كان لقائي بالشاعر إدريس ابن الطيب في مدينة درنة العام 1988، على هامش مهرجان الأسطى عمر برعاية منظمة اليونيسكو، حين أخبرني صديق أن إدريس يسأل عني…
لم أكن أعرفه قبلها ولم أتوقع أنه سمع باسمي حيث لم يمض سوى فترة قصيرة على خروجه من السجن، لكن عرفت أن سبب سؤاله عني يرجع إلى قصيدة لي نُشرت في العام نفسه في مجلة الناقد اللندنية بصحبة قصيدة له، وكان الشعر ميعادنا الأول وصديقنا المشترك الذي عرّف بيننا.
من الملفت أن تلك القصيدة التي كتبتها قبل سنوات (حين تصحو.. حين تموت) رسالة إلى أصدقائي السجناء المثقفين الذين لم يسبق أن التقيت بأحد منهم. حيث أني العام 1987 مكثت شهرا في مدينة بنغازي مع الصديق الكاتب عبد الرسول العريبي، حين سألته مرة عن مثقفي بنغازي، قال لي: المثقفون والمبدعون الخقيقيون في السجن يا سالم، وبعدها اصطحبني إلى بيت الشاعر محمد الشلطامي وبيت الكاتب خليفة الفاخري.
كنت من الجيل الذي تفتح على وسواس الشعر وأسئلة الثقافة بداية عقد الثمانينيات، حيث وجدنا الساحة شبه فارغة لأن الجيل السابق الذي من المفترض أن يشكل جسرنا نحو الأجيال الأسبق ونحو الحداثة كان كله في السجن بشروط الثورة الثقافية التي اعتبرت تغييب جيل الاستنارة نوعا من التطهير، كما وجدنا المكتبة شبه خالية من كتب الإبداع الليبي في خضم المد القومي المتطرف الذي كان يعتبر حتى اسم ليبيا خيانة لهذه العقيدة.
وكنت أتسكع في تلك الفترة بقصائدي المرتبكة، ولا أجد من ينصت إليّ، خصوصا وأن القصيدة النثرية كانت متهمة بخيانة الشعر وخيانة روح القومية العربية، وحين سأل عني الشاعر ابن الطيب من خلال قصيدة واحدة نشرتها، أحسست أن حقبة جديدة تبدأ في التواصل بين الأجيال، وفعلا الخارجون من السجن من المثقفين والمبدعين بثوا الحيوية في المناخ الثقافي الذي كان راكدا، وأنا شخصيا أدين لهم بالكثير لأني التصقت بهم في الوقت الذي كان البعض من جيلي متوجسا منهم، لدرجة أن رئيس رابطة الأدباء والكتاب د. علي فهمي خشيم اعتقد لفترة أني من جماعة “أصبح الصبح” كما كانت تسمى، حتى صُححت له هذه المعلومة، وإن ما جمعني بهم أحلام الهواء الطلق حين خرجوا فلوّنوا الأفق الثقافي الذي كان يسيطر عليه لون واحد.
حين كنا نعد لمهرجان في بيت درنة الثقافي، وأشرع في كتابة أسماء المدعوين إلى المهرجان، أبدأ باسم إدريس ابن الطيب، ومرة قال لي الصديق إبراهيم بوحمرة: “كنك أول ما تزقب على اسم إدريس؟” فقلت له لسبب أبجدي، لأن اسمه يبدأ بحرف ألف، وبالنسبة لي لا يبدأ بألف فقط ولكن بمليون محبة واحترام، وسأظل أحملهما له ما حييت مهما اختلفنا. ويعرف إدريس، كما أعرف أنا، أن المشترك بيننا شاسع، وكل اختلاف لا يعدو عن كونه ضربات فرشاة متقاطعة على لوحة نرسمها معا، ومازلت لا أتصور أن أقيم نشاطا أو أمسية ولا يكون اسمه على رأس قائمة المدعوين، مثلما لا أتصور أن يقيم أمسية ولا يكون اسمي في بداية قائمة المدعوين.
فإدريس من الأصدقاء الذين ينطبق عليهم القول: ينام وليس في قلبه ضغينة على أحد. وقد عايشت ذلك واختبرته عن قرب، فكم من صديق أساء له ونسي إدريس الإساءة في اليوم نفسه ليجد عكازه يقرع باب هذا الصديق في اليوم التالي وكأن شيئا لم يحدث، لم يكن يتناسى الإساءة ولكن كان ينساها فعلا. نعم هو يحمل أراءً قوية يدافع عنها في كل محفل بحماس وقوة وعناد، ولكنه لا يحمل ضغينة على أحد، بل يزداد حبا وتعلقا بمن يخالفه، لأنه يدرك، بل ويؤمن، أنه من دون الاختلاف ما كان هناك حوار ولا معرفة ولا أفكار ولا قوس قزح.
كان يعشق مدينة طرابلس حتى النخاع رغم كل الألم الذي اختبره خلف جدران سجونها التي تنقل فيها ورفاقه طيلة عقد من الزمن، وحين سمع في تلك الأقبية المعتمة أصوات القصف اليانكي، خطَّ على جدار زنزانته: “أيتها الضاجة خلف الجدران.. أحبك أكثر من عكازي”. وظل يحب مدينته الأثيرة كما يحب أولاده، ولا يحتمل أي قصف عليها تحت أي ذريعة.
في مساء يوم ممطر يوافق 17 فبراير 2006، ويوافق مظاهرة قام بها بها شبان من درنة احتجاجا على رسوم مسيئة لنبي الإسلام نُشرت في جريدة دنماركية، كانت بعض أحداثها أمام مديرية الأمن المقابلة لبيتي في درنة، أطل علي إدريس ابن الطيب رفقة إدريس المسماري، قادمَين من مصر يحملان رُزَماً من مجلة عراجين الممنوع توزيعها في ليبيا، وحدثتهما عن المظاهرة وما حدث، ودار بيننا حديث تطرق إلى أن أجهزة النظام هي التي تهندس مثل هذه المظاهرات في بلد ممنوع فيه التظاهر وفق قانون العقوبات، وأذكر أن إدريس قال: هذه الألاعيب التي يقوم بها النظام ستنقلب عليه، وحين تسقطنا أخبار المظاهرة في بنغازي في اليوم نفسه عرفنا أنها خرجت عن السيطرة وقُتل فيها بعض الشباب، وبعد 5 سنوات تحولت هذه الذكرى إلى يوم تنطلق فيه ثورة فبراير، وكان حدس إدريس في محله، ليس مصادفة، ولكن لأنه الحدس نفسه بغريزة التطلع للحرية، وبحتمية التمرد على الطغيان، مدسوسان في كل مجاز من قصائده.
لم يكن بيني وبين إدريس شعر ووطن وأفكار فقط، ولكن بيننا خبز وملح وماء، وماء عطر، نتقاسم الحلم نفسه حتى وإن اختلفنا حول الطريق إلى هذا الحلم. تعلمت منه أن تحدد موقفك الذي تراه صوابا وتدافع عنه بقوة وقناعة، وألا تركن إلى المنطقة الرمادية المريحة حين يكون المحك وطنا، وتعلمت منه أن أنام وليس في قلبي ضغينة على أحد، وأن أطرق في اليوم نفسه باب من أساء إلي دون الحاجة حتى لكلمات اعتذار منطوقة. أو كما يقول بطل رواية (قصة حب) لإيريك سيغال: ”الحب هو أن لا يكون لنا أبدا أن نقول أننا آسفون“.. أو كما يقول شاعر ليبي: ”رفيقك وين يغيب عليك… امشيله ما ترجاه يجيك“. أو كما يقول الروائي ميلان كونديرا: “في زمن تقديم الحساب، يكون الجرح الأشد إيلاماً هو الناتج عن الصداقات المتصدعة؛ فلا شيء أغبى من التضحية بصداقة من أجل السياسة. وأنا فخور بأنني لم أقم بذلك أبداً. أنا قدرت ميتيران بسبب استمراريته في إخلاصه لأصدقائه القدامى، مما جعله هدفاً لهجومات عنيفة خلال المرحلة الأخيرة من حياته. إن ذلك الإخلاص هو ما شكل نبله”.
وكل ما ذكرته عن إدريس هو ما شكله نبله الذي لا يختلف حوله اثنان.
قناة (218)، 11/11/2020