[1]
مع أول بدايات اليوم الجديد في المدينة تبين أنّ المحكمة لا تحتمل التأجيل أو التأخير فقد دعت مسرعةً المولى جحا للمثول أمامها ولكن تحت قبة البرلمان، بتهمة أنّه قال على الملأ وفي إحدى الساحات المشعشعة بضوء القمر، والتي كانت غاصة بالرجال والنساء والشباب والشابات، ومن دون خوفً أو وجل وبكل بساطة إنّ: “حكماء ومفكري وعقلاء وأساتذة المدينة لا يعرفون ولا يعقلون ولا يعلمون عما يتكلمون وينتحلون الكلمات الفضفاضة ويدورن على الفاضي في تشخيص وفهم الواقع الذي تعيشه المدينة في الآونة الأخيرة “…
وحدث أنْ يكون وزير الثقافة والعلم والمعرفة حاضراً لحساسية الموقف وخطورته على أمن البلاد ومصالح العباد للقيام باستجواب المولى جحا أمام هذه النخبة، بينما جلس خلف الوزير سبعة من شهود أفراد حكماء وعقلاء المدينة للمساهمة في هذا الاستجواب، وقد شارك في هذا الاستجواب أهم المحللين السياسيين وفلاسفة المجتمع والمؤرخين العباقرة وأهم أعلام الفكر والصحافة ومراكز الإنماء البشري والاقتصادي والتعليمي وخبراء نحو اللغة العربية…
[2]
وها هي الريح التي على رأس قبة البرلمان ورأس الجميع تتراقص بنبل ورشاقة تنبس السمع نبساً وأخذت تكتب على سطح القبة ستين سطراً عن نوازع القلب وعن سياط الذل من عهد لعهد، وعن السيول الزائلة، وفي صمتٍ عن سحائب المرايا التي تنشد الأحكام التي لم تكتحل يوماً بالخبز والماء.. وها هم بعض الناس يحضرون الجلسة نصف نيام تحت قبة المجد وزهو التاريخ تستمع للريح ولعزفها الشجي.. عند ذاك كان وزير الثقافة يتأمل كل شيء حوله وقد غزى السيب رأسه.. ومن العادة في يوم الاستجواب لا أحد غريب من الحاضرين وقد يكرم المرء أو يهان.. وها هي الريح في مسيرتها تنحو نحو رحاب رماح عبء الكلام القادم من تجاويف السنين وعتمة الدروب…
[3]
تقدم الوزير في طلعته البهية، أنفه دقيق وعيناه واسعتين وقال للمولى بصوت رخيم: ما قولك فيما نُسب اليك من تهمٍ وتطاول على أهل العلم والمعرفة والتفكير الناقد وخبراء المجتمع المدني وكتبة التاريخ وأهل القانون وفقهاء الحقوق من أقوالٍ تحط من قدرهم وتقلل من شأنهم دون مراعات لمشاعرهم الفهمية وعقولهم الذهبية وخبراتهم المتعددة؟ تنهد الوزير بعد السؤال والقى السمع مبتسماً بخبثٍ ذكي.. هزّ جحا منكبيه، تابع كلام الوزير باِهتمام، تطلع أمام بصره، تأمل جمال القبة، ظلّ يتطلع للجميع صامتاً يتأمل سحنة الذكاء والفهم لدى العباقرة المصونين، تنفس بعمق، ثمّ قال بابتسامة باهته فيها بعض الغموض: حسناً، حسناً حتى يكون الأمر سهلاً على المحكمة الموقرة وعلى الجميع؛ إذا أذن لي معالي الوزير أن أسال هؤلاء الحكماء السبع سؤالاً واحدً على أنْ أكتب السؤال على ورقةٍ يطّلع عليها كل حكيم على حاله دون أن يعرف بقية الحكماء النجباء ما هو السؤال ودون أن يطلع أحدهم على إجابة الآخرين، وفي اللحظة نفسها الريح تدور في مدارها، ثمّ قال بنبرة واثقة: ستعرف يا سيدي فيما بعد ما الذي دعاني إلى قولي ذاك الذي تفضلت به.. تنهد الوزير وقال بصوت عميق التأثير على السمع وفي الذهن وأمام الجميع: يا لك من رجل غامض لا ثقة لي فيك…
[4]
تسلل الريب والشك إلى عقل وزير الثقافة كما سرت في المحكمة حالة من الرتابة والضجر، الناس تنصت مندهشة غير مكترثة بما يجري. ظلّ جحا صامتاً وقد تجلى الرضا في وجهه…
كتب جحا السؤال على سبع ورقات واعطى كل حكيم ورقة. تلقف الحكماء السؤال وكل حكيم عبقري قرأ السؤال في صمتٍ تام: “ما هو الخبز“…
انقضت برهة بسيطة، انكب كل حكيم يكتب إجابته، مضى جحا واقفاً صامتاً.. جمع وزير الثقافة الإجابات عند الانتهاء منها وشرع يقرأها الواحدة تلو الأخرى إجابة عن السؤال: ما الخبز؟ دهمت الوزير قشعريرة لتوه وهو يقرأ:
[5]
الأول يقول إنّ الخبز طعام مفيد، الثاني قال إنّه دقيق وماء، الثالث قال إنّه نعمة من الله، الرابع قال إنّه رغيف يشبع الناس، الخامس قال إنّه غذاء صحي، السادس قال إنّه يعتمد الأمر على نوع الخبز محلي وإلا مستورد، أما السابع فقد قال لا أعرف حقاً أظن أنه دقيق وخميرة وملح وربما بعض الكمون الحلو.
قرأ رأس الثقافة الوزير النجيب الإجابات بصوتٍ عالٍ، هي الإجابات بلاء مراء واضحة التفكير.. سمعت المحكمة الإجابات وسمع جحا ذات الإجابات فغرق في حالة من الذهول ثمّ الضحك، ثمّ مطّط فاه ثمّ قال على مسمعٍ من المحكمة وهو يثمل بنشوة خفية: يا سيدي الوزير كيف يمكنك أنْ تثق في إفادة وإجابة هؤلاء العقلاء النجباء المخضرمين أهل الخبرة والمعرفة والرؤى الثقافية والسياسية، إنها حقاً إجابات وليس أوهاماً، ولكن يا سيدي ألم تنتبه بأنهم لم يتفقوا بتاتاً في الإجابات عن معنى شيء بسيط يأكلونه كلّ يوم…
[6]
لم يتفوه الوزير بأي كلام وأكل كل حكيم رغيف خبزه، وظلت الريح تتراقص برشاقة وطيب خاطر فوق قبة المحكمة وعند بوابة المحكمة كان حمار جحا يقف منتظراً وصوله رغم أنّه لا يطيق الانتظار، يقف مشرعاً أذنيه ثابتاً مثل تمثال وضبح عن أسنانه وسأل صديقه: كيف كان الاستجواب؟ ضحك جحا وأقترب من حماره في تمهل شديد وقال: أما أنك حمارٌ عجيب!