طيوب عربية

المُدلَّلة

(الكرسي) من أعمال التشكيلي الليبي عبدالجواد المغربي
(الكرسي) من أعمال التشكشيلي الليبي عبدالجواد المغربي

أمام السلم المؤدي للدور الثاني وقفت جدتي تنادي علي أنا وإخوتي الخمسة.

سبقتنا أمي ونزَلت درجات السلم مسرعة ونحن من خلفها، نظر ْت لنا جدتي بتمعن، قلوبنا واجفة تنتظر كلمات جدتي، ولماذا هذا النداء المتواصل؟

لكن علامات الغضب كانت بادية على وجهها مما يد ُّل على مصيبة تلوح فيَ الأفق، كسَرْت أمى ذاك الصمت الذي أطبق على صدورنا، حينها قالت أ ِّمي: خير يا حاجة، ما الخبر؟

أشارت جدتي بيدها إلى القنديل المعلق َّعلى الجدار وقالت: لثالث مرة يكسر ذلك القنديل، لقد غضضت الطرف عنه في المرتين السابقتين، ولكن هذه المرة لن تمر على خير، على المذنب أن يقدم نفسه ويعَترف بفعلته قبل أن تنتصف الشمس في كبد السماء، وإلا فالكل معاقب.

 صار الهواء راكدا بفعل كلمتها، التفتت أ ِّمي وقد جحظت عيناها، وقبل أن تنطق بكلمة أشارت لي جدتي بالنزول إليها، كنت الطفلة المدللة رغم أِّني لم أكن الكبيرة ولم أكن بالصغيرة، كنت الوسطى بين البنات والبنين، شاركت جدتي بالنزول، وتلك الإشارة  كانت تَحْمل معنى أني بعيدة كل البعد عن ذلك الاتهام أو حتى العقاب، استندت على كتفي الكليم المخطط، وبين يدي صينية القهوة .

خر ْجنا من باب البيت عدة خطوات، وقفت جدتي، وأخرجت من جيب الجلابية مفتاح الحديقة، دسته بداخل القفل، فتح الباب ودخلنا، وضعت ” الكليم ” على الأرض، جلست وجلست بجوارها، وأمامنا الصينية، أشعلت الموقد، ووضعت الكنكة عليه، ونظر ْت إلي وقاَلت: َمن تظِّنين أَّنه فعلها؟،مططت شفتَّي دليلا علي عدم المعرفة، ظَّلت تتمتم بكلمات غير مفهومة على الإطلاق ثم قالت: سوف نعرف بعد قليل .

صبت القهوة وأخذت ترتشفها على مهل، كنت أنظر إليها بتر ُّقب شديد حتى اقتربت من إنهاء القدح، ابتسمت وأعطته لي، أمسكت به وأنا أشعر بنشوة جديدة، ارتشفت الباقي فيه على مهل مثلها. كانت جدتي منغلقة على نفسها مثل صندوق امتلأ عن آخره بالأسرار، لم نشعر بالحرارة ونحن نجلس في ظل الأشجار؛ فشمس الخريف

حانية، ونسمات الهواء تمر لطيفة محملة برائحة الورد والريحان الموجود بالحديقة، مر وقت طويل دون حديث، ولكني كنت أعشق صمتها، فجأة همت بالوقوف وقالت: لقد حان الوقت، تو جهنا إلى البيت لأجد أ ِّمي وإخوتي في انتظارنا، جلستَّ جدتي على أريكتها المفضلة الموجودة في صدر البيت وإخوتي يقفون صفا في عيونهم دموع متمردة لا تريد أن تنهمر.

صاحت جدتي بصوت مرتفع: َمن فعلها؟؟؟ رَّد أخي الكبير: لم يعتر ْف أحد. قاَلت: إذن كُّلكم معاَقبون.

رأيتهم واحدا تلو الآخر يضرب على قدميه، وأنا أجلس بالقرب من أريكة جدتي لا أبالي، أشعر أني َمدينة بالاعتذار مرتين: مرة لإخوتي الذين يتلقون العقاب مكاني، والمرة الثانية لجدتي؛ لأَنِّي كسرت القنديل ثلاث مرات ومازلت أفكر في كسره مرات عديدة.

هذا الاعتراف سوف يظل بداخلي؛ فالأقوياء لا يجيدون الاعتذار.

مقالات ذات علاقة

يحيى عياش ذكرياتٌ في بيرزيت جميلةٌ وأيامٌ بديعةٌ

المشرف العام

شمس الحياة قمر الأمل

المشرف العام

معزوفات سولو للأول من نيسان

المشرف العام

اترك تعليق