نام مبكراً تلك الليلة…
نفس الحلم يتكرر..
أن يأتي على ظهر سفينةٍ هو وأتباعٌ مغامرون، لقد فعلها (علي برغل) تسلّل ذات مساءٍ وفي الصباح لم يعره أحدٍ أي اهتمام، حتى أنّهم لم يستغربوا لقبه فليس من عاداتهم أكل البرغل، بعضهم كان كريماً أيضاً فقد تبرع له بما يكنز من (فجرة) طلباً لرضى السلطان، وحتى بعد أن تسلل في جنح الظلام هارباً بما غنم منهم لم يعيروا الأمر اهتماماً يُذكَر..
العقلاء منهم ذهبوا الى (القوديا) سألوها عن مكانه ضحكت ملء شدقيها وهي تسحبُ نفساً من سيجارتها:
– بَحّ بِحّ…
هذه المرة حلِمَ أنّه جالساً أمامها حَكى لها عن أكَلة (اللوتس) ضحكت كثيراً كشف فمها عن صفين من أسنان فضّة ولسانٌ أطول من أن يحتويه فمها، شفتاها سوداوان، غطاء رأسها هو (تسمال) في لون البذنجان، معقودٌ على جانب رأسها الأيمن، برزت من تحته شعرات متناثرة برتقالية اللون من أثر الحِنّة، تحولت ضحكتها الى غضبٍ عارمٍ واحمرّت عيناها حتى كأنهما ينزفان دماً، وهي تمضغ كمية لا بأس بها من عشبةٍ ذات لونٍ أخضرٍ فاتح وضعتها في جانب، بصقت بعضاً منها، مسكت يده الطريّة، ناولته بعضاً منه لم يستسغ رائحته، أشاح بوجه بعيداً عنها وسألها بصوتٍ خافتٍ مخافة إغضابها:
– هذا هو اللوتس..
نظرت اليه باستغراب فهي لم تسمع بهذه العشبة من قبل ولم يخبرها عنها التاجر (عبدالله) عند رجوعه من (تمبكاتو) في رحلة الخريف والربيع.
في جميع الأحوال لم تكن في حالة تمكنها من سماع ما يقول ما بالك فهمه، لكنها واصلت مضغَ عشبتها بشهيّة غريبة، ودخلت في حالة ما بين النوم واليقظة، أخذت وجهه بين يديها طبعت على خذه الأيمن قبلة، انطلق من بين شفتيها وابلٌ من كلماتٍ مخلوطٌةٍ برذاذ لعابها الأخضر، منه ماله معنى ومنه كلمات بلغةٍ غريبةٍ لا يفقهها..
أخبرته أن (للة) ستفقد جنينها الأول، وأنّ جده سيختفي تاركاً لهم ثروته، أمّا هو فسيكون تماما مثل (على برغل) استغرب كثيراً كيف لها أن تعرف ما دار في ذهنه ليالٍ متتاليّة..
سكتت طويلاً وأنهمر الدمع من عينيها أسوداً مختلطاً بكحل عينيها، مسحت السائل الأسود من خدّها المملوء أخاديداً حفرها الزمن والدموع، ومرّت بيدها على أنفها لتمسح سائلاً تسلل من فتحةٍ واحدة فقط، نظرت اليه نظرة ملأته رعباً وصاحت بصوت يشبه النواح:
– وووه بابا وووه بابا..
صرخت في وجهه أمرته بالمغادرة بكلمات بذيئة أحمرت لها وجنتاه، نهض من مكانه وتوارى عن ناظريها..
في الصباح رأى وجه (للة) شاحباً تكتم داخلها صرخة من الألم، أشارت الى بطنها المنتفخة، أمر بإحضار (سوريلا) على وجه السرعة للكشف عليها، بعد ساعات جاءته وقد ظهر الحزن على وجهها لتخبره بفقد الأم جنينها.
ذلك المساء ذهب ليخبر والدته بالأمر، وصل أمام بيتهم وجد جلبة وضوضاء لم يعرف لها سبباً، حتى جاءه صوت شيخ المحلّة وهو يحضنه ورائحة البصل تفوح من فمه:
– بوك وتعيش انتَ…
أمران جليلان حدثا في يومٍ واحدٍ، للغرابةِ لم يذرف لهما دمعة واحدة، هما ما تنبأت بهما (القوديا) بلْ منحه ذلك قناعه أنّ ثالثهما سيتحقق أيضا:
أن يأتي حاكماً كما أتى (علي برغل)..
عندها فقط اغرورقت عيناه بالدموع وبكى فرحاً كما لم يبكِ من قبل.