المقالة

الإنسان أولاً

العلم، في الغالب، هو ما يبعد في البداية الكثيرين عن الدين ومساجده أو معابده أو كنائسه، ولكننا نكتشف أنه يعود بهم في نهاية المطاف إلى حظيرة الإيمان. طالب العلم، عندما يصل إلى المرحلة الجامعية، أو مرحلة البحث وتوسيع المدارك، يكتشف أن العلوم تتنوع وتتوسع ولكنها لا تخرج عن علمين هما: تاريخ الفلسفة والتعليم الديني، تنصب مراجع الفلسفة على تحرير العقل الإنساني فيما لا يمكن إثباته بالمنطق وبالوسائل المادية.

وتتفق تواريخ أولئك الذين تحدوا عقائد الدين، وبينوا كيف تتغير القناعات وفق تغير الأمم وسلطاتها السياسية وما حققته الاكتشافات العلمية العملية؛ فينتشر الإلحاد والملحدون ويترك الدين من دون منطق يسنده لأسباب عديدة. هذا لم يحدث في بلادنا فقط ولكنه حدث في العالم كله. عندما وصلت المرحلة الجامعية، كان أبعد شيء أفكر فيه أن أدخل مسجدا أو أنصت إلى موعظة، كانت الأسئلة كثيرة والإجابة الرافضة، هي بمثابة الشهادة بأنني إنسان متمدن، متفتح، ومثقف.. فتلك كانت مميزات الحداثة، ناهيك عن فورة الشباب والبحث عن المغامرة وعن مغريات الحياة المتنوعة.

ولكن الفلسفة التي تجعل المرء أن يقدم المنطق والعقل للبحث والتعليل بل وتقوده للتجربة والاستنتاج إلى التفكير في كل ما يراه، فيصل لا محالة إلى لب الكون والحياة وأساسها، لينتهي به المسار إلى خالقها فيجده، مثلا، في صحراء قاحلة لا أثر لحياة فيها، تُفرش بسندس أخضر وتتنوع باتساعه الأزهار بمجرد أن تسقط على رمالها الحارقة أمطار، من بعد سنوات، قبل أن تصل وجهتها الموسمية المعتادة، فنرى الله يبعث الحياة في بذور مدسوسة لا حياة فيها.. يراه يخرج الحي من الميت.. ويراه بعد ذلك ميتا يخرج الحي منه.

الدين لم يمنح الإنسان فقط، الاستقرار النفسي والراحة، والتعايش مع بعضنا البعض، والثقة في الله وأن الآخرة خير لنا من الأولى فقط، بل منحنا أيضا القدرة على تلمس جماليات الحياة، فالاهتمام بالمعابد وإقامتها تعد هي أساس الهندسة المعمارية. وإقامة التماثيل هي أساس لفن النحت، والابتهالات الدينية أساس للشعر، والموسيقى من التراتيل الدينية، والمسرحيات من رواية الأساطير والرقص من العبادات الموسمية للآلهة. فالحياة والدين كالنور والشمس.

ويكتشف المرء من تفكيره أنه مسلم من الذين يتفكرون في خلق الله قياما وقعودا؛ يرى أن عقله يقوده إلى حقائق يستغرب كيف أنه لم ينتبه إليها؟ ولماذا رفضها وهو بعلمه ومعرفته ممن يفترض فيهم أن يكونوا ممن يخشون الله، ألم يقل تعالى في محكم آياته “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ”؟ ألم يرتفع بمعرفته إلى (عالم) بالشيء بمجرد أن انتبه إلى سيرورته؟. مفكرون وصلوا إلى حقيقة تؤكد أن قيمة الدولة، أي دولة، تعتمد على قيمة أفرادها، وانتبهوا أيضا، أن قيمة هذه الدولة تتزعزع إن اعتمدت على القوانين أكثر مما تعتمد على الإنسان.

وهذه حقيقة، فالخلل الذي أصاب ثورة القذافي سببه كم هائل من قوانين وإهمال شبه كامل لمن كان يتعين أن يطبق القانون عليهم. كيف تقنع مواطنا أنه لا حريه له طالما غذاؤه من وراء حدوده، في حين أنه لا يملك حرية إلاّ ما تقررت له وفق وجهة نظر واحدة، الإنسان لا يعرف الألوان بتنوعها، فلا يتهم إنسان أنه خائن لمجرد أن له وجهة نظر ترى أنه من الضرورة ان نتبادل مشروع إدارة بلادنا.

نادرا ما تخلو الفترة الانتقالية للثورات غير المخطط لها من فتن وقلاقل واضطرابات وفساد بمختلف صوره، فالإنسان هو الإنسان في كل عهد وزمان. قد يطغى من يحكم، وقد يفشل بنوايا حسنة أو سيئة. وقد تكون هناك تنظيمات متربصة تسرق السلطة ومقاليد ومفاصل الحكم، وقد تطغى الدولة أو قد تضعف، وقد يتغول الظلم في ظل طغيانها، ولكن في الغالب تتكون عصابات وزمر، أو زمر تتشكل تحت مسميات كثيرة. ولكن، في الغالب، تتكون جمعيات سرية قد تكون أهدافها خيرة، أو سيئة وفي كلا الحالتين طالما أن طابعها سري فإن العنف والإرهاب والقتل يكون من برامجها، واللافت أنها وإن بدأت بنوايا طيبة تنقلب إلى عصابة إجرامية. وإن حدث ذلك فغالبا ما تكون تلك الفترة هي الأظلم في تاريخها.

________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

عن المطر والتعليم المبلل بالعطلات

المشرف العام

هاري بوتر

علي باني

الذكرى 35 لمظاهرة الجمهور الرياضي بعد إلغاء مباراة ليبيا – الجزائر

خالد الجربوعي

اترك تعليق