.
لا يتمدد الصادق في الظهيرة إلا على “المندار” إلى جوار زوجته نورية…
تجهز “العالة” ثم تتربع أمامها.
تضع “نورية” سفرة خشبية مستديرة ذات أقدام أربعة قصيرة عليها مفرش من القماش، ثم تضع السفرة المعدن فوقها، وغالبا ما تتطابقان حجما واستدارة. تصَف نورية بعد ذلك على السفرة المغطاة بمفرش بلاستيكي أبيض إبريقين ذوي حجمين مختلفين وكوبا معدنيا واسعا يعرف بــ”اللقامة” إلى جوار كؤوس الشاي الزجاجية الصغيرة الحجم المزينة بدوائر ذهبية. أما الإبريق الثالث المليء بالماء فهو الأكبر حجما ويسمى “السخان”. تضع نورية “السخان” على أنبوب الغاز الصغير إلى جوارها ويعرف بـ”الصطوفة” والمغطى بقماش يخفي خطوط الصدأ العالقة به.
كانت نورية بيضاء، قصيرة القامة ومكتزة، وجهها مستدير يبدو أصغر من جسدها.. ترتدي رداء “برمبخ” مخططا. وقبل أن تبدأ في إعداد شاهي العالة تحرك عجيزتها على المندار وتعتدل في جلستها، تجلس متربعة، وتعدل من ردائها، وتلقي بغطائه خلفها وكأنها ملكة تتبوأ عرشا. تفتح “تستمالها” ثم تعقده على الجانب الأيمن، تنظر إلى “العالة” أمامها وتركز كل حواسها في إعداد الشاي… تضع البراد الكبير على نار زرقاء هادئة، وتحرك بأصابعها سفرة العالة في حركة دائرية من حين لآخر في انتظار غليان الماء. ما إن يبدأ عنق البراد في نفث البخار، مرتعشا على “الصطوفة” حتى تفتح نورية الغطاء عنه وهي تضغط على أسنانها، مصدرة هسيسا خافتا. تلتفت إلى علب “السكريات” ذات القامات المتساوية والألوان المختلفة وكأنها تقف في استعراض عسكري أمامها، تفتح إحداها وتقبص منها بيدها على أعواد الشاي السوداء، تميل بجذعها إلى الأمام وتلقي بها شيئا فشيئا في الماء المغلي الذي يتلقفها بقسوة ويديرها بين حممه الساخنة… تنظر نورية إلى داخل البراد وتدفع إليه بالمزيد. ورغم حركة الماء العنيفة وهي تقلب أعواد الشاي الضعيفة إلا أنها تظل على صلابتها تصبغ الماء بلون أحمر قان ولا تفقد لونها. وبحركة سريعة ومدربة ترفع “السخان” عن “الصطوفة” وهي تمسك بيده العالية وتضعه على السفرة المعدن، تستدير وتفتح العلبة الثانية وتغرف بالملعقة المغروسة في كوم السكر وتصبه في الماء الذي مازال هائجا فيندثر ويتلاشى في البخار قبل حتى أن يصل إلى مستقره.
لم تنقطع لها عادة كانت تعلم جليا أن “الصادق” لا يداعب جفنيه النوم إلا على كركرة براد الشاهي. تتفنن نورية في تخليق الرغاوى، ترفع يدها الى أعلى قدر المستطاع حتى تشعر بصدرها يرتفع الى مافوق حاشية الرداء، تنتشي وتحرك عجيزتها قليلا كأنها تستعد لشيء ما، ثم تميل بالإبريق نحو الأسفل فيخرج من عنقه سائل أحمر قان أقرب إلى اللون الأسود لينتهي في اللقامة التي تمسك بها بيدها الأخرى فاغرة فاها كأنها تحتضر. وهكذا تعاود الكرة كل مرة حتى تتحصل على أكبر قدر من الرغوة المتبقية في الإبريق الفارغ تنظر إليها، تعقد شفتيها تعبيرا عن عدم الرضا وتعاود الكرة، ثم تميل بالإبريق وتوزع بتأني الرغوة الصفراء على الكوؤس، بينما الصادق يغط في نوم عميق. كان يتمرغ على ظهره كالجرو قبل ان يستكين إلى النوم …قدماه خارج الشرشف ويشخر بصوت عال.
حين تدفع نورية بسبابتها غطاء الإبريق ليسقط على فوهته ويصدر صوتا، يجفل الصادق في نومه ويفتح عينيه، تبتسم نورية بزهو وتقول ” الطويسه الاولى واتيه”. يرتفع الصادق بجسده بزاوية مستقيمة، مازال النوم عالقا بعينيه الحمراوين، يمد يده نحوها دون أن يلتفت اليها. تميل برأسها وتنظر إليه بحنان… يستشعر بها فيطرد بقايا النوم ولا ينظر إليها. يقذف نحوها بكلمة واحدة وهو يحرك يده “هيا”، تميل نحوه وتضع الطاسة الزجاجية الصغيرة بين أصابعه. يضغط عليها بأصبعيه ويترشفها ببطء مصدرا صوتا عاليا. يعيدها إليها فارغة إلا من بقايا الرغوة في قاع “الطاسة”، ينقلب على جانبه مديرا لها بظهره ويعاود النوم بينما تبدأ هي في تحضير “الطاسة” الثانية.
تمسح نورية السفرة من حين لآخر بـ”النشافة” الإسفنجية، تمتص الماء والشاي المتناثر عليها… في كل مرة تستخدم كؤوسا نظيفة…. تجهز “الطاسة” الثانية وتنتظر وهي تدندن بصوت خافت ” ديري رغاوي وكشكشي ياطاسة.. وانتِ دواء للي مريض براسه… ديري رغاوي وكشكشي بالراحة وانتِ دواء للي كاترات جراحه”……..
يستفيق الصادق هذه المرة بمزاج متعكر… يشرب “طاسة الشاهي” سريعا وينهض. تعد نورية “الطاسة” الثالثة بالكاكاوية… تحمص الكاكاوية فوق ” الصطوفة” في “طاوة” مسطحة… تنظر إلى حبيباتها وهي تتحمر وتفقد لونها الوردي شيئا فشيئا، تهز نورية “الطاوة” فترتعش حبيبات الكاكاوية وتنقلب من جهة إلى أخرى. تفركها براحة يدها وتزيل عنها قشورها وتنفخ فيها مطيرة القشور… تضعها في قاع “الطاسة” ثم تصب عليها الشاي الساخن فتتقافز وتدور في الكوب الزجاجي الضيق….
يشرب الصادق “الطاسة” الثالثة بالكاكاوية على عجل وهو واقف… ثم ينقر بأصابعه على قاعدة الكأس الزجاجي لإخراج حبيبات الكاكاوية العالقة بجدار الزجاج، وحين لا يصل إلى مبتغاه يدخل سبابته في الكأس ويخرجها بطرفها. يناول نورية الكأس… ويهم بالخروج… “على سلامتك”…تقولها نورية بصوت خافت…
كان الصادق ضعيف البنية…. قصير القامة، لا يرتدي إلا بدلة عربية ويعمل موظفا بإحدى الدوائر. في الشتاء يضع “معرقة” ويرتدي صديريا من الصوف على البدلة العربية و معطفا أزرق. يفصل بين عودته من العمل وخروجه مجددا للسهرية سويعات يقضيها نائما إلى جوار نورية وهي تطبخ له “شاهي العالة”…
كلما رفعت نورية ذراعها اليمنى وهي تكركر بين الإبريقين، سعيا لتجميع الرغوة، تشعر بألم تحت إبطها… بدأت تقلل من مسافة رفع يدها شيئا فشيئا، لكن الألم لم ينقص… ذات يوم، أدخلت نورية يدها اليسرى تحت “شلامتها” وتحسست ثديها فشعرت بكرات متحركة بالقرب من إبطها… “خيرها الكشكوشة مطفية”…. لم تشأ نورية أن تفصح للصادق عن ألمها في كل مرة ترفع ذراعها إلى الأعلى لتوفير أكبر قدر من “الكشكوشة”… “الصادق يحبها مرغية ومنفوخة”. كانت الرغوة بيضاء تختلط باللون الذهبي تتربع على قمة الأكواب، ما إن تلامس الشفاه حتى تشعر بالفقاعات تتفرقع على سطحها.
فقدت نورية بريقها، وأصبح رداؤها واسعا، تبدو فيه كعود ثقاب بعد أن كانت مستديرة كالخبز الطازج… ولم يلحظ الصادق شيئا.. يتناول طاساته الثلاث ويهرع على عجل للسهرية.. حتى كان ذلك اليوم الذي اكتشف فيه مرضها.. كان قد تفرع داخل ثديها ووصل حتى إبطها كنبات الشوك… لم يترك بقعة في ثديها الأيمن إلا وشبك عروقه فيها…تذكرت صورة الماء المغلي وهو يذيب برذاذه السكر.. وهو يقلب أعواد الشاي و يفترسها…
أمضت نورية أشهرا طويلة في المستشفيات… استئصل ثديها.. ولم يستأصل مرضها… كان الصادق يزورها بين الفينة والأخرى، يقف عند عتبة الباب يتنحنح….ثم يختفي….
تضاءلت نورية شيئا فشيئا حتى تلاشت… احترق جسدها وسقطت خصلات شعرها.. وما عادت تقوى على الألم….
تبعثرت عالة الشاهي… وصدئت أباريقها…. وتكسرت كؤوسها الزجاجية الصغيرة…
وفي عزاء نورية تجمع رجال السهرية حول الصادق، كانوا يتجرعون الشاي من كؤوس صغيرة بدون رغوة…. يربتون على كتف الصادق وظهره وهم يتندرون… ويعرضون عليه الاقتران بقريبات لهم…
مازال الصادق يغفو كل ظهيرة، يستأنس بأصوات تصدر عن قناة “الجزيرة” وهو مستلق على ظهره… يشرب شاهي الكيس، ويتناول الناسكافيه والكابتشينو والمكياطة في مقاهي المدينة…
30. 3. 2012