دائما، عند تعاملي مع الأعمال الإبداعية، أركز على ما يجعل نصا ما نصا أدبيا. أي أن اهتمامي ينصب على البعد الجمالي الذي يوفر متعة القراءة. فالأعمال الإبداعية هي أعمال جمالية تستهدف المتعة بالدرجة الأولى، ولا أهتم بمواضيع هذه الأعمال كثيرا، على أهمية المواضيع. ذلك أن الموضوع يمثل “هيولى” يقوم المبدع بتشكيلها، أي إعطائها شكلا يوصف بأنه جمالي.
وهذا ما سنحاول تبينه في تعاملنا مع رواية “رحيل أريس” للدكتورة الروائية والناقدة فاطمة الحاجي.
الرواية مروية بضمير المتكلم، وإذن هي رواية يسودها الصوت الواحد الذي يسرد علينا أحداث الرواية.. ينتقي من الأحداث ما يريد أن يفصح لنا عنه ويحجب ما لا يريدنا أن نعرفه. فهو يسرد علينا تجربته الشخصية ومعايشاته، على خلاف الراوي العليم كلي الحضور، وفي هذا قد يكون الراوي بضمير المتكلم أقل موثوقية ومصداقية من الراوي العليم.
لكن هذا الصوت المتمتع بالسيادة يُعترض ويُخترق في أكثر من مكان في الرواية، بحيث يدخل عنصر ما يسميه باختين بـ “الحوارية Dialogism” أو “تعدد الأصوات Polyphony”، ولا يَقدح في هذا الاختراق كونُه يصل إلينا من الطريق الذي يتحكم فيه هذا الصوت السيد.
أول اختراق لهذه السيادة يحدث في أحد مراكز الشرطة بتونس الذي يُحتجز فيه موسى (بطل الرواية المتكلم والشخصية الأمنية رفيعة المستوى في النظام السابق والطامح إلى إعادة هذا النظام والانتقام من أعدائه) وعامر (الشخص الفقير المعادي للنظام والطامح إلى إقامة نظام ديموقراطي” على أثر اعتداء الأول على الثاني بالضرب وإيذائه. في مركز الشرطة يتعامل معهما حارسهما، ضابط الشرطة التونسي المثقف المحب للمسرح الذي كان يطمح إلى أن يكون ممثلا مسرحيا، إلا أن ظروفه لم تمكنه من ذلك، وصار يرى أن الحياة ذاتها مسرحية وأننا مجرد ممثلين في هذه المسرحية التي ننتحل فيها شخصيات متعددة ونؤدي أدوارا مختلفة.
فشخصيتنا في العمل ودورونا يختلف عن شخصيتنا ودورنا في البيت، أو مع أصدقائنا. ضابط الشرطة هذا، المساند مثل عامر للديموقراطية، يقترح على الخصمين أن يقوم كل منهما بالتعبير عن رأيه بحرية ويقوم هو بدور المخرج لهذه المسرحية (ص 84- 89) والحكم بين المتنازعين، ويكون موقفه في النهاية إلى جانب عامر ضد موسى. وهنا نكون أمام مسرحية قصيرة متكاملة الأركان يحدث فيها اختراقان لهذا الصوت الواحد من قبل ضابط الشرطة وعامر.
أريد أن أقف هنا عند مسألة الديموقراطية في هذه المسرحية. فضابط الشرطة، المخرج والحكم، يمثل في نهاية الأمر، بصفته ضابطا، سلطة، وإن كانت ذات بعد ديموقراطي. وهذا يجعلنا نستنج، دلاليا، أن هذه الديموقراطية مربوطة برسن وتمر بمصفاة هذه السلطة التي تستخدمها لفائدتها.
يحدث أيضا اختراقان آخران لهذا الصوت من قبل بابكر ونور، يكون فيه صوت بابكر محايدا ومستقلا، على حين يمثل صوت نور صوتا نقيضا لصوت موسى رغم علاقة الحب بينهما وما جرى بينهما من أفعال حميمة.
البعد المسرحي يمثل، في رأيي، نخاع هذه الرواية. فالشخصيات الرئيسية فيها (موسى، عامر، حور) تتنكر في شخصيات أخرى لا تعبر عن حقيقتها وتقوم بدورين مختلفين، دورها كشخصية منتَحلة ودورها كشخصية خفية وراء هذه الشخصية المنتحلة.
• فاطمة سالم الحاجي. رحيل أريس. خريف للنشر (د. م)، (د. ت)
بوابة الوسط | الأحد 05 مارس 2023.