محمد دربي
“نارك ولاعة يا بلادي”:
من أعقد الأشياء في المجال السياسي الكذب وما فيه من باطل صريح قد يؤدي إلى التراوح بين السّحر والتقهقر، فالسّحر يظهر على نحو الأنبهار بالكلمة والتغني بها على نحو “دوس على الرجعي والخائن” الصادرة عن “القائد” في خطاب إزوارة، في حين التقهقر لا تجد عنه حولا فهو يأخذ بوعي الفرد إلى الهدم الكامن فيه قوة التذلل والطاعة وعلى الدوام. ففى كلا الحالتين فأنت معرض للانغلاق وتحويل الواقع إلى التخييل والخيال بعيداّ عن أيّ فكرة سياسية نغتر بظاهر العبارات فيها على نحو: “غالى لشعبك غالي”. والكلمات هذه حين تلحن نغماً تخدر الذّهن، لكن الذهن لا ينتبه أنّ الكلمات قد تغالبها كلمات أخرى في ثناياها فكرة حلم “الثورة”، فالنار لابد لها من دخان إنْ طال الزمن أو قصر. وقديما قال الشاعر الليبي: “نارك ولاعة يا بلادي” في شهادة واضحة على ألاستمرار في غياب ” دولة القانون”.
التوفيق بين المعاني:
التلاعب باللغة يمكن أنْ يعكس طبيعة النظام السياسي من أقصى اليمين إلى اقصى الشمال، مثلاً في حالة المجتمعات الشمولية يمكن أن تكون لغة السلطة على المستوى الأعلامي أحد اهم وأخطر الوسائل التي تشكل وعي الناس وتطوف بهم خرافياً في عالم الخيال المنفتح على الوهم والخرافة والمبالغة إلى درجة أنْ يختفي عندها الحقيقي من الزائف والتي بدورها ينتج عنها الشك وعدم التأكد والغموض والتحقق منها والتي بدورها تؤدى إلى فقدان قوة الوعي الذي هو باب المذلة إلى حد يتوهم المجتمع أنْ الأمر لا يعنيه.
التمييز المعلق:
مفتاح اللغة في هذه المجتمعات هو خلق قدر كبير من عدم الوضوح اضافة إلى صعوبة التمييز في الكمات والعبارات المستخدمة بين الوهمي والحقيقي حتى يصعب على العقل المجتمعي والنظام الذهني المصاحب له التمييز بين ما يمكن أن نستنطقه ونستنبطه. إنّ عبارات كثيرة يصعب توضيحها ككلمة ومفهوم “البيت لساكنه” بمعزلٍ عن الأهداف أو الغرض الذي تراوغه السلطة والنظام الحاكم. ففي هذا المفهوم يكمن التحريض الواضح على السطو على املاك الآخرين والذي نتج عنه تاريخياً الهلكة لأملاك الناس في رتبتها العليا غير العادلة اجتماعياً.
الحالة الطبيعية:
في الحالة الطبيعية الكلمات والعبارات السياسية تكون مباشرة ولا غموض فيها وهذه حالة نادرة حتى أنّها لا تخلومنها المجتماعات المتقدمة والتي لها باع كبير في “الديمقراطية” فالرئيس الأمريكي السابق “ترامب” خلال تغريداته وخطابتها كان يردد بأنّ هناك “أعداءً للشعب” بين الأمريكيين، وكان يقصد بهم النخبة الليبرالية، ويجب تجفيف “مستنقعاتهم” بهدف أحياء “أمريكا العظيمة مرة أخرى”، وهي التي ظنّ اتباعه ومؤيديه هي جزء من الحرب الثقافية القائمة في أمريكا وبالتالي ينبغي عيلهم دعمها والوقوف في صفها طالما هي حرب ضد “أعداء الشعب”، والشيْ المذهل أنه نجح في ذلك وفي ترسيخ كلماته في عقول أغلبية مؤيديه والأيمان بها إلى حدّ أنّهم أقتدوا بما يقوله ” ترامب” أقتداءٍ عميانياً أدخلتهم في غفوة مُظلمة، على عكس الحالة الشمولية إذ الكلمات والعبارات لا نجد لها أي علاقة بالواقع إلا فيما ندر لدرجة أنّها تتحول هي ذاتها إلى الواقع غير الموجود اصلاً ومن خلال غياب الوعي والطاعة يصدق الناس أنّها سلطة مثالية بريئة، وبالتالي ينتج عنها معاني بديلة وربما وصل الأمر إلى عدم تعبيرها غالباً عمّا يدور في أذهان الناس.
غموض الكلمة:
هذا الاستخدام المبهم للكلمات في مقدورها أنْ تجعل الخطاب الموجه للناس خالٍ من التوهم والتزوير وسط ما يخدم أهداف “القائد” أو الرئيس بأن في العبارة تكمن فيها صراحة جليّة عدم الكذب بأستخدام التراكيب اللغوية يكون المعنى فيها مُبهم ولها استراتيجة الغموض بهدف يسمح لمن في السلطة الساسية الحفاظ على مركزهم في “الدولة” ومن ثمّ تحاشي أي مشاكل تصدر عن الناس كالعصيان المدني.
عثرات الوعي:
فعندما رجل السياسة المتعمد الكذب يستخدم كلمات ترفع من درجة فقدان الوعي وتزيد من هياج العاطفة عند الناس ورسوخها بسهولة في أذهانهم، على أنّها فيما بعد سيجنى منها خيبة الأمل كالوعد الذي تقدم به سياسي ليبي خرج من رحم “الجماهيرية” بأنْ كل فرد في المجتمع –دون استثناء ذكر وأنثى- ستكون لديه طائرة خاصة يمتلكها ويفرّ بها حيث يشاء ويرغب ويخت بحري كبير يجوب به شواطئ العالم عندها تزول ملكة التفكير النقدي لدي الناس.
ما ينطوي على الخطاب من مفارقة:
إنّها حالة حدثت في ليبيا في القرن الواحد والعشرين وكان لها من الوضوح في أنْ قابلتْ كلمات الرجل السياسي الوهمية –بحق- قبولاً عاصفاً من التصفيق والتهليل، فالجماعة وجدت القائد المُلهم، والقائد أستراح للجماعة، فما الضيرمن التلطف بالعبارات التي تفهم عقول الناس دون أنْ ينتبهوا إلى الأشواك الكامنة فيها، واللغة ذاتها التي أستخدمها السياسي الليبي في خطابه لا تعتمد على حجة بارعة ولا التفريق بين الشبهة والتحقق قدر اعتمادها على عثرات الوعي عند الناس والتخلي شبه الواعي عن نعمة التفكير. فهل أستطاع السياسي المتحذلق أنْ يفهم الكذب واستعماله الذي لا ينقطع بمعزل عن السلطة؟ أو أنّه يُجيد شؤون المناورة التي لا يمكن تجاهلها؟