1- مقدمة:
صار مصطلح (الجندرة) ممثلاً لهوية الجنس الأنثوي بكل شمولية إبداعاته الإنسانية المختلفة ومناشط حياته العملية كافة، وظل منذ ظهوره في نهاية القرن العشرين الماضي يثير الكثير من الإشكاليات الفكرية والإشارات المتضادة التي تجعله موضوعاً حاضراً ومتفاعلاً في النص الإبداعي الذي تسهم به المرأة في المشهد الأدبي خاصةً والثقافي عامةً.
ورغم الإيمان بأن قيمة وتصنيف المنجز الإبداعي هو إنساني أولاً بصرف النظر عن جنس مبدعه أو مبدعته ذكراً أو أنثى فإن بعض الدراسات اهتمت بتسليط الضوء على “النوع الإجتماعي” أو “الجنوسة” التي ينتمي إليها هذا النصّ تحديداً، وهذا -في تصوري- مقبولٌ من الناحية الوصفية الدالة على نسبته إلى جنس الكاتب أو الكاتبة وليس أبعد من ذلك، كما يحاول البعض أن يمنحه تميزاً إنسانياً لتحقيق مطالبات مادية مختلفة، قد نتفق على بعضها، ولكن لا ضرورة من إلصاقها بهذا المصطلح الأنثوي الضيق، وإثارة الكثير من الأسئلة الفكرية الوافدة التي تتأسس على رؤى سياسية أو توجهات دينية، لأن فضاءها الفكري الإنساني أعمق وأشمل، لكون الإنسان ذكراً أو أنثى هو أساس عمارة الكون وإثراء المشهد الثقافي بعيداً عن نوعه البيولوجي الذي نال به حقوقه كافةً بشكل متساوٍ وفق بعض التشريعات الربانية والقوانين المدنية النافذة.
إن التطرق إلى مصطلح (الجندرة) بشكل ظاهري يعد أمراً عادياً منفتحاً ومقبولاً للخوض فيه ومناقشته النقدية بكل رحابة بجميع مناحيه واتجاهاته، ولكن حين يكون محشواً بأفكار دخيلة على البيئة الثقافية العربية أو يمس الحدود والتعاليم والأوامر الدينية الإسلامية من خلال أطروحات العولمة ومشاريع إثارة نعرات عرقية أو توجهات سياسية معينة أو لأغراض نفعية جنسية تمييزية محددة، فهو في تصوري يخلق تصادماً فكرياً وصراعاً لا يحقق أية مكاسب لأي من النوع الجنسي ويعمل على تفكك النسيج العام للمجتمع كافة وفي ذلك خسارة لكلا الجنسين حتماً.
2 – ظهور الجندرة وإشكالية المصطلح:
مصطلح (الجندرة) مشتق من المفردة الإنجليزية (Gender) التي تشير عند ترجمتها عربياً إلى (نوع الجنس)، ويرجع الدارسون إلى أن البدايات الفكرية الفلسفية لظهور هذا المصطلح تعود إلى بداية عقد الخمسينيات من القرن العشرين الماضي، حيث ارتبط بالجملة الشهيرة (لا يُولد الإنسان امرأة إنما يُصبح كذلك) التي أوردتها الكاتبة الفرنسية سيمون دي بفوار (1908-1986م) في كتابها (الجنس الآخر)(1) أثناء إشاراتها إلى دور المجتمع والثقافة في توفير المناخ اللازم، والبيئة الملائمة والمناسبة، وتحقيق الشرط المطلوب لتحديد هوية المرأة، وذلك عند تتبعها تاريخ اضطهاد المرأة ومستوى معيشتها في منتصف الأربعينيات، وطرحت في كتابها العديد من الأسئلة عن أسباب ذلك المستوى ولماذا لا تتكتل النساء لمواجهة الهيمنة الذكورية وغيرها.
ثم بعد عدة عقود زمنية تضمنت وثائق المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة (3-15 سبتمبر 1994م) لأول مرة مصطلح (الجندر) بوصفه مفهوماً حقوقياً، ولكن على الرغم من تكراره في أكثر من خمسين موضعاً في صفحات تلك الوثائق؛ فإنه ظل غامضاً في مفهومه ومعناه ودلالات إشاراته المتباينة بين الذكورة والأنوثة، ولهذا تمت ترجمته على أساس أنه (نوع الجنس)، ومع ذلك بقي المصطلح بعيداً عن التمثّل الدقيق والواضح، ولاحقاً حين تكرر الحديث عنه حوالي مائتين وخمسين مرة خلال فعاليات المؤتمر العالمي الرابع الخاص بالمرأة في العاصمة الصينية “بكين” عام 1995م، طالبت كثير من الدول المشاركة بضرورة تحديد وتعريف المصطلح بدقة حتى لا يظل مبهماً عامّاً، ومفتوحاً على كل الاحتمالات التي قد لا تتماشى مع ثوابت ومعتقدات وعادات ومرجعيات بعض الدول.
وقد جاء غموض المصطلح نتيجة ارتباطه بكلمات أو مفاهيم عديدة متداخلة، مما جعل التحديد يتفرع ويأخذ قضايا ثانوية كثيرة: مثل المرأة، النساء، المرأة والرجل، الجنسين، النوع، الجنس، الأنثى والذكر، المساواة في الحقوق، عدم التمييز في الأدوار، وتُعبر كل هذه الكلمات عن توجهات مختلفة ومتعددة، لتبقى العلاقة المشتركة بينها هي إشكالية غموض مصطلح الجندر.
أما على الصعيد العربي، فواقعياً لازالت هناك العديد من ممارسات التفرقة المتفاوتة وعدم المساواة بين أدوار ومهام ومسئوليات الجنسين، مما يتطلب المزيد من الجهد لإزالة هذه الفجوة وتعزيز المساواة بين الرجل والمرأة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كافةً، وتكثيف برامج إدماج الجنسين ضمن الأنشطة التعليمية والتدريبية على جميع المستويات، خاصة بعد أن أكدت الكثير من الدراسات والبحوث الاجتماعية في الدول العربية بأن إقصاء المرأة عن الإسهام بدور اجتماعي مماثل للرجل في تنمية المجتمع وتقدمه يؤثر سلباً على نفسية وكيان المرأة كنصف المجتمع الإنساني، وكذلك على مستوى فاعلية ونجاح خطط التنمية المجتمعية بشكل عام، وفق ما أورده تقرير التنمية البشرية العربية الذي أكد بأن برامج التنمية في البلاد العربية التي لا تسهم فيها النساء أو تستفيد منها هي غير مجدية.
لذا فإن الجندرة هي منظومة واسعة من القيم النظرية والعملية المترابطة فيما بينها، تمثل منهجاً فكرياً للتدبر وللدراسة والتعمق فيها وتفعيلها على أرض الواقع، أي أنها رؤيةٌ دولية عامة وشاملة حول مفهوم العلاقة الثنائية بين المرأة والرجل ومحيطهما الطبيعي والثقافي، لكونه لا يخص مبدأ الدفاع عن حق من حقوق المرأة، والذي عند تحققه والحصول عليه؛ يتوقّف عن استعماله، بل هو مستمر ودائم بوصفه رؤية شاملة لقضايا أخرى، مثل الأسُرة والعلاقات الاجتماعية والزواج والإنجاب وغير ذلك رغم تجاوز هذا اللبس في مضمون المصطلح لدى البعض.(2)
3 – الكتابة النسائية والجندرة
في مجال الأدب يحيلنا مصطلح الجندرة مباشرة إلى صوت المرأة في الكتابات النسائية وشكل ومستوى حضورها في النصِّ الإبداعي، ومكانة شخصيتها الإيجابية أو السلبية في ثنايا حركيته وتفاعلاتها المختلفة، من أجل أهدافها وغاياتها التي تسعى إلى تحقيقها وفق أدوارها المتعددة في ذاك النصِّ. وقد ظلت نشأة الخطاب النّسوي العربي مرتبطةً بعدّة قضايا ساهمت في تشكل ملامحه والذي كان أداءه سياسياً واجتماعياً في الغالب لإثبات ما تطمح إليه المرأة العربية ضمن إطار الجمعيات الفكرية والحركات النّسوية منذ مرحلة التّحرر من الاستعمار إلى الآن.
أمّا أبرز ملامح هذا الخطاب النسوي في النص الأدبي الإبداعي وخارجه فهي في الغالب المطالبة بترسيخ مفاهيم اجتماعية تحترم جنسها الأنثوي، وكيانها الإنساني، وتوفر لها حقوقها التي كفلتها لها الشرائع الدينية والقوانين المدنية، الأمر الذي جعلها في تصادم شبه دائم مع المجتمع المتشبت بالكثير من العادات البالية، وتفاسير النصوص الدينية خاصة فيما يتعلق بقضايا الميراث وتعدد الزوجات والطلاق وغيرها.
وتختلف الدراسات الجندرية في سياقها الأدبي عن الدراسات النسوية الأخرى، باعتبارها لا تقتصر على مكانة النساء في تاريخ الأدب وتمثيلهن في الأعمال الأدبية النسائية فحسب، وإنما تعمل كذلك على تتبع علاقات القوى الجندرية وتمثيل الذكورة والأنوثة وأنماطها المقدمة في الأعمال الأدبية بوصفها انعكاساً لوقائعها وتصوراتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والسياسية.
4 – الكتابة النسوية والتحرر من هيمنة الثقافة الذكورية:
عند تناول هذا المحور المهم لابد من استعراض بعض نماذج الكتابات النسوية الليبية، ونظراً لمحدودية الورقة فقد اختارت الاكتفاء بتسليط الضوء على السرديات الأدبية ممثلة في جنسي القصة القصيرة والرواية لبعض الكاتبات الليبيات كالتالي:
4.1 – نماذج من الكتابات السردية الليبية
منذ بداياتها انصبغت الكتابة النسائية في ليبيا بانغماسها في الذاتي النثري أو البوح الشعري الوجداني البسيط الذي يسجل لحظات شعورية خاصة، ورصد مشاهد ومواقف اجتماعية عابرة، وتوجهات لا تملك رؤية أفقية بعيدة أو عميقة، وظلت إسهامات المرأة الليبية الكاتبة تراوح مكانها في هذا المستوى التعبيري الضيق لعقود طويلة، ومن خلال استعراض ملخصات عن بعض الأعمال لا يمكننا أن نرصد أية ملامح لظهور صريح أو مضامين مصطلح الجندرة بشكل مباشر وإن ظلت أنفاس الكتابة تنقل إلينا الكثير من الهموم والقلاقل وعدم الشعور بالرضى عن الوضع الإجتماعي لشخصيات الكاتبات الليبيات في الأعمال الابداعية السردية مثل:
4.1.1 – رواية (رجل لرواية واحدة)(3)
هذه الرواية اليتيمة للأديبة فوزية شلابي سجلت فيها محطاتٍ من سيرتها الذاتية المتسترة وراء شخصية المحررة الصحفية (صالحة) بطلة الرواية. ويمكن القول الرواية استندت على التجربة الذاتية من خلال اتجاهين أو مسارين أولهما شخصي يستعرض حياة وانشغالات شابة ليبية، وثانيهما فكري وسياسي عام، ألمحت فيه إلى بعض الشأن الأيديولوجي العقائدي حين أشارت إلى إحدى ملتقيات اللجان الثورية التي حضرتها، ولكن يغلب على كامل هذه الراوية البوح الوجداني الأنثوي الرقيق، وتسجيل أفكار ونقاشات تطرح رؤى متعددة على القاريء بصوت الساردة التي تحمل نفس الأفكار والتجارب العاطفية والانكسارات التي عاشتها الأديبة الكاتبة فاختارتها منطلقات محورية لعرضها على القاريء، ومن ثم إشراكه بأحداثها في قالب أدبي سردي روائي، وسط فضاء مكاني لا يغادر مدينة طرابلس وأروقة العمل بالصحافة والدوائر ذات العلاقة بها ثقافياً مثل مسرح الكشاف ومكتب الصحيفة التي تعمل بها، بينما الزماني يعود إلى عقدي السبعينيات والثمانينيات كما نستنتجه من بعض تواريخ الوقائع الحقيقية التي تشير إليها الرواية وإن جاءت غير متتالية في توقيتاتها.
إن كاتبة هذه الرواية الأستاذة فوزية شلابي كما عرفتها شخصياً تتميز على الصعيد الواقعي بقوة شخصيتها المهابة وحضورها الواثق أثناء توليها جميع المسؤوليات الحكومية التي بدأتها من وظيفة كاتبة ومحررة صحفية وحتى منصبها الأعلى كوزيرة للإعلام والثقافة، وسعيها المتواصل للدفع بالقدرات النشطة الموهوبة وتشجيعها على المضي قدماً في سلم الإبداع والعمل. وهي أبرزت بعضاً من ملامح شخصيتها وسلوكياتها المتحررة في هذا العمل الروائي حين جعلت “صالحة” تكتسيها وتتماهى فيها مثل ممارسة عادة التدخين والاختلاء بالزملاء الذكور ومرافقتهم، وهي بكل ما لديها من مغامرة وإقدام ومثابرة فقد ظلت تمارس حياتها وكل أدوارها الاجتماعية ككائن إنساني تتلاشى فيه تميزات خصائصها البيولوجية ربما لإيمانها بأنه الأشمل والأوسع لكيانها الفكري والعملي.
4.1.2 – رواية (كنا وكانوا.. روايتي)(4)
تمثل هذه الرواية سيرة ذاتية لكاتبتها الأستاذة محبوبة خليفة أصيلة مدينة “درنة” الساحلية العريقة في ليبيا، وهو عمل إبداعي يعد إضافة ثرية لكاتبة ليبية تملك تجربة زاخرة بالتحديات في هذه الحياة بشتى صورها ومعانيها من خلال معايشتها لتعدد الأدوار الاجتماعية والعائلية والثقافية والسياسية في عدة أمكنة ليبية وعربية وأجنبية نتيجة مطاردة النظام السابق في ليبيا لزوجها المعارض السياسي. وقد سجلت الساردة في هذا العمل مواقف مواجهات مختلفة مع ظروف الحياة وبرهنت على دعم المرأة لزوجها ووقوفها إلى جانبه في جميع الأحداث التي مر بها وعايشتها معه بقلب وحب ومشاركة كاملة في المعاناة، إضافة إلى تحملها مسؤوليات أسرتها عند تغييبه في السجن لسنوات طويلة. إن هذا العمل هو شهادة إكبار للمرأة الإنسان، وشهامة مواقفها تجاه زوجها وأسرتها ومجتمعها، ولايزال دورها المجيد مستمراً في توثيق تلك المسيرة المعطاءة لتهديها دروساً وعبراً لأجيال لاحقة.
في هذه الرواية تتلاشى تماماً الروح الأحادية الفردية سواء الأنثوية أو الذكورية، ويبرز التكامل الثنائي للمضي قدماً بالأسرة نحو شواطئ الأمان والحياة الرغيدة، وبالتالي لا تظهر أية ملامح للجندرة أو التمييز أو إهدار الحقوق لأي من الجنسين، بل ظلت الأسرة هي المشترك الذي تنصهر فيه كل تلك الخصوصيات.
4.1.3 – رواية (حرب الغزالة)(5)
برزت شخصية (هيرديس) بطلة رواية حرب الغزالة للكاتبة عائشة إبراهيم كإمرأة قوية ومقاتلة تنتصر في الحروب مما جعلها تحظى في المملكة الأسطورية بنوع من القداسة التي أضفاها عليها شعب الأكاكوس ومنحها المكانة السامية الرفيعة. كما أنها برعت في تطريز ثوب الملكة بجماليات نالت به فرحة الملكة وسرورها بالهدية، ونظير ذلك منحتها الموافقة على إصدار رخصة فتح دار لتصميم الأزياء. وفي هذه الرواية تظهر لنا الكاتبة قدرات ومهارات المرأة، لتؤكد بها سمو مكانتها وعلو رفعتها في الفضاء المكاني والزماني للعمل الإبداعي، وأهمية دورها الإنساني ومكانتها وإسهامها في المجتمع، وبالتالي فهي لا تشير بتاتاً إلى ما يحمله مصطلح الجندرة من مضامين ظاهرة أو مسكوتٍ عنها.
4.1.4 – رواية (سوق الحشيش)(6)
ظلت الساردة بطلة الرواية (وريدة) للكاتبة عائشة أحمد بازامة شخصية أنثوية تتنقل بذاكرتها الثرية وسط حي “سوق الحشيش” بمدينة بنغازي لتوخز ذاكرة القاريء بالعديد من الصور والشخصيات الماضوية بروح تغلب عليها النوستاليجيا والحنين إلى ذلك الزمن. وهذه الرواية نجدها مكتظة بالعديد المشاهد الاجتماعية والسيرية الخالية من أي إحساس بالغبن أو الاضطهاد الاجتماعي بل الدعم في التحاقها بحركة الكشافة والمشاركة في العديد من المناشط.
4.1.5 – رواية (الرسالة)(7)
يصنف مضمون هذا العمل الروائي الأول للدكتورة حنان الهوني بأنه عمل اجتماعي يسلط الضوء على المعاناة الإنسانية لإحدى شرائح المجتمع، واستعراض تحدياتها للضغوطات الفكرية التي تواجهها من أجل العيش الطبيعي بين أفراده بشكل متساوي، ولإبراز موهبتها وقدراتها على العمل الإيجابي في الحياة، مع إسباغ نفحات من الخيال على أحداثها وشخصياتها وهو ما ينسجم مع مفهوم تقنيات جنس الرواية التي هي عبارة عن رسالة أدبية كتبها شاب صحفي ثلاثيني (أحمد نصر) لسرد بعض محطات مسيرة حياته والتعبير عن مشاعره ووقائع علاقته العاطفية مع حبيبته (منى) التي رفضته أسرتُها حين تقدم لخطبتها، بحجة أنه (لقيط) تربى في دار الأيتام ينعته الوسط الاجتماعي بأنه (ابن حرام)، ومن خلال هذه الصفة المشينة القاسية التي ألصقت به تتأسس فصول الرواية وترتكز حبكة السرد عبر منحى اجتماعي أخلاقي يتداخل بين الواقعي والتخيلي.
ولقد أضافت الكاتبة لمعاناة الشاب اللقيط خيانة وخداع إحدى زميلاته الصحفيات (فاطمة زكريا) التي قامت أثناء زيارته لمسكنه بسرقة مخطوط رواية كان يستعد لإصدارها وسعت لنشرها باسمها. والكاتبة جعلت بطلها الشاب يستمد من تلك الظروف البائسة والمكابدات المتعددة الكثير من القوة والتحدي لمواجهة وقائع الحياة، ونظرات المجتمع ليتمكن في نهاية الرواية من نشر إبداعه الروائي الأول وإثبات ذاته وقدراته بين الأوساط الاجتماعية.
كما استطاعت الكاتبة أن تقدم عملاً متبايناً في سلوك شخصياته وثابثاً في رسالته الإنسانية التي تنطوي تحت مظلتها جميع الشرائح الاجتماعية وتبتعد بهم عن أوهام الصراع بين الجنسين، لأن فضاءات الحياة حضن واسع يضمهما معاً، وأحداثها تتعدد مظاهرها وفق سياقات مختلفة.
من خلال هذا العرض يمكن القول بأن الروائية الليبية استطاعت أثناء مسيرتها الابداعية خلال أكثر من خمسة وثلاثين عاماً في الفترة من سنة 1985م وحتى عام 2022م أن تسهم بإبداعاتها المتعددة في المشهد الأدبي الليبي والعربي وتثبت ذاتها وتبرهن على قدراتها عملياً في أن فكرها الخلاّق يتجاوز حيز “الجنوسة” الضيق الذي يحاول البعض أن يركنها فيه، حيث أكدت عملياً بأنّ إنتاجها الإبداعي هو نصٌّ إنسانيٌّ منفتحٌ في شموليته أولاً، ومعبرٌ عن ذاتها الشخصية الفكرية ثانياً، ومنتميٌّ إلى جنسها البيولوجي ونوعها الإجتماعي ثالثاً، ولا شك بأن هذا المنحى الثلاثي هو الذي يحقق لها الغايات المنشودة التي تنال بها الاحترام والتقدير بكل جدارة من الجميع، وتستحق المكانة الرفيعة اللائقة بها في الأوساط الاجتماعية كافةً. كما أن استعراض هذه النماذج الروائية أبان أن الكاتبة الليبية تخلصت بكل وضوح من الهيمة الذكورية أو مظلة الأبوة البيطريركية المتحكمة في أنفاسها التعبيرية، فظلت تختار مواضيعها الخاصة بكر حرية وتناولها وفق الأساليب والأنساق التي تمارسها بكل اقتدار لإبراز مهاراتها وإيصال رسالتها الهادفة.
4.2 – نماذج من القصة القصيرة النسائية الليبية
منذ صدور أول مجموعة قصصية ليبية بعنوان (نفوسٌ حائرة)(8) للصحفي والأديب الراحل عبدالقادر بوهروس سنة 1957م لم تتأخر الكاتبة الليبية سوى بضعة أشهر معدودة لإصدار أول مجموعة قصصية (القصصُ القومي)(9) للراحلة زعيمة سليمان الباروني سنة 1958م، ومنذ ذلك بدأت تتشكل خصائص الأدب النسائي الليبي عامةً.
وقد ظهرت بواكير القصة القصيرة في ليبيا في بداياتها مشبعة بالاتجاه الرومانسي قبل ان تنحاز للاتجاه الواقعي الذي يهتم بقضايا الإنسان ومعاناته اليومية، فزخرت بالاقتباس من الموروث الشعبي والحكايات التراثية، والتقاط موضوعاتها من الحياة الشعبية اليومية وشخصياتها من البيئة الاجتماعية الليبية بجميع شرائحها(10)، وهو ما يمثل ارتباط القصة القصيرة بمجتمعها الليبي، وتعزيز علاقة الأدب بالمكان الذي ينتمي إليه القاص فينهل من معينه وأحداثه ليعكس موضوعاته المختلفة في نصوصه القصصية، وهذا التوجه الواقعي يأتي كتجاوز للموقف الرومانسي الذي يوظف القصة لغرض التفريج عن الحرمان من الحقوق والحزن على فقدانها والقلق حول الوضع الاجتماعي(11).
وقد سيطرت على نصوص سرديات وقصص الكاتبة الليبية في بواكيرها روح التنفيس الوجداني العاطفي والتعبير عن الهموم والقضايا الاجتماعية مثل المطالبة بالمساواة وحقوق المرأة في التعليم والعمل، ومعارضة الزواج المبكر وكذلك الزواج من الأقارب، وعرض مشاكل الطلاق وآثاره وغيرها من الجوانب الحياتية الأخرى(12).
وعند مطالعة بعض النماذج القصصية مما أصدرته الكاتبة الليبية على امتداد خمسة وستين سنة تقريباً (1958- 2022م) منذ أول مجموعة قصصية ليبية نسائية، ولاحقاً ما تبعها من إصدارات مثل (اعترافات أخرى)(13) للراحلة نادرة العويتي، و(رجال ونساء)(14) لمرضية النعاس، و(حفيد الشمس)(15) لابتسام عبدالمولى، و(30 قصة من مدينتي)(16) لعزة كامل المقهور، و(العالم ذبابة حطت على أنفها)(17) لرحاب شنيب، و(البالونة الكحلة)(18) لآمال العيادي، و(تسونامي)(19) لغالية الدرعاني، و(تمهيد للاشيء)(20) لآسيا الشقروني، نلاحظ الغياب التام لمفاهيم حداثوية مستجدة، وأننا لن نجد بشكل صريح ومباشر أثراً أو تضميناً للجندرة أو الجنوسة أو التمايز بين النوع الجنسي والنوع الاجتماعي في هذه القصص كافةً، ليس بسبب حداثة ظهور هذه المصطلحات في الأوساط الأدبية أو السياسية أو الفكرية، ولكن لأن مفهوم الحياة لدى الكاتبة الليبية لم ينسلخ عن طبيعة تكوينها الفكري والمعيشي وظل منسجماً مع واقعها العملي الذي تتكامل فيه أدوار الجنسين منسجمين بشكل تفاعلي لا يمس أياً منهما بضرر، ولا يهضم حقوقهما، بل يكفل لهما حياة مستقرة متماسكة هانئة بوظائف محددة وغايات مشتركة حتى وإن لم تخلو من بعض المشاكسات والمجادلات والأخطاء.
5 – الخلاصة
إن المضامين التي تناولتها الكاتبة الليبية في إنتاجها السردي عبر عقود زمنية طويلة تكشف لنا السياق الفكري العام لنهجها الإبداعي المتأسس على إنسانية النصّ وفرادة موضوعاتها الملتقطة من البيئة الليبية البعيدة عن ممارسات التطرف السلوكي أو الحقوقي المسببة لتفكيك البنيان الاجتماعي. ويمكن القول بأن الكاتبة الليبية سلطت اهتمامها على مطالبتها بحق التعليم والزواج والطلاق والعمل، واستطاعت بذلك أن تتجاوز المسائل والقضايا التي تثير أسئلة الجندرة الوافدة مثل مطالبة بعض الحركات النسائية العالمية بتعدد الأزاوج، أسوة بتعدد الزوجات في المجتمع الإسلامي، أو شرعنة الإجهاض كحق من حقوق المرأة، أو تعزيز المساواة للمثليات والمثليين وفق أطروحات حقوق الإنسان وغيرها من الأفكار التي تمس الذات الإنسانية القويمة وتتنافى مع التشريعات الربانية والإسلامية خاصة.
ولكن هذا لا يعني عدم وجود مشاهد حياتية في واقعنا الاجتماعي تتضمن بعض الاختلافات الفكرية أو المجادلات والنقاشات والصراعات القوية حول الحقوق والسلوكيات المتفاوتة بين أفراد المجتمع من الجنسين، وانعكاسها في النصوص الإبداعية للكاتبات مثل رواية (هذه أنا)(21) للراحلة شريفة القيادي التي تفضح فيها تصرفات زوجها السرية وأنانيته المشينة وخداعه لها في سلوكياته الظاهرة وتصرفاته المعيبة التي سببت لها كرهاً وصدمة نفسية لها انعدمت جراءها ثقتها في الذكور بشكل عام، أو المجموعة القصصية (أماني معلبة)(22) للأديبة لطفية القبائلي التي تعبر فيها عن الظروف الاجتماعية والتحديات التي تواجهها في بيئة لا تمنحها المساواة والتقدير الذي يناله الرجل الليبي وتبخس حقوقها في التعليم والوظيفة والزواج والطلاق.
وهذا العملان الأدبيان يوثقان لمرحلة زمنية ماضوية اتسمت فيها عقلية المجتمع حينذاك بالنظر بشكل متدني لأهمية دور ووظيفة المرأة خارج نطاق البيت والأمومة، ولكن مع الزمن تبدلت تلك النظرة وفتح المجتمع ذراعيه لاحتضان النساء في مجالات التعليم والصحة والطيران والعسكرية وغيرها حتى ذابت تلك النظرات السلبية، وصارت المرأة تحظى بمكانةٍ أكثر تقدماً واحتراماً، ودورٍ أكثر فاعلية في سلم الحياة الاجتماعية فتقلدت العديد من المناصب العليا في ليبيا وتولت الكثير من المسئوليات في شتى أنواع الوظائف، وهي لازالت تعمل بكل الجد والمثابرة على تطوير ذاتها لنيل المزيد من المكاسب التي تستحقها ولا تتعارض مع كيانها الإنساني وإمكانياتها البيولوجية وحقوقها المحددة بنصوص التشريعات الدينية والقانونية المدنية، وكأنها تنهج بمثابرة وهمة ونشاط على إيقاعات تلك الدفعة القوية التحليلية والاستشفافية نحو المستقبل التي قدم بها الدكتور خليفة التليسي قصص (أماني معلبة) بقوله (أغلب الصور التي كتبتها الكاتبة تُختم بالثقة والأمل والانتصار. فالمرأة هنا لا تعرف الهزيمة ولا الاستسلام ولكنها تثور وتؤكد وجودها وتظفر في النهاية بالموقف الذي يساعدها على أن تحقق ذاتها وتمارس إنسانيتها.
وما أظن الرجال سيضيقون بهذا التعصب الذي تبديه الكاتبة للمرأة، فهي هنا في صورة أقوى وأسمى من الرجل .. أليست هناك بعض نواحي الضعف البشري لدى الجنس اللطيف! وهل مشاكل المرأة محصورة في قضية الخيانة الزوجية والعيش مع أسرة الزوج والحيلولة دون التعليم .. ما يزال هناك الكثير من القضايا التي تنتظر مساهمة الكاتبة الفاضلة بنظرة أوسع وأرحب وتناول فني أرفع. فلعل شعور الانتصار الذي يميز نماذجها يكون دوماً هادياً لها فيما تريده لنفسها وما نريده لها من مستقبل في عالم الكتابة.)(23)
الهوامش:
(1) كتاب (الجنس الآخر) أو الجنس الثاني (بالفرنسية: Le Deuxième Sexe) كتاب فلسفي يقع في 336 صفحة، أصدرته الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار باللغة الفرنسية سنة 1949، وترجمته الأستاذة سحر سعيد إلى اللغة العربية وصدر سنة 1964م عن المكتبة الأهلية ببيروت
(2) انظر: السرد النسائي العربي: مقاربة في المفهوم والخطاب، زهور كرام، شركة النشر والتوزيع “المدارس”، الدار البيضاء، المغرب، 2004م
(3) رجل لرواية واحدة، فوزية شلابي، رواية، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 1985م
(4) كنا وكانوا.. روايتي، محبوبة خليفة، دار الرواد للطباعة والنشر، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 2019م
(5) حرب الغزالة، رواية، عائشة إبراهيم، مكتبة طرابلس العلمية العالمية، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 2019م
(6) سوق الحشيش، رواية، عائشة أحمد بازامة، دار الجابر للطباعة والنشر والإعلان، بنغازي، ليبيا، الطبعة الأولى، 2021م
(7) الرسالة، رواية، حنان يوسف الهوني، المكتبة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2022م
(8) نفوس حائرة، عبدالفادر أبوهروس، دار الفرجاني، ط1، 1957م
(9) القصص القومي، مجموعة قصصية، زعيمة سليمان الباروني، المطبعة العالمية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1958م
(10) انظر: القصة الليبية القصيرة من التقليد إلى التجريب، عبدالجواد عباس، وزارة الثقافة والتنمية المعرفية، بلا ط.، بلا ت.
(11) انظر: نقد القصة الليبية القصيرة، محمود محمد ملودة، منشورات جامعة مصراته، ط1، 2013م، ص 102-105
(12) انظر: القصة القصيرة النسائية في ليبيا، فوزي عمر الحداد، دار الرواد للطباعة والنشر، طرابلس، ط1، 2019م
(13) اعترافات أخرى، قصص قصيرة، نادرة العويتي، منشورات مكتبة طرابلس العلمية العالمية، طرابلس، ب.ت.
(14) رجال ونساء، مرضية النعاس، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ط1، طرابلس، 1993م
(15) حفيد الشمس، قصص قصيرة، ابتسام عبدالمولى، مجلس الثقافة العام، سرت، ليبيا، الطبعة الأولى، 2006م
(16) 30 قصة من مدينتي، عزة كامل المقهور، دار الرواد للطباعة والنشر، طرابلس، الطبعة الأولى، 2013م
(17) العالم ذبابة حطت على أنفها، مجموعة قصصية، رحاب عثمان شنيب، المكتبة العربية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2018م
(18) البالونة الكحلة، قصص، آمال فرج العيادي، الهيئة العامة للثقافة، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 2020م
(19) تسونامي، قصص قصيرة جداً، غالية يونس الدرعاني، دار إمكان للطباعة والنشر، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 2022م
(20) تمهيد للاشيء، مجموعة قصصية، آسيا الشقروني، مكتبة طرابلس العلمية العالمية، الطبعة الأولى، 2022م
(21) هذه أنا، رواية، شريفة القيادي، دار إلقاء، مالطا، الطبعة الأولى، 1994م
(22) أماني معلبة، قصص قصيرة، لطفية القبائلي، الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 1977م
(23) المصدر السابق نفسه، ص 6