محمود الغتمي
صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى سنة 2021م عن وزارة الثقافة والتنمية المعرفية بطرابلس، وجاء في 136 صفحة من القطع المتوسط، وهو من جَمْع وإعداد الباحث والمؤرخ الأستاذ علي الهازل، وهو من أهداني نسخة منه، فله واجب الشكر والتقدير.
الكتاب هو لِعَلَمٍ من أعلام ليبيا في القرن العشرين، أو كما يَحلو لطلابه أن ينادوه (عميد الجغرافيين الليبيين) الأستاذ الدكتور الهادي مصطفى أبولقمة (1934-2017م) الأكاديمي، والباحث، والمترجم، ورجل الدولة، فقد تقلّد منصب وكيل الجامعة الليبية في الفترة 1970-1973م، ثم رئيساً للجامعة ما بين عامي 1974-1976م وهي السنوات التي شهدت تأسيس المدينة الجامعية في بنغازي وإنشاء كلياتها وأقسامها العلمية، وكان خلال تلك الفترة رجل دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بشهادة العديد من زملائه وطلابه.
كتب الفقيد سيرته في أواخر حياته بعد أن بلغ الثمانين، ويبدوا أنه اعتمد في كتابتها على ذاكرته فقط، ولذلك لم يُقسِّمها إلى أبواب أو فصول، بل جاءت تحت عناوين جانبية، حاول أن يسير فيها على نسق زمني منذ ولادته، إلّا أنه كثيراً ما كان يَقطع هذا الترتيب ليذْكر بعض الأحداث من فترات متداخلة، وإذا حسبنا عدد الصفحات التي كتبها عن سيرته وأحداثها ومشاهدها، نجده لا يتجاوز 95 صفحة، وباقي الصفحات عبارة عن ملاحق عددها سبعة، تشمل: قائمة برسائل الماجستير والدكتوراه التي أشرف عليها، وصورة من شجرة عائلته، وقصيدة في مدحه للشاعر محفوظ البشتي، ومختصر سيرته الذاتية والإدارية، وصور وثائقية من مختلف مراحله العمرية، ووثيقة تاريخية تخص والده (في الواقع تخص جده الحاج رمضان وليس والده).
بدأ المؤلف الكتابة عن مولده في مدينة الزاوية في سنة 1934م، لأسرة ميسورة الحال، ووالده الحاج مصطفى كان يُعرَف بلقب الرايس، وهو لقب يدل على مكانته الاجتماعية المرموقة في مدينة الزاوية.
ولم يُطِل الدكتور الهادي في الحديث عن المرحلة الأولى من حياته في مدينة الزاوية، ومراحله التعليمية المبكرة، ومرّ مرور الكرام عند الحديث عن دراسته في أول مدرسة ثانوية في مدينة الزاوية وهي مدرسة النهضة التي فتحت أبوابها يوم 07 يناير 1949م، لأنه انتقل بعدها لثانوية طرابلس؛ حيث نال منها الشهادة الثانوية، وذَكَر بعض التفاصيل الطريفة في مسار حياته الجامعية، وكيف أنه كان يرغب في دراسة القانون، ولم يكن يفكر في التخصص في الجغرافيا وهو المجال الذي أبدع فيه، وأنه تواصل مع معظم كليات القانون في مصر، ولكنهم رفضوا قبوله، رغم أنهم قبلوا بعض زملائه من الطلّاب الليبيين، فسجّل في قسم الجغرافيا في جامعة القاهرة، وارتبط في القاهرة بصداقة حميمة مع زميلين بارزين هما جمال حمدان، وإبراهيم زرقانة، اللذان أصبحا من أعلام الدراسات الجغرافية في العالم العربي.
نال الدكتور أبولقمة شهادة الماجستير من جامعة درهام في بريطانيا سنة 1960م، والدكتوراه من الجامعة نفسها سنة 1964م، وهي الجامعة ذاتها التي تخرّج فيها أستاذان ليبيان آخران في التخصص نفسه وهما الدكتور مختار بورو، والدكتور محمود الخوجة.
تطرّق الدكتور الهادي في سيرته إلى فترة توليه رئاسة الجامعة الليبية بين عامي 1974-1976م وإن كان باختصار، وهي فترة كانت تمور بتغيرات جذرية في عهد النظام السابق، فالمد الثوري كان في أوجه، ولم يكن يستطع الدكتور أبولقمة بشخصيته الهادئة الوديعة أن يقف أمام ذلك التيار الجارف، فذهب ضحية الفوضى والغوغائية التي سادت المؤسسات التعليمية آنذاك، وقدّم استقالته احتجاجاً على تلك الأوضاع.
هذه سيرة أحد العلماء الليبيين الذي أفنى عمره في الكتابة، والبحث العلمي، والترجمة، وترك حصيلة علمية مُشرِّفة تزيد عن عشرين كتاباً، والمئات وربما الألاف من الطلاب في ربوع أنحاء ليبيا، صحيح أنها جاءت في أواخر عمره، ولذلك نلاحظ أنها كانت مقتضبة جداً، وتظهر أحداثها في أحيان كثيرة غير مترابطة، بل ربما مشوشة، وهناك غموض يشوب بعض التفاصيل مثل في (ص 96) عندما تحدَّث عن جهوده أثناء رئاسته للجامعة الليبية في الاستعانة ببعض كبار الأساتذة من العلماء العرب؛ حيث تعاقد مع صديقه الدكتور إبراهيم زرقانة أحد أبرز المختصين في الجغرافيا، وكذلك نجح مبدئياً في الحصول على موافقة صديقه الدكتور جمال حمدان في أن يكون ضمن الكادر التدريسي بالجامعة، غير أنه (الدكتور حمدان) أصيب بنوبة قلبية أدَّت إلى وفاته، في حين أن المفكر جمال حمدان توفي في 17 أبريل 1993م، وليس في بداية عقد السبعينيات!!
وهذا الخلط في التواريخ متوقع من رجل بلغ نحو الثمانين من عمره عند كتابة سيرته، ولذلك لم يحفل كثيراً بإعطاء تواريخ محددة لمعظم الأحداث التي ذكرها، لأنه يكتب من ذاكرته، وليس اعتماداً على تدوينات، ويوميات، ووثائق يركن إليها.
رحم الله الأستاذ الدكتور الهادي أبولقمة، فهو يظل ركناً من أركان العلم والمعرفة في بلادنا، والشكر موصول للأستاذ المؤرخ والباحث علي الهازل لاهتمامه بسيرة أستاذه إلى أن خرجت إلى النور، ولم يُقدَّر لكاتبها أن يراها صادرةً في كتاب، فقد توفاه الله في شهر أبريل سنة 2017م، قبل أن يصدر الكتاب.