المقالة

إدريس الذي هزمه الموت

إعادة نشر في الذكر الـ6 لرحيل الكاتب إدريس المسماري

الراحل إدريس المسماري وأم العز الفارسي
عن موقع ليبيا المستقبل
الراحل إدريس المسماري وأم العز الفارسي عن موقع ليبيا المستقبل

كان إدريس المسماري من المؤمنين حد اليقين بالتغيير دوما، وأنه ممكن حين تقوده نخبة ثقافية وسياسية سلاحها مرجعيات و أدبيات وسرديات تاريخية داعمة، و طموحات وتطلعات لمجتمع يسعي للتغير ليس بإسقاط نظام قمعي وكفى، بل بالسعي الدؤوب لإقامة نظام ديمقراطي قائم على المؤسسات والتعددية السياسية والقضاء المستقل والعدالة الاجتماعية واستقلالية الإعلام وحرية الرأي وكفالة حق التعبير، كان يقين إدريس المسماري أننا كالنمل لا نمل، نحفر تحت عرش الطغيان حتى الإطاحة به، ومقارعة الديكتاتورية بمكون فكري يجمع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كانت رؤيته شاملة و مكتملة وكنت أنا أم العز الفارسي رفيقته حتي النفس الأخير مؤمنة به وداعمة له، كنت استمد قوتي من هشاشة جسده الضعيف وخطواته الوثابة وكانت الحياة معا أجنحة نطير بها حيثما أرادت لنا المقادير وما كانت هينة. وتلك قصة أخرى.

التف حول إدريس العديد من الجماعات والأفراد، أصدقاء وأعداء، كبار وصغار على محبة وكره، على تسامح وقبول ولكنهم جميعا كانوا على يقين بأنه كان كائنا قويا بإرادة فولاذية وقدرة على الحب وحده كصانع للمعجزات.

يقول عمر الككلي (كان إدريس المسماري وراء كثير من الملتقيات الثقافية الهامة على المستوى الوطني، وطموحه اللا محدود جعله يفكر، وفي فترة مبكرة من العشرية الأولى في الألفية الثالثة، في مشروع ثقافي بدا لي شخصيا، حينما طرح عليَّ حينها، شطحا في الخيال: إصدار مجلة خاصة تعنى بالثقافة الليبية! تصور، وفي عهد معمر القذافي المعادي للثقافة أساسا، وخصوصا الليبية.

لكن إدريس المسماري فعلها!  ولم تكن عراجين وحدها أيقونته فقد أنجز قبلها وبعدها الكثير.

ويقول سالم العوكلي (ومنذ خروجه من السجن مع المثقفين الذين تركوا فراغا مفزعا في الساحة الثقافية، وحتى قبل سجنه، كان إدريس المبادر وصاحب المشاريع التي يستلزم إنجازها حشد أكبر قدر من المثقفين الذين يشاركونه الرؤية، لذلك حرص على علاقات دائمة مع النخبة في مختلف مدن ليبيا ومن كل الأجيال، وحرص على أن يكون نموذجا للمثقف العضوي الذي يطعم الثقافة بالسؤال السياسي، والقادر على قيادة العمل الجماعي. فلم ألتق مرة بإدريس إلا وكان في جعبته مشاريع ثقافية يخطط لها، وهذه الحيوية كانت وراء تفاؤله الدائم، كما كانت وراء مغامراته التي لا يحسب عواقبها حين تكون الغاية ليبيا.

هكذا حين اتصل بي العزيز رامز النويصري وجدتني قلقة؛ فكيف اكتب في موجز عن إدريس أفصل فيه الذاتي عن الموضوعي، فهذا الادريس الذي كان هدم برحيله المتوقع نصف كياني وهشم روحي، ولكن ادريس الباقي هنا والذي يعيش بيننا هو المثقف القيمة، الذي ينساب تواضعا وغنى بالمعرفة والمسكون بحرقة السؤال الجائع للمزيد فلا تراه الا محتضنا لكتاب ومعجونا بفكرة كالجنون، وهو لا ينتمي لذلك النوع من المثقفين المصنوعين من خواء يدارونه بجلافته وادعاء.

يقول إدريس “ربطتني مناسبات أدبية وفكرية عديدة بعلاقة معرفة- ارتقت في أحيان كثيرة إلى صداقة- بكثيرين ممن يسمون صحافيًا “كاتب كبير” وهم “كبار” في رأيي لكن ليس من منظور النجومية، وإنما بمعيار القيمة والحيوية اللذين ينبئان عن “كيان” إنساني ملآن وواثق، أمثال أدونيس ومحمود درويش وأحمد عبد المعطي حجازي وجمال الغيطاني وغيرهم، كما جمعتني علاقة إنسانية دافئة مع مبدعين ومفكرين كبار أيضًا بالمعنى السابق، شرفت بمعرفتهم وتعلمت منهم.. وأذكر على سبيل المثال لا الحصر محمد عفيفي مطر ومحمود أمين العالم وإبراهيم أصلان وسعدي يوسف. وبالطبع فيما ذكرته من نموذجين للمثقف العربي الآن، لم أتحدث عن المثقفين والمبدعين العرب من أبناء جيلي الذين تربطني بهم أعمق الصلات وأقواها”

يعتز ادريس من نماذج المثقف الذي يحب بالروائي “هاني الراهب” ويقول عن لقائه الأول به “الرجل الذي تبلسمت روحه بدفء المودة التي استقبلني بها مجددًا، وإصراره بالرغم من وضعه المادي “الصعب”، على عزومتي لتناول الغداء قبل إجراء المقابلة التي انتقلنا لها إلى مقهى “هافانا”.. هناك تحدثنا طويلاً حول عوالمه الروائية وبخاصة روايتيه “الوباء” و”التلال” اللتين كنت قد قرأتهما بتمعن واستمتاع.. كان حديثنا أقرب للحوار ما بين قارئ وكاتب منه إلى اللقاء الصحافي بالمعنى التقليدي.. بعد انتهاء لقائنا الثري فكريًا الحميم إنسانيًا تمشينا كصاحبيْن في طرقات دمشق، إلى أن حان موعد رحيله الذي ما كنت أعلم أنه الأخير.. رحم الله “هاني الراهب”؛ فقد ترك كتابة جديرة دومًا بالقراءة، وسيرة طيبة”

إدريس الذي أحزنه كثيرا موت هاني ما كان يعرف أنه على موعد معه في عالم أكثر رحابة لا مكان فيه لظلم ولا يأس.

إدريس الذي كان يافعا هزمه الموت وهزمني فقده.

مقالات ذات علاقة

البرامج التلفزية الخيرية إذلال للإنسانية

خالد الجربوعي

إن لم تروِ فسوف أقتلك!

إبراهيم الكوني

عندما يتداعى …. هيكل !!

عوض الشاعري

اترك تعليق