كمال الرياحي
يقول جان بول سارتر “العمل الأدبي يدوم ما دامت القراءة، وفيما عدا هذا لا وجود إلاّ لعلامات سود على ورق“؟
لعلّ هذا التجاهل النقدي هو ما دفع بعض الكتّاب المغاربة إلى اكتفاء ببيضة الديكّ الشهيرة، فكانت ولادة رواية الواحد منهم ولادة قيصرية انتزع معها رحم الإبداع ودخل صدفة صمته الأبدي. بينما فضّل الطرف الآخر تحدّي ذلك الجحود النقدي فتناسلت أعماله مؤكّدة متنا روائيا مغاربيا بدأ يفرض عالمه التخييلي الخصب ويفرض خطابه السردي الخاص.
إنّ المتأمّل في نشأة الرواية المغاربية يلاحظ اقترانها بالمقاومة وينسحب ذلك الكلام على كل الأقطار المغاربية تقريبا وما دمنا سنتحدّث اليوم عن الرواية الليبية فيجدر بنا الإشارة إلى أن الرواية الليبية، حسب آخر مراجعة بيبليوغرافية، تعود نشأتها إلى نصّ “مبروكة” لصاحبه حسين ظافر بن موسى الذي نشره على حسابه الخاص بسوريا سنة 1937 قبل أن تصادره السلطات الفرنسية هناك لما وجدت فيه من فضح للممارسات غير الإنسانية التي كان الاستعمار الإيطالي يقدم عليها في حق الشعب الليبي.
وتدور أحداث هذه الرواية حول شخصية مناضلة ليبية اسمها “مبروكة” تطوّعت في كتائب المجاهدين بعد أن استشهد كل من والدها وأخيها ويروي النصّ نضال هذه المرأة قبل أن تسقط في آخر الرواية شهيدة هي وحبيبها مصطفى برصاص الطليان.
لكن هذا القران بين الرواية المغاربية والمقاومة سرعان ما فكّ بعد استقلال تلك الشعوب واستقرارها فالتفت الروائي المغاربي إلى مناخات أخرى يغمس فيها قلمه ويحبّر بها عوالم نصوصه.
غير أن هذا التنوّع في الإنتاج الروائي لم يكن ليقطع الحبل السرّي الذي ربط السرد المغاربي بالمقاومة فظهرت نصوص مغاربية في التسعينات وفي بداية هذه الألفية الجديدة تحفر في عمق التاريخ السياسي والحضاري لهذه البلدان، فعاد بعض الروائيين إلى التاريخ القديم وعاد آخرون إلى التاريخ الحديث لمقاربته روائيا ولإحياء سير الأبطال والرموز في محاولة لتأسيس ذاكرة تاريخية من خلال منجز روائي. مؤكّدين بذلك، ربّما، ما قاله الراحل عبد الرحمان منيف من أن الأجيال القادمة ستحتاج إلى قراءة التاريخ عبر الروايات لا من خلال كتب التاريخ الرسمية فالرواية حسب رأيه أصدق إنباء من تلك الكتب التي دوّنت التاريخ في مخافر البوليس.
فعاد الروائي التونسي الهادي ثابت إلى سيرة حنّبعل وعاد الروائي الجزائري واسيني الأعرج إلى سيرة الأمير عبد القادر وهاهو عبد الرسول العريبي في روايته “أبواب الموت السبعة” يعود إلى التاريخ الليبي الحديث وإلى سيرة الشهيد عمر المختار وقصّة نضاله ضدّ الاستعمار الفاشي الإيطالي.
ولكنّ قبل الدخول إلى متن مداخلتنا حول هذه الرواية يحقّ لنا أن ننوّه بقيمة المساهمة الليبية في المكتبة الروائية العربية فقد ساهم الروائي الليبي في اغناء هذه المكتبة بمنجز محترم من الروايات كما ساهم في التعريف بالرواية العربية عند الآخر ولما في تجربة ابراهيم الكوني خير دليل، غير أنّنا لا يمكن أن نختزل التجربة الروائية اللليبية في أعمال الكوني على أهمّية هذه التجربة الرائدة والمتميّزة، فقد زخر المشهد الروائي الليبي على مدى القرن الماضي بوجوه روائية مهمّة منها أحمد ابراهيم الفقيه، الصادق النيهوم، خليفة حسن خليفة.. الى جانب المساهمة النسائية التي مثّلتها كل من مرضية النعاس ونادرة العويتي وفوزية شلابي وشريفة القيادي.. وظهرت في التسعينات أصوات جديدة تبشّر بتواصل العطاء الروائي الليبي مثلها أحمد الفيتوري ومحمد الأصفر وعبد الرسول العريبي الذي نتحسّس اليوم رواية من رواياته.
صدر لعبد الرسول العريبي مجموعة من المؤلفات منها رواية بعنوان “تلك الليلة” 1994 وأعمال نقدية أخرى، كما سبق له أن قدّم مجموعة من البرامج الثقافية للاذاعة و التلفزيون.
***
هل يكفي متن الرواية المنشغل بالمقاومة لنصنّف هذه الرواية ضمن “أدب المقاومة”؟
صحيح أنّ “أدب المقاومة” هو أدب كل الأزمنة لأنّ مصطلح مقاومة حمّال أوجه فالمقاومة تكون ضد المستعمر أو ضدّ الحاكم المستبدّ أو ضد فكر ايديولوجي أو تيّار فنّي، ونقصد بذلك تلك الروايات التي تقاوم سائدا روائيا معيّنا.
إنّ هذه الرواية تأتي متأخّرة عن الأحداث التي ترويها بأكثر من نصف قرن، وهذا يسقط عنها طابعها المقاومي، فأدب المقاومة هو الأدب الذي ينجز في زمن المقاومة والذي تدور رحاه على الأحداث الجارية، ولأنّ هذا النصّ يأتي متأخّرا عن أحداث متنه فهو أدب خارج عن “أدب المقاومة” ولا ينتمي إليه ‘إلاّ من جهة النسب، إنّها رواية تؤرّخ للمقاومة و لا تقاوم.
رواية “أبواب الموت السبعة” رواية ترصد حالة خاصة من حالات المقاومة الشعبية العربية: الحالة الليبية. فليبيا تعرّضت إلى أسوأ صور الاستعمار وليس هذا من قبيل التهويل انّما هي حقيقة تاريخية لأنّ ليبيا هي الدولة العربية الوحيدة التي استعمرتها ايطاليا الفاشية التي لا يمكن مقارنة جبروتها وعنفها إلا بألمانيا النازية، وهذا ما جعل حجم مأساة الإنسان الليبي مضاعفة مقارنة ببقية الأهالي في الأقطار العربية الأخرى التي تعرّضت إلى الاستعمار الفرنسي أو الاستعمار الإنكليزي.
ولكن هل اشتغال هذه الرواية على فترة تاريخية معيّنة ومحدّدة من تاريخ المقاومة الليبية يجعل منها رواية تاريخية؟
وهل أعاد لنا العريبي التاريخ الليبي كما هو؟ و ما حاجة قرّاء الجنس الروائي إلى نصّ تاريخي؟
لقد جعل العريبي من التاريخ ذريعة وأداة في يده ليجترح نصّا روائيا لا يطمح إلاّ لتحقيق حقيقة روائية، لا حقيقة تاريخية، وإن اعتمد الروائي على ما سمّاه الدكتور محمد القاضي بأوتاد التاريخ، التي “تأتي مفصلية من الرواية لتثبت اندراجها في سلّم الأعوام و اتّصالها بالحوادث التاريخية الكبرى“.
والمتأمّل في العتبات التي وضعها العريبي لروايته يلاحظ أنّها جاءت من حضارات وثقافات مختلفة فالأولى آية قرآنية من سورة الحجر والثانية مقطع من التوراة: سفر التكوين، والثالثة مقتطفة من نصّ سومري من قصة الطوفان البابلية.. وضع كل ذلك ليقول إنّ الفجيعة واحدة وأزلية، إنّها فجيعة الإنسان المقهور في أخيه الإنسان القاهر عبر الزمن وعبر الحضارات وما المأساة الليبية غير نموذج لما يمكن أن يفعله الإنسان بالإنسان.
هكذا إذن، يتعالق الخطاب الروائي بالخطاب التاريخي في أكثر من مستوى وفي أكثر من موضع دون أن يخرج هذا الخطاب التاريخي النصّ من جنسه الروائي الموسوم بالتخييل، فالشخصيات على ما حملت من أسماء وملامح وذاكرة واقعية فإنّها لم تكن شخصيات مرجعية صافية بل هي شخصيات روائية تلوّنت بالتاريخي وبالمرجعي.
تدور أحداث رواية العريبي كما سبق أن ذكرنا زمن الحرب الليبية الايطالية التي شنّها المقاومون بقيادة الشيخ عمر المختار على الفاشيست.
وهذا ما جعل الرواية تلوّن مناخاتها بعوالم الحرب. ولكن مع ذلك لا يمكن أن نزجّ بهذه الرواية في ما يسمّى بأدب الحرب، لأنّ لهذا الأدب خصوصياته التي عرفناها في الغرب مع “الحرب والسلام” لتولستوي و”وداعا للسلاح” لهمنجواي و”دروب الحرية” لسارتر، وأغلب تلك الروايات الحربية جاءت كما لو كانت آتية من خط النار، قائم سردها على فضاعة المشهد وعلى تنامي الخوف.
والحق أنّنا لم نجد مقابلا لهذه الرواية / رواية الحرب إلاّ عند جيل من الروائيين العراقيين مثل عادل عبد الجبّار في “جبل الثلج / جبل النار” ومحمد عبد المجيد في “كثير من العشق وقليل من الغضب” وعند إسماعيل شاكر فلح في “الأرض الحرام” وسليم مطر في “امرأة القارورة” وفي كل أعمال الروائي جاسم الرّصيف الذي تخصّص في هذا الأدب منذ روايته الأولى ثلاثية “الفصيل الثالث“.
إنّ الروائي الذي يكتب أدب الحرب عليه أن يمتلك قاموسا خاصا هو القاموس الحربي، فيمكن أن نستخرج دون عناء قائمة بأسماء الأسلحة وقائمة بأسماء الخنادق والرموز والاشارات العسكرية و الملابس الخاصة وأسماء المركبات وانواع الطائرات والسيارات والدبابات ّ.. وهذا لا يمكن أن ينجح فيه إلاّ المقاتل أو المراسل الحربي الذي اقترب ورأى تلك العوالم وعاشها.
مع ذلك فإنّنا لا يمكن أن ننكر على رواية العريبي أنّها تنفّست هواء تلك العوالم الحربية وكرعت من تلك المياه السردية، ليس بتكرار كلمة حرب التي حضرت في الرواية عشرات المرّات إنّما بنقل بعض الحكايات عن أشكال القتال والصراع عبر شخصيات شاركت في الجبهة وعانت ضروب التعذيب والاعتقال.
والحق ّ أنّه لا يمكننا أن نتحدّث عن حرب لأنّ الحرب التي تتحدّث عنها الرواية حرب مجازية لأنّها غير متكافئة دارت بين عمر المختار وسبعين مقاتلا بذخيرة محدودة في مقابل جيش جرار للايطاليين يستعدّ للتحالف مع المانيا لاحتلال العالم بأسره.
ومن ثمّ انعطفت الرواية نحو معالجة تيمة الحرب من زاوية أخرى، لقد حوّلت التجربة الحربية الرواية إلى “أدب الدفاع عن الحياة” كما يسمّيه السيّد نجم.
وهاهي إحدى الشخصيات تصدح قائلة: “نعم سنحيا… […] الحياة لن تكون تحت رحمة الموت، إنّ للحياة عنفوانها أيضا، وإلاّ أكل الموت بوقاحة كل شيء، إنّ على المرء وهو بمثل ما نحن فيه أن يكون مستعدّا لقهر الموت علنا” ص93.
تعيدنا رواية عبد الرسول العريبي “أبواب الموت السبعة” إلى نصوص الملاحم الكبرى، وهل الرواية غير جنس سليل الملحمة؟
رواية العريبي رواية تصوّر ملحمة الشعب الليبي وهو يصارع أشكال الإبادة الجماعية التي خطّتها القوات الفاشية، ملحمة شعب ضدّ فنون الموت التي وضعها أمامه الاستعمار في هيئة خيارات نوعية: موتا بالرصاص أو قهرا في المعتقلات او جوعا او لدغا في رحلة تيه عبر حدود صحراوية مائعة. فنقرا مثلا: “وعاد الصمت إلى كل مكان، لا رصاص في مدى السمع.. كل شيء مات لا حياة لشيء.. لا عشب ولا شجر ولا أطفال ولا حيوان ولا طير.. لا شيء سوى الموت.. يمشي عاري الرأس في الطرقات ولا يجرؤ أحد على مجابهته، انّها سنوات العذاب والجمر.. سكون ليس مثله أي سكون سوى سكون الموت والتراب وأرواح هائمة، عارية بلا أجساد.. وأرواح في الهواء لبشر لا أين لهم..؟ الرجل بلا زوجة.. والزوجة بلا رجل.. الأم بلا أطفال.. والأطفال بلا أمهات.. والشباب مهانون مذّلون.. النساء لا كرامة لهنّ.. والتراب مستباح“ ص56.
ويقول في موضع آخر متحدّثا عن الموت في المعتقل: “في المقرون وسلوق والبريقة والعقية حيث هناك رأيت كل شيء يموت.. الأرواح قبل الأجساد حتّى الصوت يموت.. كل شيء.. أمّي.. وأبي مات.. لا شيئ على قيد الحياة.. الأرواح والأجساد والأصوات والخواطر وحتّى الغناء.. لا شيء سوى الموت.. نعم.. لقد رأيته يمشي عاري الرأس لا يأبه بأحد، ولا يتورّع ان يطلّ عليك وأنت تمشي أو تأكل أو تتحدّث أو تنام.. هو البطل الوحيد الذي لا يقوى أحد على ردّه…” ص68.
ولئن طغى الطابع التسجيلي على هذه الرواية فإنّ ذلك لا يمكن أن يحجب عنّا الجهد الواضح الذي بذله الروائي في رفع معمار روايته من خلال ما رصدناه من شعرية عالية للغتها ومن محاولة صائبة في إكساب الرواية طابعها الحواري من خلال تلك المنتقيات والمتناصات الشعرية والغنائية والقرآنية التي جعلت الرواية تعيش كرنفاليتها المطلوبة وتنعتق من سلطة الصوت الواحد.
رواية العريبي تقدّم صورة البطل وصورة الخائن، صورة المقدام وصورة الجبان وصورة الموت وصورة الحياة. وتبقى أهمية هذا النصّ، حسب اعتقادنا، واضحة وجليّة في قضايا متنه ورهاناته وفي القيم الإنسانية التي تغنّى بها.
___________________________________
ديوان العرب، الخميس 1 ديسمبر 2015