المقالة

النفاق والنفاق المضاد

النفاق ظاهرة إنسانية معروفة تنتمي إلى عالم الأخلاق، ويبدو أنها تولدت مع انتقال المجتمعات الإنسانية من حالة الاجتماع الإنساني الأولي المتجانس، الأقرب إلى المجتمعات الحيوانية، إلى حالة التمايز الداخلي المعقدة التي حدث فيها تقسيم العمل وتشكل الطبقات وتكون السلطة القامعة.

فالنفاق يُعرَّف بأنه إظهار الإنسان نقيض ما يبطن. في حالة المجتمع الأولي المتجانس لا يكون الفرد مضطرا إلى اللواذ بهذا السلوك. إذ لا تنقسم ذاته إلى وجه يتعمد إخفاءه وقناع مختلف يجتهد في إظهاره، لأن المجتمع الصغير المحدود متجانس في المعتقدات والآراء ولا يعاني تنافرا بين مكوناته. أما مع انقسام المجتمع إلى “مجموعات” ذات مصالح متمايزة أو متعارضة، وبالتالي، ظهور السلطة القامعة، اجتماعية- دينية كانت أو سياسية، أصبح بعض الأفراد مضطرين إلى إبطان ما يعتقدونه وإظهار ما تتوقعه وتريده منهم هذه السلطة التي تحرم عليهم الاختلاف معها والجهر بآرائهم ومعتقداتهم، وإلا فإن الموت أو النفي أو النبذ يتهددهم.

وبذا يكون النفاق هنا وسيلة للدفاع عن النفس المقهورة المهددة لا يعيب “المنافق” وإنما يعيب السلطة القامعة. وكلما ازداد تدخل السلطة في الشؤون الشخصية للأفراد كلما اتسعت رقعة “النفاق” وزاد عدد “المنافقين”.

النفاق، في هذه الحالة، لا يحقق قيمة مضافة إلى هدف تجنب المتاعب أو الحفاظ على الحياة. هذه هي المصلحة الوحيدة التي يستهدفها. وهو، أيضا، لا يعد كذبا يستهدف تضليل الغير قصد الإضرار به، وإنما هو إخفاء لحقيقة قد تدفع الآخر، إذا علم بها، إلى الإضرار بالمنافق. وبالتالي فإن المنافق، بهذا المعنى، شخص مسالم يؤثر السلامة، بينما نقيضه وخصمه شخص عدواني يستهدف فرض المعتقد أو الرأي ويسعى إلى الإضرار بالمنافق.

لكنَّ هناك نوعا من النفاق، تمكن تسميته بالتملق، لا يستهدف حماية الحياة الشخصية وإنما تحقيق منفعة مضافة، هي الوجاهة والحظوة الاجتماعية وذيوع السمعة الحسنة. ولذا يبالغ في إظهار مناقب لا يلتزم بها في سريرته وحياته الشخصية، وهي الورع والتقوى والتزام العبادات ويحرص، في الحالة الإسلامية، على إظهار آثار تكريسه وقتا معتبرا للصلاة على جبينه من خلال ما يعرف بالزبيبة. ويبدو أنه، في بعض الحالات على الأقل، كلما كثر حديث الشخص عن التزامه بحسن الأخلاق ومتطلبات العبادة وإبراز آثارها على جسده، كلما دل ذلك على ادعائه وتظاهره بخلاف حقيقته.
أمام هذا الادعاء، الذي هو جوهريا نفاق، ظهر، في التاريخ الإسلامي، “ادعاء” مضاد. لا يتظاهر بالتقوى وإنما يتظاهر بارتكاب “المعاصي”!

وقد مثلت هذه الظاهرة فرقة صوفية إسلامية تدعى “الملامتية” أو “الملامية” اشتقاقا من اللوم، أسسها أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمَّار المعروف بالقصَّار (ت271هـ)، وقدْ بلورها وأعطاها شكلَها النهائي تلميذُه أبو محمد عبد الله بن منازل، مات بنيسابور سنة (329 أو 330هـ)* وهم “يشتغلون بملامةِ أَنفسِهم ويُهملون الشريعةَ والأخلاق، ويأتون بما يلومه الناس عليهم من القبائح والعظائم ومساوئ الأخلاق، وما تنفر منه الطبائع والفطر السليمة؛ ولا يعبؤون بلوم الخلق لهم؛ كل هذا ليُخفوا على الخلق أنهم أولياء، ولينفردوا بسرهم مع الخالق!!”* أي أنهم يعتبرون العلاقة مع الله علاقة شخصية سرية لا ينبغي إظهارها وكشفها لطرف ثالث. أي أنهم يعارضون أولئك الذين يتملقون الإطار الأخلاقي السائد في المجتمع.

يقول عنهم أبو حفص الحدَّاد النيسابوريُّ ( ت 270): “الملامتية: هم قوم قاموا مع الله تعالى على حفْظ أوقاتهم ومراعاة أسرارهم، فلاموا أنفسهم على جميع ما أظهروا من أنواع القرب والعبادات، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه، وكتموا عنهم محاسنهم، فلامهم الخلق على ظواهرهم، ولاموا أنفسهم على ما يعرفونه من بواطنهم”*.

ليس من شأننا هنا تفصيل مباديء الملامتية. ولكن من المهم الإشارة إلى أنهم شكلوا ظاهرة مهمة، وغريبة، جدا في سياق الأخلاق العامة ومواصفات الإنسان “حسن السيرة والسلوك” بمقتضى القالب الذي تحدده السلطات القامعة دينية أو سياسية أو احتماعية كانت. إنهم أفراد ضاقوا ذرعا بالنفاق الاجتماعي الامتثالي السائد فقلبوا مفهوم النفاق. لم يعد النفاق عندهم، باعتباره إظهار المرء خلاف ما يبطن، يسعى إلى حماية النفس أو تحقيق وجاهة، وإنما أصبح نفيا للوجاهة وتسويئا للسمعة وتعريضا بالنفس للمتاعب. إنه، إذا جاز التعبير، “نفاق مضاد” مثله في ذلك مثل الصواريخ المضادة للصواريخ!

هذا الفعل يربك السلطات الأخلاقية والمجتمع معا ويصيب “الأخلاق العامة” باضطراب. ذلك أنه لا يعود ممكنا لي معرفة ما إذا كان الشخص الذي أشاهده مترنحا في الشارع سكرانَ فعلا أم أنه “ملامتي” يتظاهر بالسكر. وقل مثل ذلك في الأفعال الأخرى التي تعد مذمومة أخلاقيا. كما لا يعود ممكنا لمن يشاهدني أسير متمايلا في الشارع هل أنا ملامتي أتظاهر بالسكر أم سكران فعلا من خمر حقيقية.

ويبدو أن السؤال المعبر عن لسان حال الملامتية في هذه الحالة: وما الداعي إلى أن يعرف الإنسان حقيقة المترنح أمامه؟!

____________________________________________

* http://www.alsoufia.com/main/3697-1-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A7%D8%A6%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%AA%D9%8A–%D8%A9—%D9%85%D8%A7-%D9%84%D9%87%D9%85-%D9%88%D9%85%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87%D9%85.html

 

نشر بموقع بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

أين ليبيا التي عرفت؟ (25)

المشرف العام

عَـوَالِمُ الخَيَالِ وَأَسْرَارُ الإِبْدَاعِ وَالجَمَـالِ

خالد السحاتي

خَارِجَ النّصّ اللّيلْ… عِنْد اللّي تَـهَـنّـا سَاعَة

المشرف العام

اترك تعليق