محمد دربي
قيل: “من تكلّم قتلناه.. ومن سكتَ مات بدائه غماً”
انكار الوجود الإنساني عملية سهلة عند المتفلسف حالما يتعلق الأمر بكينونة انسان بسيط لاتعلو علو مقام الفيلسوف معرفياً وفلسفياً وتعليمياً من قبل ومن بعد. تجاهل هذه الكينونة من قبل هذا المتفلسف أو ذاك المؤرخ على أنّ ليس لها ” هوية وطنية ” كبقية الهويات الأخرى الهائلة، أو تجاهلها حسب المعيار الذهني للمتعلم الذي لا يجد طراز هذه الهوية المتعالية، أيّ “الهوية الوطنية ” التي يتماهى معها إلا عند أولئك الذين من هم من أقرانه أو مُريديه، أي عند أصحاب المعرفة والعلم والشهادات العليا وأقلام المقالات الثقيلة؛ والذين يكيلونه مدحاً ويكيلهم مدحاً. ماهو إلا تعسف فكري متعالٍ إذ تغدو الكينونة البسيطة الفطرية التي يتجاهل وجودها الفيلسوف لا حظ لها عنده فلسفياً وفكرياً في الحق في الوجود وفي الهوية الوطنية. وأغلب الظن أنّ الهوية الوطنية عند هذا النمط من التفكير مجرد فكرة مصوغة على نحو فلسفي مُتحازب وضيق الأفق ومتشرذم ولا تشير بمعيار موضوعي إلى أيّ شيء في معنى الهوية المتعدد الدلالات إلا إلى ما يتطابق ويتماهى معها ثقافيا ومهنياً وأكاديمياً.
هل يمكن أن نفهم ماهية ” الهوية الوطنية” خارج رضى وعطف الفيلسوف والمثقف اللامع؟
خلافاً لمعنى الهوية عند المتفلسف أو من يعرفها حسب العرق والجهة أو حسب الجهة والمكان، فثمة من هوية أخرى بسيطة للغاية وعميقة في معناها ومنسجمة مع ذاتها عفوية ناتجة عن إرادة مستقلة؛ تجسدت في اِنسان بسيط للغاية، تجسدت فطرياً في مُزارعٍ بسيط كان يفلح ويعتني بسانيته فرحاً من بين “سواني” الجبيلة الجميلة في مدينة درنة. اسمه سي امنيسي، بسيطٌ للغاية، مرحٌ بصدر رحب، ولم يكن يحفل بغير الارتباط بحقله من تنفس الصبح حتى لحظة نزول الغسق.
- سيدي ” امنيسي” مزارعٌ عاش حياته في سانيته بهوية الحياة، فلم تكن هويته الوطنية تخضع للمعايير والمقاييس المحدودة المتحيزة المنغلقة على ذاتها والتي لا تقول أي شيء مفيد، كان يعيش ليكسب من عرق جبينه وجسده وفكره البسيط ولم يكن يجيد القراءة والكتابة ولكنه يستطيع أنْ يروي ” تجريدة حبيب” عن ظهر قلبٍ، فهويته كانت هوية الحياة ذاتها، الحياة من أجل الحياة، ولم تكن لقباً مُرفهاً، فاللقب عنده لا يصنع الهوية، الحياة تصنع الهوية وليس المعيار التجريدي الفلسفي. يتشاغل بأمر حقله ولم يتألم لحظة بأنّه لم يكن فيلسوفاً أو حُجة في علوم البلاغة والنحو ولم يكن عضواً في مجمع اللغة العربية بقدر ما كان عامر العقل.
- لم يكن سي امنيسي يتبع حكمة فيلسوف أو معرفة أي مُتعلمٍ مثقفٍ أو كاتب مقالٍ منمقٍ ، ولم يكن من أحد المتخرجين من الجامعات الأوربية أو الأمريكية الكبرى أو أيّ شيء يصدر عنها من تكريم ، ولم يكن شاعراً يُشار له بالمدح والتمجيد ولم يكن روائباً كبيراً ذائع الصيت ولم يكن مؤرخاً مُخضرماً يعرف أسرار التراث وعجائب التاريخ ، ولم يكن مثقفاً بارزاً أو محامياً ضليعاً في القانون ، ولم يكتب كتاباً في نظرية المعرفة أو فلسفة العلم أو في الجعرافيا أو أصل الأعراق أو أي كتابٍ عن الشخصية الليبية ولم يكن مناضلاً يسارياً أو يمينياً ، ولم يكن فقيهاً يحفظ القرآن ولا علم له بدلائل الخيرات ، ولم يكن أيّ شيء من ذلك الذي لاتقاس الهوية الوطنية إلا به .
- سي امنيسي مزارع هويته أنّه مزارع تساوى عنده الصفصاف والتين ، هويته تصدر عن وجوده الإنساني وعينه على حقله شغفاً ، إِنّه يفلح الأرض متنقلاً بين المشاتل مرحاً ، ويعرض سلعته للناس لاحقاً، وجهه ونيسٌ ضاحكٌ ؛ هويته الوطنية أنّه يتماهى مع حقله ومع ما يزرع ويحصد ويجني ، هويته لا تقاس بشهادة عليا أو منصبٍ كبير في الجامعة أو لقبً سياسي أو اكاديمي أوعيادة طبية أو مكتب مُخماةٍ ، فهو لم يكن اسماً لروائي كبير أو شاعر ” مناضل” أو كاتب مقالة آسر ، فهو لم يكن اِنساناً على غير ما كان عليه بسيط في نقاء نسيم الفجر ، هويته كانت تعبيراً عن حريته في الحقل ، كان يُمارسها وجودياً ولم يكن يخاطبها فلسفياً او عرقياً أو جهوياً ، كان يعيشها على ما عليه عيانيا لأنّه كان يتعامل مع الأشياء الملموسة المعمورة بالحياة. لا يعرف الحيرة والخوف حريصاً على التّبسم في وجه تقلب الأحوال. لم يكن يعيش في زمانٍ غير زمانه، جمعته بالناس أرض واحدة، وأظلته سماء واحدة، ملامحه هي ملامحه لم تغيرها أو تبدلها صنوف الأشياء البراقة والفخفخة المتعجرفة.
- سي امنيس كان انساناً يحس ويشعر ويفهم ويحلم ويطرب ويحزن، كان يحتمي من المطر ويبقى في العراء الصاهد متنقلاً بين المشاتل والترع، هويته كانت كفايته مما ينتج لذاته وللمجتمع، كان يشترك فيها مع منتوج السانية ومع الناس وللناس مع الجميع. يركض في وقوفه ويقف في ركضه. كان وجوده مرتبطاً بالأرض بتوقير ما ينتجه ويزرعه غير غافلٍ عن أهميته للناس. فلم تكن هويته منقسمة ولم يكن فيها اِغتراب ولم تنادي بالويل والثبور على غرار ما يفعله الفيلسوف، فوجوده الذاتي كان يعني عدم اغترابه عن المكان الكيان الذي يعيش فيه.
- سي امنيسي لم يكن يحتاج إلى وعي ذاتي فلسفي بهذه الهوية أوإعداد رسالة دكتوراة في معانيها المعرفية والفلسفية والتاريخية ولم يكن بحاجة إلى شهادة اعتراف بهويته من فيلسوف أو مؤرخ أو مناضل مغوار ، فهو سابقٌ عليها ، ولا تشغله إنْ كانت تلك ” الهوية” مسألة سياسية أو انطولوجية أو ميتافيزيقية ، لذا كان يعرف كيف لا يفقد هويته الفطرية ولا يحس بالإغتراب ولا تمس كينونته علة ، هويته في وجوده الإنساني ذاته ، هويته لم تكن بديلة عنه حتى يشار اليها بشهادة ماجستير أو دكتوراة أو براوية أو بكتاب أو ديوان شعر أو ايّ شيء آخر، أو محاضرات في الجغرافيا والإقتصاد والتاريخ والتراث واللسانيات. هويته لم تُحصر في صندوق الأقران الخاضع للأهواء العشائرية والفئوية والأكاديمية، هويته مؤمنة بالأرض وما تنتج الأرض بصبرً طويل وبكدح جسدي وذهني متواتر.
- لم يفكر في هويته أو يتبجح بها بل كان يعيشها ومن ثمة لم يكن هناك تناقض بينه وبينها فهي واقع وجودي حسي ، هويته لم تكن خارج وجوده اليومي فلم تكن الفاظاً تجريدية ذات معانٍ ودلالات فلسفية وهمية مستقاة من من الفكر المجرد، هويته كانت وجوده الأصلي قبل أن يُخترع افهوم الهوية الوطنية ذاته ، كان يعرف كيف يفرق بين الماء الآسن والماء الآجن ، يناجي الغمام في يوم شتوي ويناجي الصحو في يوم ربيعي ، أما اِطار هويته الوطنية فهو الناس وليس خارج الناس وليس في قسم من أقسام الحامعات العُليا، هويته حرة تخرج عن قفص الخاصة إلى رباح العامة . فلم تكن هويته تخضع للتقسيم الجهوي أو العقائدي أو الفئوي العشائري أو العرقي، هويته كانت وجوداً يتجلى فيه الوضوح والبساطة.
- سي امنيسي كان مواطناً مخلصاً، يزرع حقله مترجماً ما في عقله إلى الواقع قائماً فعلياً يطوره ويرتقي به، ادواته تربة الأرض والمحراث والسماء والساقية، فالسانية هي مكانه المقدس بأشكالها المادية والمعنوية والتي تشكل المعنى الجوهري لإنسانيته، كان يعيشها كما ينبغي أن تعاش. كان يؤدي نشاطه اليومي بهمة لا تكلّ حسب طبيعته البشرية واجتماعيته الإنسانية، فلم يكن ثمة فصلٌ بينه وبين الوطن أو في اختزاله في تعريفٍ مغلق يعني القلة في تقسيماتها المختلفة، فهويته كانت خارج نطاق التعصف الفئوي وخارج عن أسمال براقع الألقاب التشريفية.
- انتماء سي اميسي للوطن ليست حالة طارئة أحدثتها رحلة تعليمية خارج ليبيا لنيل شهادة عليا او نيل أرفع الدرجات الأكاديمية ، بل وليست حالة هامشية ، فانتماء سي امنيسي لا يخضع للمنحى الفلسفي و اللغوي او العرقي او التاريخي او الاديولوجي ، فلا ينطلق من مفاهيمٍ مجردةٍ ، هوية سي امنيس تعني بنشاطه المجتمعي لذا فلا يجادل عن معنى الهوية أو عن الوطن المتخيل في الأذهان وليس من شأنه التحيز الفكري للأقران وأصدفاء العلم والمعرفة و ” الإبداع” وتبادل رسائل الود والمديح المبتذل فيما بينهم ابتهاجاً به بالكلمات المزورة .
- سي امنيسي لا يقوم بعملية تقليص ” الوطن” على مقاس واحدٍ يتسع لجهوية بعينها كأن القول بـ ” الهوية البرقاوية ” أو على حسب مقاس المراكز التعليمية ومختلف العلوم الإنسانية وأيّ علم آخر من العلوم، فهوية سي منيسي تكمن في فلاحته أرضه حسب كينونة وهوية اتساع الوطن. فهويته اِنسانية لأنّه يتأسس عليها بنية المساواة والإنسانية في اسمى معانيها بينه وبين الناس والمجتمع والسواني المجاورة.
- هوية سي امنيسي ليس فيها تعصب ممنهج لإقصاء الآخرين، فهو بفطرته الوطنية البسيطة لا يقوم بتهميش الناس في المجتمع ولا يقوم بتفضيل قلة من القرناء على بقية افراد المجتمع، فهويته مستمدة من مستوى أعلى من المستوى الأديولوجي الثقافي الفلسفي المتعالي على الناس، بل أنّ شرعية ” الدولة” أو البلد ذاتها تستمد وجودها من شرعية سي امنيسي وليس العكس فالوطن لا معنى له بدون انسانية سي امنيسي الفطرية، فسي امنيسي أصله اِنسان وهدفه في حقله الإنسان وحسب.
- هوية سي امنيسي متجذرة في بيئته الإنسانية الحقيقية في الحي الذي كان يسكن فيه ويقطنه وفي السانية التي كان يفلحها ويعتني بها جلّ الاعتناء، بيئته كانت منظمة بشكل اجتماعي تقليدي بسيط، فهو لا يخالف ولا ينازع العرقي أو القومي أو الديني أو الأديولوجي أو الجهوي أو العشائري القبلي أو حتى الحكومي أو السلطان السياسي، فهويته مقترنة بهوية الإنسان العليا كإنسانٍ قبل كل شيء، فليس ثمة تناقض بينه وبين هويته في وطن واحد؛ هويته لا تتعارض مع مصلحة الناس والمجتمع بأسره والدولة. لم يقع فريسة الوهم والهوى حتى يسأل إنْ كانت له هوية.
- سي امنيسي ينتمي إلى ثقافة جماعية انسانية ويندمج في التاريخ المشترك وينسجم مع العيش المشترك فهو كائنٌ حي بالإشتراط الوجودي الإنساني قبل الأكاديمي والأيديولوجي، فإذا كانت الهوية الوطنية الجامعة هي الأساس الذي تبنى عليه البلاد أو ” الدولة”، فإنّ سي امنيسي هو رافد هذه الهوية وليس منفصلاً أو منعزلاً عنها. هويته مجتمعية ليست منقسمة أو منفصلة عن كينونة وكيان البلد أو أسيرة صندوق أكاديمي أو عرقي أو جهوي أو ثقافي تعليمي بعينه. لذا فهويته الفطرية هوية كونية أعمق وأشمل.
- هوية سي امنيسي لا يظهر أثرها الثقافي والفكري والإجتماعي والسياسي و الأفهومي في بوابات الإعلام المقثرنة بالنرجسية و اللصوصية في جانبها الأقتصادي وفي مدرجات الجامعات ، بل يظهر أثرها في كنه الأرض ذاتها وجوف الأرض وما يخرجه سي امنيسي من ثمار ، وإذا كان التاريخ والثقافة والمكانة التعليمية والسياسية والقانونية والطبية وكل التخصصات الأخرى المرحة المتعالية تعبر عن الوعي الجمعي في الهوية الوطنية ، فإنّ هوية سي امنيسي ظاهرة كونية متجذرة في الوطن ، فهو اصلاً لا يشغله أمر الإعتراف بوجوده بين خلان و أقران الثقافة ، ولا يخطر على باله تقسيم الناس إلى أقسام منفصلة ، بل لم يكن له ربطاً للتفوق التعليمي أو المهني أو التزين بأعلى الشهادات التعليمة بالهوية الوطنية ربطاً ميكانيكياً حتى يكون المرء يحظى عند الفلاسفة بالهوية الوطنية. سي امنيسي كان يركز على المعطى الواقعي وليس على افهوماً لا يعدو أن يكون ستاراً خادعاً يغطي أقران الثقافة المتميزين.
- سي امنيسي عاش بعزة وكرامة غير منقوستين ، وبهوية لم تنفصل عن مصلحة الناس من حوله ومصلحة المجتمع بأسره ، كان له توازنه النفسي ولم يفتش عن الإجابة عن معنى الهوية الوطنية ولا حتى الشخصية الليبية ولا يحفل حتى بمن يكتب عنها ، استقراره الذاتي بهويته الإنسانية كان يكمن في ممارسة حياته اليومية ، فلم تكن لديه ” أزمة هوية” منشطرة عن ذاتها ، بل الشرط الإنساني كان قد وجده في سانيته أيّ في حقله الزراعي بالذات الذي جعله يعيش ويزرع ويفلح بهوية الإنسان وليس بهوية الفكر التجريدي أو هوية أقران التماهي الفكري ، كان من دون فلسفة يدرك ما هو جوهره الإنساني بهويته الوطنية البسيطة خارج نطاق مفهوم الوطنية الضيق الذي اخترعه الفلاسفة والاديولوجيين تحزباً لإقرانهم و شيعتهم ، فلم يكن من أهل النزاع والكيد الفكري والتستر، والمداهنة والنفاق الأكاديمي.
- سي امنيسي كان حراً طليقاً خارج أنظمة تفكيرنا المُذهل وأنظمة تعصبنا الفئوي وجسارته المتحيزة، كان باباً مشروعاً لتذوق الحرية وكان أكبر من الشهادات العلمية وزخارف الألقاب.