بداخلنا النور والظلام الشيء الأهم.. أن نختار ما نظهره
“جوان مواري”
سهير يونس
في أول يوم من العام الدراسي الجديد وبينما كنت أتعرف على التلاميذ لاحظت وجود تلميذ كوري الجنسية، استغربت وجوده في مدرسة -كمدرستنا- كل معلِّميها يتحدَّثون العربية!
بعد انتهاء الحصة توجَّهتُ إلى المُرشدة الإجتماعية وسألتها عنه، كيف سيتواصل مع زملائه وكلٌّ منهم يتحدث لغةً مختلفة؟ فلا هم يعرفون اللغة الكورية -ولا حتى الإنجليزية- ولا هو يتحدث العربية!!
أخبرتني أنها رغبة والديه، فهما أقحماه في هذه الظروف حتى يخوض غمار التجربة لاكتساب اللغة من خلال الإحتكاك المباشر بالتلاميذ؛ كنت وجميع المعلمات في رهان ما إن كان “كيم” سيتحدى كل الظروف المحيطة من إختلاف الجنسية والدين والثقافة…إلخ، ليتعلم اللغة أم لا؟
بعد مرور وقت ليس بالطويل بدأت ألاحظ انسجامه مع زملائه واكتسابه بعض المفردات البسيطة، حينها أيْقَنتُ أنه سيفوز في الرهان ويكتسب اللغة.
الآن بعد ثلاث سنوات صار “كيم” يتحدَّث العربية بكل طلاقة.. وأتقن لهجة البلاد أيضاً، حتى أنه لم يعد يستطيع أحدٌ منَّا إسكاته!!
قد تؤثر فعلاً البيئة المحيطة على الإنسان ولكن هذا التأثير سينتهي عند أول تحدٍّ له معها، قد نواجه عراقيل وصعاب ولكن هذه الصعاب لا تعوِّقنا بل هي التي تصنعنا.
نجد في القرآن الكريم نماذج لأشخاص عجزت البيئة المحيطة بهم على تغييرهم أو تغيير مصائرهم.. فامرأة فرعون التي عاشت مع أكبر طُغاة الأرض اختارت طريقها بنفسها عندما قالت ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ﴾، وبالمقابل ابن نوح -عليه السلام- الذي تربَّى في بيت النبوة يقرر ألَّا يركب السفينة، وامرأة لوط -عليه السلام- أبَت إلَّا أن تكون من الغابرين.
سألتُ يوماً شخصاً من الذين بَنوا أنفسهم من اللاشيء: ما أفضل ماواجهك في هذه الحياة؟
أجابني: همومي
قلتُ لهُ: همومَك!!
قال: نعم، فـمن أجلها صارعت مصاعب الحياة
فتذكرتُ حالي ذات يوم عندما تراكمت على كاهلي الهموم حتى ظننتُ أنها لن تنتهي حتى تُنهيني معها، ولأكون صريحةً سأقول كادت تُدخلني همومي في دوَّامة من الكآبة والرَّتابة حتى وجدتُ ظالَّتي في القراءة.. وعشقتُ الكُتب.
أنقذتني كتبي من الجُنون والغضب وعلَّمتني الحُب، بل وأكثر من ذلك! خلَّصتني القراءة من عبءِ الوحدة وأنقذتني من مرَضٍ محتم وفتحت لي آفاق لم أكن أعرفها من قبل.
جعلتني كتبي أفضل ممَّا كنت عليه، صرتُ أقلُّ امتِثَالاً لظروف فرضها عليَّ محيطي حتى تغلَّبتُ عليه.
صرت أمتنُّ لتلك الهموم التي صنعتني، ولكل الأشخاص السيئين الذين توقعتهم أفضل لكنَّهم خذلوني وللأيام الصعبة التي ظننتُ أنها لن تمر ولكنَّها مرَّت بفضل الله.
فكل ما سبق كان دافعي لأُصبح بهذه القوة والنضج.
وممَّا أخبرتني به كتبي قصَّةُ “الأصمعي”،التي تحكي عن الإصرار في التغيير رغم كل الظروف المحيطة، سأُحاول إيجازها ما استطعت..
((كان الأصمعي فقيراً مُعدماً وكان لهُ جارٌ بقَّال كلما رآه خارجاً من بيته سألهُ: إلى أين؟
فـــيجيبَهُ: إلى فلانٍ المُحدِّث
وإذا عاد سألهُ: من أين؟
فيُجِيب: من عند فلان اللَّغوي والإخبَّاري
فيقول له البقال في كلِّ مرَّة يسأله فيها: يا هذا اقبل نصيحتي ، انت شابٌّ.. لا تُضيع وقتك في هذا الهراء واطلب عملاً يعُود عليك نفعه، وأعطني جميع ماعندك من كتب فأَحرِقُها لك.. فـواللهِ لو طلبت مني بجميع كُتبكَ جزرةً ما أعطَيتُكَ
حتى صار “الأصمعي” يخرج من بيته ليلاً ويدخله ليلاً تجَنُّباً للقاء جاره البقال.
زادت على “الأصمعي” ضيقة الحال حتى لم يعد يهتدي لنفقة يومه، وبينما هو كذلك أتاهُ رسول أمير المؤمنين “هارون الرشيد” يخبره أن الأمير اختاره ليكون معلِّماً لابنه -في بغداد- لِما سمعه عنه من علمٍ وأدَب، ذهب “الأصمعي” مُلبياً أمر أمير المؤمنين وأقام معه حتى تعلَّم ابنه القرآن الكريم وتفقَّه في الدين وروى الشعر واللغة، فلمَّا رأى “هارون الرشيد” ما آل إليه حال ابنه أزجل لـــ”الأصمعي” العطاء وأتته الهدايا من كلِّ جانب.
فــــاشترى “الأصمعي” عِقاراً وضِياع في البصرة وعندما رجع أقبل أهلها لتحيَّته بعد أن فشَت فيها أخبار نعمته؛ فإذا بجاره البقَّال يقف بينهم يرتدي جبَّة قصيرة وعلى رأسه عمَامةٌ وسِخة فلما رأى “الأصمعي” صاح: عبدُالملِك!!
فضحك وقال له: يا هذا، واللهِ قد جاءتني كتبي بما هو خيرٌ من الجزرة))
لا تبرر فشلك لانتمائك إلى مجتمع مُحبِط أو أسرة متوسطة الذكاء أو وجودك في بلد لا يعترف بالإبداع ولا يدعم المواهب، أو حتى تبتعد في مبرراتك لتقول أنا محسود؛ فحقيقةً لا أعلم متى ينتهون من حياتنا أولائك الذين يربطون فشلهم بالعين والسحر والجن!
ولأكون أكثر واقعية سأقول أن هناك مصاعبٌ قد تؤثر فعلاً لكنَّها لا تُعرقل.. قد تؤخرك لكنها لا توقِفُك.
اجعل كلَّ محبطٍ في حياتك كصاحب الجزرة في حياة “الأصمعي” ولا تمنح لظروفك فرصة السيطرة عليك؛ إن شئت اقفل الكتاب الآن وفكِّر في ألف مبرِّرٍ لفشلك.. لكن في الحقيقة كل هذه المبررات هي مواطن القوة بالنسبة لك.
وتذكر دائماً أنك وحدك من تصنع التغيير.
من كتاب: مالم تخبرني به أمي