1
إنه الثلاثاء يعود مجددا.. عاد بعد عناء انتظار.. يختلف عن سائر أيام الأسبوع.. إنه اليوم المحبب إلى قلبي دون باقي أخوته الستة.. ليس لأنه يتوسط الأسبوع ولا لأي سبب آخر قد يخطر ببالك.
إنه سبب قد لا يكون مقنعا لك ولا للأخرين.. لكنه كذلك بالنسبة لي.
انهيت صلاة العصر في مسجد حينا، وانطلقت مسرعا إلى مكتبة عم بشير..
إنه اليوم المنتظر والوقت المرتقب..
سبقني بعضهم للوصول.. ربما لأنهم صلوا في بيوتهم لكسب بعض الدقائق وإما لأنهم يسكنون في أحياء أقرب إلى المكتبة من حينا.. لم يسبق أن كنت أول الواصلين على الرغم من محاولاتي المتكررة.
إنه اليوم المشهود.
2
تعلقت بالمكتبة ذات صدفة.. سمعت عن افتتاحها وعما تحويه من قصص مثيرة ومغرية.. رأيت بعضها عند صديقي مختار..
إنه محظوظ فبيتهم لا يبعد عن المكتبة إلا خطوات قليلة.. أما أنا فعلي أن أتكبد مشاق عديدة للوصول.. خاصة أن عمري حينها لا يسمح لي بالذهاب أبعد من حينا.
3
كانت مكافأة.
بل أعظم مكافأة تلقيتها في حياتي.. لم تكن تبدو كذلك حينها.. لكنها اكتسبت قيمتها مع مرور الوقت.. بعدها لم تعد حياتي كما كانت قبلها.
ارسلني ابي لأداء شيء ما.. يبدو أنى قمت به على أحسن ما يكون على عكس العادة.. رأيت ذلك في عينيه فتجرأت وتجاسرت وتشجعت وطلبت منه خمسين قرشا.. لم يكن ليعترض عندما أخبرته أني أرغب في شراء كتاب أو مجلة من المكتبة التي فتحت حديثا.
إنها المرة الأولى التي أقف فيها هذا الموقف.. شعرت بأن عمري تقدم سنوات.. لم أعد ذلك الصبي الذي يخشى من عبثه.. نظر إلى عم بشير كما ينظر لفتى.. ابتسم لي وسألني عن حاجتي:
– نبي نشري مجلة ولا كتاب.
عزز ابتسامته بنظرة مشجعة وأشار نحو أرفف المجلات.
4
رهبة الموقف أصابتني بقشعريرة.. كانت الأرفف تزدان بالمجلات.. أغلفة جميلة، زاهية، مثيرة، مغرية.
اقتربت بخطوات حذرة.. تفحصت بنظرات نهمة.. تجرأت.. تناولت أول مجلة.
بساط الريح.. قلبت صفحاتها كدت أسارع لشرائها لولا أني تريثت لتفحص وتصفح ما تحويه باقي الارفف.
مغامرات الفضاء.. غرندايزر العملاق يتوسط الغلاف.
سوبرمان.. بقميصه الازرق وعضلاته المفتولة.
الرجل الوطواط.. بغموضه وثيابه السوداء.
سامر.. برسوم مضحكة على الغلاف.
عنترة بن شداد فوق حصانه شاهر سيفه.
الأمل.. طال تصفحي لها بعد أن نبهني عم بشير أنها مجلة ليبية بينما الاخر يأتي من لبنان.
الرف الثاني كانت به مجلات أخرى عناوين فخمة؛ المختار، العربي، الدوحة، الكفاح العربي، النهضة، اليقظة.
من الواضح انها لأعمار أكبر من عمري.. توجهت الى الرف الثالث.. كانت عناوينه أكثر إثارة: الصقر، الرياضي.
في طرف الرف بعض العناوين الأجنبية لمجلات رياضية يبدو أنها مهمة بدليل سعرها الذي يتخطى الخمسين قرشا بمرة أو مرتين.
5
كانت الخمسين قرشا التي تعد ثروة قبل دخولي للمكتبة قد فقدت قيمتها السوقية. لم تعد تكفي إلا لشراء مجلة واحدة بينما نفسي تتوق لكل هذه الكنز.. وقفت حائرا في اختيار ما يسد فضولي وشبقي للقراءة ..
يبدو أن عم بشير استغرب استغراقي.. ربما شك في أن لي نوايا خبيثة وراء وقفتي التي طالت.. نبهني قائلا بين توبيخ وتحذير:
– هيا أسرع..
صارحته بسبب حيرتي:
– إنها الخمسين قرش..
بدت الحيرة على وجهه الذي شقت بعض التجاعيد صفحته السمراء
– يمكنك أن تشتري مجلة واحدة بالخمسين قرش..
أشار لصف المجلات العلوي هذه سعرها أقل من خمسين قرش.. أما هذا الرف فمجلاته تزيد عن الخمسين قرش.. عليك أن تختار بين مجلات الأطفال أو المجلات الرياضية.
ناولته الخمسين قرشا لأبرر وقوفي وابرأ ذمتي.. بقي الشطر الثاني من الصفقة.. ناولني مجلة بساط الريح وسامر لكني اتخذت قراري أخيرا لسبب أجهله.. مجلة الصقر كانت خياري.
6
إنه الثلاثاء يعود مجدد..
هذه المرة في جيبي ما يكفي لإطفاء نيران رغبتي لأسبوع على الاقل.. عدت وفي جعبتي عدد جديد لمجلة الصقر وبساط الريح وسامر والامل.
إنه الثلاثاء يتحفنا بكل ما تنتجه المطابع.. اتنفس روائح تلك البلدان من خلال تلك المجلات.
إنه الثلاثاء الذي بسببه صرت مدمنا لأسواء انواع الادمان..
إنه ادمان لا علاج له إلا الموت..
رحم الله عم بشير وتحية لكل رفاق المكتبة الكرام