كان المساء باذخاً وهو يرخي سدوله .. وعتمة الليل تنثر الظلام وتطوق المكان وأنا أصعد درجات السلم الرخامي .. وعندما وصلتُ وطرقتُ الباب .. وفي توقيت وتزامن تفاؤلي جميل جادت علينا شركة الكهرباء بأنوارها الساطعة.. وأنا لازلتُ واقفاً ومنتظراً أمام الباب الموصد … وحين فتح على مصراعيه لدخولي … ارتسم خلفه وجه أصيل وابتسامة ترحيب تعكس المحبة والود وحرارة الاستقبال على شفاه وعيون الأستاذة حواء القمودي والأستاذ علي المقرحي وهما يستقبلاني في بيتهما العامر بكل الدفء، والكتب، والنور المنبعث من شمعةٍ منتصبة بيننا ظلت تحيا لأجلنا رغم سخاء شركة الكهرباء بنورها طوال جلستنا القصيرة.
ووسط عناوين الكتب المتعددة وحلو الكلام الطيب والنقاش الفكري مع الأستاذ علي والشاعرة حواء وحكايات السفر والحل والترحال جادت علينا المضيفة بثمار “البرونصي” اللذيذة وأكواب عديدة لم نلتفت إليها طوال جلستنا المسائية فقد بقينا نشوى بعذب الحديث الرقراق والابتهاج بصدور الانطولوجيا الليبية لقصيدة النثر التي استلمتُ نسختي المهداة إلي، وكلي أمل بأن تصدر الأستاذة حواء القمودي قريباً مطبوعاً يخصها، لأنها وبكل مرارة وأسف، وحتى هذا الوقت ورغم دراساتها النقدية العديدة ومنشورات لقاءاتها ومقالاتها الصحفية ونصوصها الشعرية فهي لم تصدر مطبوعاً خاصاً بها وهو ما يجعلني أتسأل لماذا ..؟ لماذا حرمان القاريء الليبي من ذاك الجهد المثابر والمنتوج الابداعي المهم الذي يضيف الكثير للمشهد الشعري والصحفي والأدبي … لماذا أستاذة حواء؟
ظللتُ أكرر السؤال منذ سنوات .. وظلت الإجابة تغيبُ عني في كل مرة … ومع هذا فلن أنثني !!
تصفحتُ الانطولوجيا والتي ظهر عنوانها (قصائد تضيء الطريق من طرابلس إلى القاهرة) التي أعدتها الأستاذة حواء القمودي الحافي وكتبت تحت عنوان “قصيدة النثر الليبية عارية تسابق الريح” تقول عنها (.. في هذه الانطولوجيا، سنجد هذا التنوع، هذه الأجيال التي تنتج نصها من خلال تجربتها الخاصة، تنحت من حزنها وقلقها هذا النص المراوغ، النص الذي جعلت منه قصيدة النثر فضاء للبوح، صرخة وهمساً، ضجيجاً وصمتاً، بمفردات من الشارع والمقهى، من حميمية البيوت وأيضاً من بردها الذي يأكل الروح، قصيدة ضجرة وهاتكة ستر، لا تحب الرياء ولا تعرف المراوغة، لكنها أيضاً حنونة وباعثة حياة…)
وقدم لها الشاعر والناقد رامز رمضان النويصري بدراسة تتبع فيها بدايات وتطورات مسيرة قصيدة النثر فجاء عنوانها واسعاً وشاملاً (قصيدة النثر في ليبيا) تضمنت: مقدمة من أجل البحث في العمق، ما يمكن أن نسميه البداية، صياغات النص الجديدة، من أجل البحث في المستويات الإشكال والأشكال، الإشكال: الوعي واللاوعي، الأشكال: جدوى الكتابة، النثر للنثر، النثر للإيقاع، النثر للقطع، قصيدة النثر نص الإنطلاق) وقد ركز الشاعر في دراسته التوثيقية القيّمة المواكبة لولادة قصيدة النثر وتتبعها في ليبيا على نقطتين هما الأبرز، في تصوري، وهما أولاً: هوّية النص، وهذا يطال كل الابداعات الليبية وليست قصيدة النثر فحسب، والتي يؤكد بأنها صدى للمشرق العربي المترجم للآداب الغربية كافة، وثانياً التطور الفني في صياغة قصيدة النثر وتحديات الاعتراف بها في الأوساط الشعرية والأدبية كافة.
ومن خلال قراءتي السريعة للأنطولوجيا الصادرة حديثاً لقصيدة النثر الليبية دوّنت عدة ملاحظات لعل أبرزها:
(1) تحتوي الانطولوجيا نصوصاً لأربعة وثمانين (84) شاعراً ليبياً من بينهم شاعرة فلسطينية واحدة وهي وجدان شكري عياش، وهو عدد كبير يدل على حجم الجهد المحترم المبذول في التواصل وإعداد هذه الانطولوجيا التي تضمنت صفحة بيانات وسيرة عن كل شاعر ثم نصوص مختارة تفاوتت بين القصير والمتوسط والطويل.
(2) الأسماء المنشورة في الانطولوجيا تعكس ترابط الأجيال المبدعة لقصيدة النثر الليبية والتي ترجع بنا إلى نصوص الشاعر الراحل علي صدقي عبدالقادر المولود سنة 1924، والذي يمكن أن نطلق عليه رائد قصيدة النثر في ليبيا وتتواصل مع نصوص الشاعر الشاب أنيس فوزي المولود سنة 1993م.
(3) تضمنت الأنطولوجيا شاعرين مع بعض أفراد أسرتهما الشاعرة، حيث ورد فيها الشاعر عبدالفتاح البشتي وكذلك ابنه أوس عبدالفتاح البشتي، والشاعر سالم العوكلي وابنته فيروز سالم العوكلي، وهذا قد يلفت الانتباه لضرورة الاهتمام بدراسة الأسرة الشاعرة أو المبدعة إجمالاً ونماذج لتوارث الدور الإبداعي في المجتمع الليبي.
(4) شمولية الأنطولوجيا حيث ضمت العديد من الأسماء المبدعة سواء التي لازالت على قيد الحياة أو المتوفاة رحمهم الله، أو المحسوبة بانتماءاتها لتيارات سياسية وأيديولوجية معينة، وهذا يؤكد شفافية العمل وابتعاده عن الإقصاء والإبعاد وفق توجهات فكرية مختلفة.
وأخيراً … كان الشاعر الراحل أحمد الحريري يختتم مقاله الصحفي غالباً بكلمتين (قولوا يا رب) و(القلبُ يصفق) .. وأنا هنا في هذا التقديم القصير أحتفي بهذه الانطولوجيا الليبية المهمة لقصيدة النثر بكل الفرح والابتهاج بهذا العمل الذي يحضن أسماء شابة واعدة ما كانت لتحظى بهذا التدوين والاهتمام، لولا جهود الأستاذة حواء القمودي والأستاذ رامز النويصري، وكذلك الأوساط المصرية التي رحبت بهذا العمل، فالقلب يصفق لكم جميعاً بكل الشكر والتقدير على جهودكم الذي رغم ما ظهر به من قصور تجميعي وموضوعي أو فني طباعي، سيظل محط تقدير واعتزاز من كل مؤمن بأن الابداع هو العصمة التي تحمي المجتمع من القبح والتطرف وتنتشل الأرواح من بؤسها وتصحرها لتنهض ببلادنا ليبيا الحبيبة .. فلكم مني وافر الامتنان ومزيداً من التألق.