرقة (أصحاب الكلمة). وقد أفرز ذلك النقد المتأسس على فكرٍ سياسيٍّ ثوريٍّ بالإضافة إلى حسٍّ ذوقي رفيع العديد من الأسئلة المشاكسة مثل: ما هي خصوصية الفولكلور الديني في الشمال الإفريقي؟ وأين وصلت أغنية المنشور السياسي؟(6)، ومن خلال تلك الأسئلة وغيرها، التي كانت محاور نقاش ثري، يتوسع الطرح والنقد ليطال ما أطلقت عليه الكاتبة (أغنية البروباقاندا) و(الأغنية المسودة) وحتى مفهوم (الأغنية الثورية) التي تعتبرها أغنية البرنامج الحضاري وليست المنشور السياسي فحسب(7).
اقتبست الكاتبة في تحليلاتها الفنية والسياسية للأغنية عدة مقاطع قصيرة من أغاني متنوعة ضمنتها صفحات الكتاب، ظهرت للفنان فهد يكن (لماذا أقدس فيك عذابي) وللفنان مرسيل خليفة (أجمل حب) و(هيفاء) وللفنانة عزة بليغ (البحر بيضحك ليه) وللفنان عدلي فخري (الحرب لسه في أول سكه) وللفنان زين العابدين فؤاد (مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر) و(شباك على الفكهاني) و(على بوابات بيروت) و(عين الحلوة) و(إحنا العشق المحارب).
ولابد عند دراسة الأغنية الثورية البسيطة من تناول تجربة الثنائي المصري الشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام حيث اعتبرت أنّ الشاعر أحمد فؤاد نجم هو امتدادٌ لنهج الشاعر بيرم التونسي في نصوصه المناهضة لسياسات الحكومة المعادية للجماهير وتشير الكاتبة إلى دراسة تناولت هذه الظاهرة الفنية الثنائية أعدها الدكتور الطاهر أحمد مكي بعنوان (بيان هام) وتقتبس منها قائلةً (أساساً لا يمكن اعتبار أعمال نجم/إمام إلاّ فناً منحازاً وهو بالتالي ملتصق تماماً بواقع هذه الجماهير فكل الحلول السياسية المطروحة لا تخرج عن هذا الإطار أبداً، ففي مسيرته هذه يتناول رموز النظام وأدواته المحلية ليشرحها كاريكاتورياً مرة ودرامياً مرة أخرى ويظهر فساد الإدارة والمؤسسات من خلالها.)(8)
تضمن كتاب (قراءاتٌ مناوئة) المقالات التالية: (قراءة غير مناوئة، حكم بالإعدام على “آه يا ليل”، تستور يا سيادي!، مولانا صرختو قريبة!، ماذا يقول “أصحاب الكلمة” في تونس؟، احذروا أغنية المنشور السياسي!، ماذا فعلوا بالفلكور الديني؟!، ما علاقة “أصحاب الكلمة” بجارية الحكومة؟!، إنها جميلة واشتراكية، حادثة، تونس وأغنية وأولاد ثوريون!!، من “ناس الغيوان” إلى “الطريق”!!، مدخل، هل تحبين الولد والوطن؟!، بسم الله والكلام عايز إذاعة!، قروشنا قليلة لكننا قد نلعب بدبابة.)، وكما نلاحظ من عناوين الفهرس أو التحليلات والاقتباسات والاستدلالات التي تضمنها متن الكتابة فإنه لا توجد أية إشارة إلى الأغنية الليبية لا من حيث الكلمات أو الألحان أو الأداء أو المضامين والموضوعات، وربما هذا يرجع إلى أن الفترة التي كتبت فيها هذه المقالات كان النظام الحاكم في ليبيا آنذاك يكتم أنفاس التعبير المعارض في كل صوره، والتي من بينها الأغنية الثورية المعارضة لسياسات الأنظمة وليست الدعائية المطبلة بإنجازاتها الوهمية. كما أن بوصلة فكر الكاتبة في هذا المؤلف كانت باتجاه العواصم العربية التي تتفاعل مع الأحداث السياسة بكل واقعية سواء في المشرق أو المغرب وليس عبر الشعارات والخطابات وأبواق الإذاعات.
يظل كتاب (قراءاتٌ مناوئة) متميزاً بتخصصه في نقد الأغنية العربية الشعبية من منظور وأيديولوجي وسياسي ووطني وليس من زاويا تقنية وفنية موسيقية وبالتالي فإن هذه الخاصية تمنحه تفرداً .. يليق به.
هوامش:
(1) قراءاتٌ مناوئة، فوزية شلابي، الدار العربية للكتاب، ليبيا – تونس، الطبعة الأولى، 1984م
(2) المصدر السابق، ص 19
(3) المصدر السابق، ص 28
(4) المصدر السابق، ص 65
(5) المصدر السابق، ص 66
(6) المصدر السابق، ص 42
(7) المصدر السابق، ص 54
(8) المصدر السابق، ص 86