محمد دربي
الحروب في هذا العالم متواصلة وبشراسة لا حدود لها، الانحباس الحراري وتأثيره على الأنسان، الكُره بشتى انواعه.. والتناحر يزداد تناحراً ولا يهدأ ويغير ميازين الطقس الصحيحة أو المُفتعلة ، والهجرة تتفاقم وتنبئ بالخطر والمصاعب الكثيرة المستعصية على الحل، والتعصب الديني والعرقي والأيديولوجي والجهوي والقبائلي الذي يجافي العقل والمنطق؛ والتفرقة العنصرية بشتى انواعها منتشرة كالنّار في الهشيم، الخدمات الصحية باهضة الثمن ولا يقدر على تكاليفها إلا قليل من الناس.. وأيما مشاكل أخرى قد يمكن الإشارة اليها تباعاً على أنها متواليات لا تتوقف ولا تهدأ؟ في لحظة واحدة نرى العالم كما يراه الآخرون أو نعتقد أننا نراه كما يراه الآخرون ونرى أنفسنا داخل دوامة من الواقع غير مطابقة لحدودها الزمنية في التقييم و التفكير.
(1)
كل هذه المشاكل وأيّ مشاكل أخرى قد ينتج عنها أو يتزامن معها أزمات خانقة يصعب أن يوجد لها من حلولٍ فاعلةٍ ما دام ليس هناك أي تعاون جماعي مجتمعي مدروس بدقة في بنية المجتمع الإنسانية بشكل عام وفي بنية المجتمع الليبي بشكل خاص، وهكذا فهي مشاكل تحتاج إلى جهود كل مكونات عناصر المجتمع البشرية والتي تختلف في الرؤى والثقافة والعرق والإعتقاد إلى حد التجافي والتصادم والتحارب.
(2)
ففي ليبيا مثلاً: مصالح مختلفة ومعنقدات متباينة ومتضاربة وإتكال على السلطة والنفوذ والإستحواذ المالي فضلاً عن تفرّقٍ في التوجهات السياسية والإجتماعية والثقافية بوتيرة عدائية لا تنتهي ولا تكل: القتال، ونهب المال العام والتصادم والقهر والطمع والأنانية الخرقاء، وغياب المجتمع المنظم سياسياً، والحفاظ على ما هو قائم لخدمة مصالح ذاتية من قبل شطار البلد والتي تؤكدعلى عدم جدواها انسانيا واجتماعياً بل تؤكد على غرورها وأنانياتها في سلوك طائش لا يهتم بشأن البلد أو الناس.
(3)
من الصعب ايجاد أيّ حلول عملية لمشاكل المجتمع وبناء دولة “حديثة دستورية” ما دام المجتمع غير مفتوح عقلانياً وفكرياً ومعرفياً وغير قادرٍ على تحديد أهدافا مستقبلية ينبغي الوصول لها مع وضع الكثير من الإفتراضات المنطقية للإنطلاق منها أفهومياً لفهم ودراسة هذه المرحلة الحرجة في التاريخ الليبي التي تنبئ بمزيد من التدهور والتخبط، فضلاً عن غياب المشاركة الجماعية عملياً ومعرفياً من أجل ايجاد الحلول الناجعة والعملية لها و إتخاذ القرارات بشأنها.
(4)
لا يكفي أن يدعو أحداً بذاته أو بمفرده بمقالة أو فلسفة أو حتى أن يحاول تقديم “الحلول النهائية” بمفرده، وليس بمقدور حزب واحد مهما كثرت عدته وعتاده القيام بذلك، وليس بوسع قبيلة أو عشيرة أو زمرة ثقافية واحدة او عائلة كبيرة أو مجموعة من المثقفين البارعين أو ايما منظمة أو مركز بحوث ما لم يقتنع المجتمع برمته بأنّ ثمة أزمة جماعية ومجتمعية ومشاكل كثيرة متعددة ويقتنع من جدوى وجود الحلول لها فوق خلفية تعدد المشارب الفكرية واليديولوجية والتعدد الثقافي والعرقي والعقائدي والسياسي وذلك بالإنصراف إلى دراستها بتحليل التجارب الليبية السابقة منذ الاستقلال حتى الآونة الأخيرة والتي باءت بالفشل تباعاً منذ ما يقرب إلى قرنٍ إلا الربع من حساب الزمن والدهر.
(5)
لا ريب بل ولا شك بأنّ ما ذُكر في هذا السياق إنْ هو إلاقليلٌ من تحصيل حاصل وبديهي للغاية بل واضح للجميع ولا يغيب عن ذهن أحد يتابع المأساة الليبية لا سيما المثقفين والمتعلمين والمتنورين والمحليلين السياسيّن وأهل التخصصات الاجتماعي والسياسية والفلسفية وحاملي الشهادات العلمية والمعرفية العليا وخبراء الأمن وخبراء التاريخ والأقتصاد و ” الأثنوبولجيا” والثقافة والفن والأعلام. ومن في حوزته تقديم دراسة فاشلةعن المجتمع الليبي يحسب أنها تحدد ” الوقائع و التحديات و الحلول ” كان قد عجزت للوصول إلى تلك ” الحلول”.
(6)
ولكن ثمة شيء غير واضح ومثير للإنتباه ويجدر الأعتراف به مسبقاً وهو: لماذا أهل الخاصة بالذات غير قادرة على التعاون والتقارب لفهم واستيعاب وتمحيص هذا الخلل الليبي المزمن والمتواصل لعقود طويل لفك رموزه والغازه حتى يمكن الوصول إلى ايجاد الحلول السريعة والعملية لتأزم هذا المجتمع والظروف المحيطة به؟ لماذا كل فريق على حدى يعتقد أنه مالك مفتاح فهم و تشخيص الحالة الليبية أم غيرها أقل ما يقال عنها إنها تحليل ” استعماري” للواقع الليبي.
(7)
لماذا لم يتم أيما تنسيق وتعاون جاد ومستمر بين أهل الإختصاص وشرائح المجتمع الأخرى كرجال الأعمال والفنون والثقافة وعلماء الدين ووالأجهزة العسكرية والأمنية من ايجاد مخرجاً من هذا النفق المظلم الذي يمر به هذا البلد في حالة غامضة ملتبسة كأنه يغرق في بحر التشتت والكآبة؟ لماذا المجتمعات المتطورة لديها “دولة حديثة عصرية دستورية” تمتلك مقومات التوافق والتطور والإزدهار خلافاً لهذا البلد المنكود وذلك لعقود طويلة ومنذ القول الشهير: “وتعمل حكومتي على”؟
(8)
لماذا لم يتوفر بعد في هذا البلد التخلص من ضاهرة عبادة الذات والتوجه نحو التواصل العقلاني بين جميع عناصر النسيج الإجتماعي وبين كل مكونات بنية المجتمع الليبي للتعاون لدراسة طبيعة مشاكل هذا المجتمع حتى يستطيع هذا المجتمع ذاته بمعونة أهل المعرفة والتخصصات العليا أن يتحكم في مسار مستقبله لوضعه في طريق يقود للأفضل المزدهر المتراكم من جيل إلى آخر؟
(9)
هل هناك فائدة من مجتمع أو بلدٍ يسعى إلى التقدم والإستقلال والإزدهار ما لم يكن هناك حُسن نية وقناعة صادقة بجدوى التقدم والإزدهار؟ وفي هذا السياق لا ينبغي أن نشعر بالضيق والإحباط عندما ندرك بأن الحكمة السياسية ظاهرة مفقودة في ليبيا من بدء حقبة الإستقلال.
(10)
هل هناك فائدة من سلوك المفكر والمتخصص والخبير السياسي والثقافي والمعرفي والإعلامي وأحد فرسان المقالة والتحليل ليترك له الميدان له كي يصول ويجول فيه عاجزاً على معرفة ووصف ما قائم بل على يقرر للمجتمع ما يجب أن يكون بنظرياته الفارغة من كل مضمون والذي يعتقد في تفكيره وحسب كأداة تطور وتقدم تتفق مع أفضلياته والتي في المطاف الأخير تعمل لأجل نصرة رؤيتة السياسية والأديولوجية والنفعية وحسب.