منذ أكثر من مائة عام بقليل …هناك في القارة الأميركية وجد عدد من الشعراء العرب القادمين من ربوع الشام أنفسهم أحرارا، لا يراقب تحركاتهم، ويعد أنفاسهم، ويحاسبهم على أفكارهم وأحلامهم ناطور الضيعة ولا شيخ القبيلة ولا المتصرف العثماني ولا القسيس أو الشيخ.
لقد وجدوا أنفسهم في أحضان طبيعة بكر فاتنة وصامتة، فهمسوا لها محاولين استنطاقها وإعادة تشكلها واكتشافها، وكانت هذه المرة الوحيدة التي استطاع فيها الشاعر العربي خلال العهود العثمانية أن يبوح بمشاعره ورؤاه بصدق وشفافية دون خوف من غضب وأذى السلطة السياسية وشقيقتها السلطة الدينية، لذلك يمكن القول إن شعر المهجر الذي يمثله جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ورشيد سليم الخوري وإلياس فرحات وغيرهم هو من بين أرق وأجود ما ضمته مدونة الشعر العربي عبر تاريخها الطويل، وذلك لحداثة موضوعاته ولغته وصوره وموسيقاه، فقد تجنبوا الصوت العالي الذي يصرخ بالمديح والفخر والهجاء والرثاء ، والتفتوا إلى الطبيعة ، فهمسوا لها بحبهم وأشجانهم ، وتحاوروا مع الحقل والغاب والنهر والجبل، وبثوا للإله شجونهم وشكوا إليه تجبر ممن يتكلمون باسمه، وآثر بعضهم العزلة واجتناب معاشرة الناس اتقاء شرورهم، وبعضهم الآخر حنَّ إلى مسقط رأسه ، وتغنى بجمال ضيعته وبأمجاد أمته.
وقد انتبه عدد من الباحثين في القرن الماضي إلى فرادة هذا الشعر وتميزه، فأقبلوا على دراسته معرِّفين بسياقه التاريخي والفني ، وبأهم أعلامه وخصائصه الموضوعية والفنية، والواقع أن تلك الدراسات القيمة اعتمدت على المنهج التاريخي الذي كان آنذاك سائدا في معظم البحوث ، وقاربت الشعر مقاربة انطباعية تقتصر على الذائقة المعيارية المعتمدة على الموروث الأدبي واللغوي، وكان من المؤمل أن تشجع تلك الدراسات القيمة بعض الباحثين على مواصلة البحث بمنهجية حديثة، ولكن وفي حدود علمي واطلاعي فإني لا أعرف أحدا من الباحثين الجدد درس الشعر المهجري دراسة حديثة، ومن هنا فإني أتمنى أن تعاد قراءة نصوص الشعر المهجري ومقاربتها بالمناهج النقدية الحديثة، كما أتمنى أيضا أن توجه الجامعات العربية بعض باحثيها إلى دراسة الأدب المهجري الحديث المكتوب بالعربية أو بلغة أجنبية، ففي هذا الأدب الذي ينتجه أدباء وشعراء وقصاصون عرب مقيمون في عدد من البلدان الأوروبية والأميركية سيكتشف الباحث مفهوم الاغتراب الوجودي والنفسي لدى المبدع العربي في ديار الغربة، وسيكتشف أنه يكتنز في أجناسه الأدبية المختلفة ثراءً رؤيويا وأفكارا جذابة تستحق عناء البحث.