النقد دراسات

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (4) .. الكتابة والصمت، ولعبة ملء الفراغ

بقلم: فضة الشارف

 

الكتابة والصمت الفني:

لكتابة «عشق شهواني مفتوح للحياة، تمنح للغة إمكانية التجدد، وللذات حق متعتها الفيزيولوجية والبيولوجية، وللمجتمع فسحة ابتكار علائقه وقيمه التحررية»([1]) الممتلئة بالبياض المتروك بين المقطع الأخير والمقطع السابق له، وهو ما يطلق عليه بالكتابة والصمت الفني([2]). فالصمت في الكتابة الشعرية هو «زمن شعري متجانس يحصل بين طبقتين، الكلمة ويفجرها لا بصفتها مزقة لكتابة مرموزة بقدر ما هي ضوء وفراغ وقتل وحرية»([3]). وأول ما يتوقف عنده القارئ عند قراءة النص هو انقلاب لعبة ملء الصفحة، حيث يجد القارئ نفسه أمام «الصفحة المتعددة»([4]). فالنص الشعري له نسيج الامتلاء بالصمت المخيم على ما بين الأبيات، إذ يصبح في فضاء منسوج من الدوال المكتوبة والممحوة في آن الموقّع على بياض الصفحة، وهذا ما نلحظه في قول الشاعر:

الظلّ المخبّأُ لنا

موحىً قديماً به

الظلّ القديمُ نفسه

ها نحنُ نُغفلُ لفحةَ اللهبِ تُهيّأُ

في خَدَر أمنياتنا

الماءْ. الأصابعُ

تحفرُ رمقاً أخيراً

يتداعى الرّمل

انثيالَ زمنٍ بألفِ مدينةٍ وشعوب

تنزلقُ إلى سرّة الرّمل

البدءُ.

كلّ مرةٍ من مكائد السرابِ

متقناً

جارفاً

الصحراء تفخّم إيحاءها

نداءَ لا – رجوع من التيه

فحيحٌ في عطشِ رجائنا الأخير

في محض العنصر نُرَدُّ إليه.([5])

كتب الشاعر هذا النص بلعبتي الأسود والأبيض، مداد الكتابة وبياض الورق اللذين يعدان عنصراً أساسياً في إنتاج دلالة الخطاب، إذ «يظهر أن الخط المطبعي عادة ما يلغي النص كجسد، حروف باردة تسقط على الأوراق البيضاء، يتحكم فيها سفر من اليمين إلى اليسار يختزل النص في معنى، والمعنى في كلام يمحو نشوة القراءة وتعدد الدلالة»([6]). إن إيقاف البيت في نقطة ما من انطلاقه، أو انبثاقه في نقطة من فراغه يعضدان بلاغة المحو التي تناقض بلاغة الامتلاء، كالعلاقة بين السواد والبياض، إذ يظل البياض رحماً تتجمهر فيه احتمالات كتابة منذورة لاسترسال المحو، حيث القارئ وحده يستطيع ملء الفراغ كل مرة يقرأ فيها النص، وبتعدد القراءة يتعدد فعل الكتابة.([7])

يعد «الظل» خلفية بانية للنص ومهيمنة عليه، فالظل «نقيض الضَّحَّ… قال رؤبة: كلُّ موضع يكون فيه الشمس فتزول عنه فهو ظلُّ وفيء، وقيل الفيء بالعشيِّ والظلُّ بالعداة، فالظلُّ ما كان قبل الشمس، والفيء ما فاء بعد»([8])؛ لذلك فإن «الظل» يعطي قيمة رمز، واللفظتان «مخبأ – موحىً» لا ينظر إليهما بوصفهما إشارتين مجازتين؛ لأن «الظل» ما كان قبل الشمس أي قبل طلوعها، بل عنصران دالان على معلوم «الظل» تجعلان منه مثالاً للتوق الإنساني الذي يمثله هذا البيت، فالتقاط الشاعر للكلمات والحفر في دلالتها بهدف استكشاف ما تحجب فيها من معنى، وما طوى فيها من أبعاد، وهذا ما جسده في هذا النص، من خلال مقاطعه التي يعد البياض فاصلاً بينها «وهو يعيد إنتاج دلالة الكتابة من جديد وفق شرائط الدال والمدلول القائم على النسق الطباعي الذي يغدو ذا طابع خطيّ وشخصي يخصص موضوعه في الكشف عن الطباعة عبر الكتابة في سياق تأويلات سايكولوجية».([9])

جُعل الظل صورة مخبأة توحي بظل قديم إذ «إن الماضي يترك أثراً في المادة، إنه – إذن – يضفي ظلاً على الحاضر، فهو – إذن – حي دائماً من الناحية المادية»([10]) التي تجعلنا نحاول من «خلال التحولات الدلالية إنتاج اتساق على مستويي المغزى والأداة»([11]) فتشكل بذلك جزءاً أو أجزاء تتشظىّ في النص، فتنم عن وجود علاقة بكماء تربط النص بمرجعيات نصية سابقة عليه أو متزامنة معه، يكون لها حضورها اللافت في كتابات المبدع، فيؤلف بينها في عملية يلعب التداخل النصيّ دوره الأكبر فيها؛ ليكون كلّ نص حتماً هو نص متداخل، وخلاصة لما لا يُحصى من النصوص قبله»([12]). فهو في المقطع الثاني والمقاطع التالية له يبرز السمة الدلالية التي يشتركان بها فيجسر البياض الأول المسافة بين المقطعين حيث المقطع الأول يوحي بالظل وبأبعاده الدلالية، في حين يوحي المقطع الثاني بحرارة الهجير وبلفحاته التي تستفز الذات الكاتبة والذات القارئة في آن، وهما تبحثان عما يطفئ لهيب الظمأ، ولعله الماء الذي تعمد الشاعر أن يجرده من الحركة فيدل على صيروته: السكون.

من هنا يتدفق البناء النصي عبر اللغة الباحثة عن وجودها في ثنايا النص، وهي تجسد في الآن ذاته حرارة الكتابة والقراءة معاً إذ إن «الأصابع» تحفر في صحراء الوجود باحثة عن رمق أخير للحياة، بيد أن الرمل يتداعى (انثيال زمن بألف مدينة وشعوب، تنزلقُ إلى سرة الرمل) وكأننا أمام مدينة خرافية أنشأها الخيال؛ لذلك يأتي البياض؛ ليجسر المسافة ثانية ين المقطعين السابقين والمقطع اللاحق لهما، فيبدأ بكلمة «البدءُ» هذه الكلمة التي تأتي مرفوعة بعلامة الضم، وكأن النص قد غير اتجاه نموه، فتناسل من السكون إلى الحركة، الأمر الذي يشي به ما تبقى من بناء لغوي للنص، لكن هذه الحركة تبدو خضوعة لسلطة السراب الذي لا ينتهي إلى شيء سوى الخديعة التي يظل الظمأ فيها قائماً، وهو ما يوحي بأن الحرارة تجدد ثوبها عبر الهجير المتنامي في خلايا الروح؛ لذلك يأتي البياض الثالث أكثر اتساعاً موحياً بأن الصحراء هي الحاضرة أبداً (الصحراء تفخم إيحاءها / نداء لا – رجوع من التيه). ولتبقى القصيدة محتفظة بوحدتها العضوية تظل خاتمتها معلقة بأحشائها وبالبدايات: (فحيح في عطش رجائنا الأخير / في محض العنصر نرد إليه).

الكاتب عبدالمنعم محجوب

هكذا يكون البياض الأخير شاهداً على هذا الترابط العضوي عبر مساحته الصغيرة في مبناها، والكبيرة في معناها حيث هذا البياض الأخير، والمقطع الأخير يوحيان بأن الزمن دائري «فالأزمنة تتداخل، والظواهر تتشابك وتمتزج، والأحداث تتصارع عل المستوى العام وليس على المستوى الخاص»([13]). وأن نقطة البدء هي نقطة الانتهاء، وأن الانتهاء هو العودة إلى البدء، وبذلك يكون – حقاً الزمن دائرياً دالاً على الوجود الذي شيده الشاعر في هذا النص بين لعبتي الأسود والأبيض، الكتابة والمحو وهذه دلالة على الوجود والعدم، أو بالأحرى الموت والانبعاث: جدلية لا تعرف التوقف لاسيما في الكتابة الإبداعية، وبالتحديد في قصيدة النثر التي اتخذت من التقنية الحديثة سبيلاً لوجودها. فالشاعر في هذا النص اعتمد على مساحات البياض ليرغم قارئه على مواصلة القراءة، وكذلك جعله يعيش التجربة ذاتها لحظة كتابة النص، وهذا ما يجسده قوله:

كلمتي

صمتٌ يستدرُّ الصمتَ

أنْ ينصتَ أكثر

شبهُ كلمةٍ من قَشّ احتمالاتٍ

حشدُهُ الذاتُ قصيّةٌ عُزْلَتُها

مسرّتي. أُفضي بالمعنى

إلى الغيابِ مشيعاً سرابَهُ

أتَخطّفُ العلامات حول يديَّ

كتابتي التي تُقْطفُ.([14])

يُعد هذا النص نقطة انطلاق جديدة إلى فاعلية البياض التي أعلنت نفسها بوضوح، حيث يتحول النص عبرها إلى مجال إشاري «إذ ينبغي أن تعيد إنتاج، إذا صح القول، حقائق مُصدقة تدور حول القدرة الإشارية»([15]): يتخطف الحال، يغوي الاستعارة، والمجاز يفسخ العلائق الوهمية بين الأشياء والأسماء، يخفي ويضمر قبل أن يبوح ويصرح([16]). فصمت الشاعر الذي يستدر الصمت ذاته هو بياض ليس له حقيقة خاصة سوى حقيقة الكلمة نفسها([17]). فتقوم بنية هذا النص على مفارقة تصويرية كبرى تظهر فيها صور «الصمت» في جانب وصورة «الكلام» في جانب آخر، وهذه البنية هي نواة القصيدة، إذ إن الصمت هو عجز الذات الكاتبة عن البوح بما يجول في ذاتها وكتمانه، أما الكلام فهو إفضاء من الذات الكاتبة بتجاربها ومعاناتها ووصول تجربتها إلى ذهن المتلقي، وجعله يعيش التجربة ذاتها (صمتٌ يستدرّ الصمتَ، أن ينصت أكثر) فالشاعر استهل نصه بكلام صموت، يتبعه صمت آخر منصتاً لصمته، الأول حيث كلامه دائرة مصمتة يلفها الغموض.

نجد هذا الصمت ينصت لـ(شِبهُ كلمةٍ من قشِّ احتمالات) فتتولد بياضات يختزلها النص في معنى منزاح لعدة معانٍ منسجمة داخل النص ذاته، فهو بذلك ((يقدم قائمة يحمل حسنة السبك بشكل لا يقبل الجدل، وأن يقدم جملاً انزياحية على نحو لا يقبل الشك))([18]) ويصور كلامه الصامت الذي يهمس بذاته، فهو كالمرآة التي يقف أمامها الشخص فتظهر صورته أمامه لتجسد صورة شخصية أخرى يهمس إليها بكلمات مصموتة. فيجد المتلقي نفسه أمام قلعة مقفلة لا يمكن التسلل إلى حصونها بسهولة، ولكن بعد النظر عدة مرات إلى كيفية بنائها ينجو المتلقي من الأقفال، ويتطرق لفتح حصون النص والوصول إلى الذات، فالذات الكاتبة لا تكف عن السباحة في فضاء الوجود والموجودات، لتعيش معاناتها من الداخل، وأن تبدو وكأنها تجسد نبض العتبات الخارجية، وهي تسهم في انبنائها عبر الخيال الذي جسده الشاعر من خلال تراسل الحواس([19]) إذ إن ((وظيفتها تتمثل في إبداء دور يعمق وشائج الاتصال بين العالم الداخلي والعالم الخارجي وفق منظومة يقودها الخيال الباني للمغامرة الشعرية))([20]).

يقفز الشاعر في المقطع الأخير من النص إلى الهمس والإفضاء والبوح لتجربته، جاعلاً البياض رابطاً بينهما، إذ إن بياض الورق يسهم في جعل القارئ متفاعلاً مع النص. وفتح تلك الحصون المقفلة والوصل إلى الذات (القصية) والكشف عن عوامل مسرتها التي أضحت عُزلة، إذ نجد كل تلك الأمور تشكل صمتاً فنياً حيث إن (كل صمت للشكل لا ينجو من التضليل إلا بواسطة خرس تام… حيث اللغة الأدبية لا تسند نفسها إلا لتغني ضرورة… حول كلمات مخلخلة منطقية من الفراغ حيث الكلام)([21]) الذي يجعل الذات الكاتبة تفضي بالمعنى إلى الغياب وتتخطف العلامات حول يديها، فتقطف كتابتها عبر بياضات تتضوع داخل النص، فيفوح عبيرها بنشوة القراءة، وتعدد الدلالة بعدما تتمازح ببنيات الزمان والنحو في رتق بلاغة الكتابة كل منها مؤثر في الآخر، ومفض إلى تركيب كلية النص وتحولاته، فهذه البنيات لا تأتي أفواجاً أفواجاً، ولكنها، جميعها تولد في لحظة بياض، حيث تحيا الذات حال إعادة التكوين([22]) التي يضيؤها النص خالقاً تفاعلاً وتداعياً بقارئه الذي سيعيش حالة من الاكتمال عبر قراءة تلك النصوص التي تحمل في ذاتها دلالات جاهرة ونهائية، وذلك من خلال توظيف دال السواد والبياض.

نجد الشاعر قد أوكله البوح والإفضاء بالمعنى إلى غياب مشرع بالسراب؛ ليجسد صورة تناثر الكلمات حول يديه؛ ليكشف اضطراب الحالة النفسية لحظة كتابة القصيدة التي سيكون القارئ أحد العناصر المشيدة لها من خلال استكمال البياض الذي يعتبر عتبة من عتبات النص، لأن البياض يسهم في إنتاج دلالة النص كونه فضاء مفتوحاً يُحضر القارئ إذ لا يتبدى سحر الملء إلا بواسطة الفراغ.

2.3- الفراغ المملوء:

تُعدّ قصيدة النثر من خلال دوالها اللسانية كتابة منقوصة، كونها تنحاز إلى الدوال اللغوية المتمثلة في الفراغات وعلامات الترقيم والحذف التي تشكل لغة أخرى في النص تناشد القارئ الإصغاء إليها([23]). والنص ((هو النسيج الذي تولدت عنه مفاهيم عديدة))([24]) تظل خاضعة لمدلول الخطابات التي ((تخترق الذات اختراقاً ينتج الدلالة في غير مكانها المنتظر))([25]) وهذه المفاهيم ((تتدخل فيما بينها وتتشابك حتى تصير عبارة عن متاهة متعددة المسالك فلا يدري الذي يريد أن يخرج منها أية طريق يسلك))([26]). كل هذه الأمور تؤول إلى قراءة نصوص عبدالمنعم المحجوب التي نعاين فيها هذا النص:

يكونُ قمرٌ

يظنُّ التَقَتِ الأسباب

يرى إلى الأرضِ مزهواً

هذا ظلِّي

يا مسكينْ،

ترجو له الأَرض وعياً،

صورةٌ أنت بالرغمِ من هالةِ الزَّاجِ.

لا ظِلَّ لكَ،

وظلٌّ أنا للتراب.([27])

تمنح علامات الترقيم النص صورته واتساقه إذ يبقى مدلوله جلياً بما فيه الكفاية بوجود هذه العلامات([28]) إذ يهمس الشاعر بعلامة الترقيم (الحذف) التي ترمز إلى حذف كلام صمتت عنه الذات الكاتبة، وهذا بدوره يزيد من الاحتفال بالفراغ سقوط في الكتابة المملوءة التي تترك مجالاً لممارسة حدود الرغبة، إذ إن كل كتابة مملوءة هي كتابة مسطرة لحد واحد ([29]) إذ تسلط هذه الكتابة الضوء على أنها ببياضها وسوادها تقاوم مسلك التشخيص الذي تركته الأشكال الخطية([30]). وهذا ما يزيد من عمق الدلالة النصية في نص المحجوب الذي يتمرّس في وضع علاماته الترقيمية كلٌّ في ما يناسب مكانها، فيكون الفراغ فضاء مفتوحاً لقراءات متعددة بقدر المكانة الإبداعية للنص الذي يستدعي القارئ لملئه فيظهر النص بصورته الفارغة المملوءة متلألئاً في فضاء الكتابة النصية.

إذ تحدد عناصر هذا النص في شكل دائري كلٌّ حسب مكانه الطبيعي فيتشكل عبر هذه الحركة (الظل) الذي طالما أرادت الذات الكاتبة أن تطابقه بذاتها عبر مشهد الشمس وعلاقتها بالأرض والقمر، إذ ينتج عن دورانهما حول الشمس ظواهر طبيعية من خسوف وكسوف وتعاقب الليل والنَّهار. هذا النهار الذي يدق فيه (الظل) ناقوساً فتعيش الذات لذة الوهم. وهم الذات التي ترى نفسها تعيش في غير ما هي عليه التي تنتابها الخيلاء: (يا مسكين /… / لا ظل لك / وظل أنا للتراب) إذ نجد الذات تخاطب الآخر المكمل لعملية الحوار الداخلي([31]) فتشكل رؤية لغوية خاصة لهذه الذات عبر هذا الانشطار الثنائي وعبر فراغات مملوءة متفاوتة الزمن (الليل / والنهار).

يستدعي الظل صورتي الشمس والقمر المؤثرين في ظهوره الذي يتلاشى في حضرة السواد الحالك، ذلك أن وجود الظل لا يتوقف على الجسم فقط، وإنما يتوقف أيضاً على مصدر الضوء([32]) منتجًا بذلك علاقة وثيقة بينهما وبين الأرض فهم كالضفيرة التي تجمع لتكون شيئاً واحداً ألا وهو الكون بأسره، فالقمر يستمد ضوءه من الشمس، وكلاهما يرسلان ضوءهما إلى لأرض، إذ يجسدان علاقة. فهما يتبادلان المهام، فالشمس تظهر نهاراً، في حين أن القمر يظهر ليلاًً وينعكس ضوؤهما على الأرض ليجسدا ظلاً للأشياء التي فوقها.

يبدو مما سبق أن القمر يجسد الليل وهذا تجسيدٌ للبعد الجنسي للأرض، في حين أن الشمس تجسد النهار حيث إن هذه الثنائية تنسجم والحركة التقابلية بين الليل والنهار الناتج من القمر والشمس فكلاهما يحوي الأرض (الليل / النَّهار).

يضفي الشاعر على نصه سمات فردية واضحة عبر أبعاد التفاعل الفعّال مع خطاب الذات، إذ يقول:

تجيئين.. أصبحُ آخرَ

فمن أين جئتِ ؟

وأنا، محاصرٌ ببنات آوى

ترسل الكمائن أمامي

وتطلق المكائد خلفي

وكان نجمٌ يومئ لي

فلا آبهُ..

وأمضي أقول يا لكَ نجم حزين.([33])

تشي علامة الحذف التي تظهر لنا في النص بعد الفعل (تجيئين) بحوار ينجزه القارئ، ذلك أننا أمام صورتين يحضر كلٌ منهما في علامة الحذف، وهما الشاعر الماكث في المكان، والمرأة المستدعاة عبر الآخر، حيث نقرأ في الحذف دلالة الهمس الذي يحقق التواصل بين الحاضر والغائب المتخيل، لكنه ليس تواصلاً تاماً، وهذا يدعو القارئ إلى استكمال النص وتركه بياضاً ((تدخل فيه الذات الكاتبة مسكناً جديداً يحتل فيه المشهد النصي غاية التعدد كما تخرج فيه الذات الكاتبة على أنماط التقعيد التي حولتها من قبلُ إلى جسد خضوع لا يملك أي قدرة على الاحتجاج))([34]). يقول: (فمن أين جئتِ)؟.

نلحظ علامة الاستفهام التي تشكل فراغاً ظاهراً مشبعاً بامتلاء الباطن الذي يقع على المتلقي عبءُ إبرازه، فالفراغ والامتلاء (الحذف الصريح) = (السواد والبياض)([35]). فيومئ إلى حضور ذاته بقوة من خلال بعض ضمائر المتضحة في قوله (أنا / أمامي / خلفي / لي / آبه.. / أمضي / أقول)، وإذا إن الحصار، والكمائن، والمكائد، والحزن تشير إلى واقع مؤلم، لأن الوجع الشعري في هذا النص يتنامى حتى يجعل الذات الكاتبة تومئ إلى وجع وطني جماعي ينطلق من الفرد إلى الجماعة عبر تجسدات دلالية، ((فالدال يلعب دوراً أساسياً في خلق جدلية داخل الكتابة تؤدي إلى تعدد المعنى وإلى انفجاره))([36]). هذه التجسدات منها الثنائية الضدية: (أمامي / خلفي) التي جسدت معاني النص الشعري فأضاءت أجواءه، وبهذا ((فشرط القراءة وعلة وجودها أن تختلف عن النص الذي نقرؤه، وأن تكشف فيه مالا يكشفه بذاته أو ما لم ينكشف فيه من قبل))([37]).

هكذا تفضي هذه القراءة إلى أن ((الانسجام أكثر عمقاً وأدق خصوصية من الاتساق الذي يكتفي، بشكل من الأشكال، بجهود الكاتب في منح العناصر الحضورية خصوصيتها المكانية في بناء النص، في حين يتطلب الانسجام حضور المتلقي الذي ينقب في طبيعة العلاقات الخفية التي تشكل النص وتفاعله))([38]).

من هنا نجد أن الشاعر عبد المنعم المحجوب قد اعتمد في نصوصه على لعبتي الأسود والأبيض، وظف السواد ومن ثم ترك مساحة قد تصل إلى عدة أسطر، ولربما الصفحة الكاملة من البياض، وهذا تعبير يلجأ إليه بعض الشعراء لتصوير الحالة النفسية لحظة كتابة القصيدة، وجعل القارئ مكملاً للتجربة الشعرية وعيش الحالة ذاتها، إذ لعبت علامات الترقيم التي برزت في نصوص عبدالمنعم المحجوب دوراً مهماً في إنتاج دلالة النص حيث إننا وقفنا أمام نصوص مخفية خلف خلفية البياض المتروك، وهذا تجسيد للتقنيات التي أبدع الشاعر بوضعها علامات الترقيم.

________________________________

[1]– محمد بنيس. حداثة السؤال، ص: 34.

[2]– انظر: محمد عبدالرضا شياع. دلالة الانسجام في ديوان الغيمة في يدي، ص:62.

[3]– رولان بارت. الدرجة الصفر للكتابة، ص: 91.

[4]– محمد بنيس. الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها (الشعر المعاصر)، ص: 111.

[5]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، صص: 15. 17.

[6]– محمد بنيس. حداثة السؤال، ص: 26.

[7]– انظر: المرجع نفسه، ص: 129.

[8]– ابن منظور. لسان العرب مادة (ظل).

[9]– محمد عبدالرضا شياع. تجليات الذات الكاتبة في حرارة السؤال الشعري، ص: 75.

[10]– غاستون باشلار. حدس اللحظة، ص: 85.

[11]– جين ب. تومبكنز. نقد استجابة القارئ، ترجمة: حسن ناظم. علي حاكم، ص: 129.

[12]– عدنان حسين قاسم. الاتجاه الأسلوبي البنيوي في نقد الشعر، ص: 159.

[13]– أحمد الطريسي أعراب. التصور المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي والشعري، ص: 43.

[14]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، ص: 7.

[15]– جين ب- توميكنز. نقد استجابة القارئ، ص: 201.

[16]– انظر: محمد بنيس. حداثة السؤال، ص: 29.

[17]– انظر: محمد الماكري. الشكل والخطاب، ص: 215.

[18]– حين ب- توميكنز. نقد استجابة القارئ، ص: 201.

[19]– انظر: محمد عبدالرضا شياع. دلالة الانسجام في ديوان الغيمة في يدي، ص:62.

[20]– محمد عبدالرضا شياع. تجليات الذات الكاتبة في حرارة السؤال الشعري، ص: 75.

[21]– رولان بارت. الدرجة الصفر للكتابة، ص: 90.

[22]– محمد بنيس. حداثة السؤال، ص: 24.

[23]– انظر: مجموعة من الباحثين. قصيدة النثر العربية بين النظرية والتطبيق، ص: 155.

[24]– محمد مفتاح. المفاهيم معالم: نحو تأويل واقعي، ص: 19.

[25]– رولان بارت. لذة النص، ص: 8.

[26]– محمد مفتاح. مرجع سابق، ص: 148.

[27]– عبدالمنعم المحجوب. كتاب الوهم، ص: 9.

[28]– انظر: محمد الماكري. الشكل والخطاب، ص: 110.

[29]– انظر: محمد بنيس. حداثة السؤال، ص: 25.

[30]– انظر: المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[31]– ترفيتان تودورف- ميخائيل باختين : المبدأ الحواري، ص: 134.

[32]– فاطمة عبدالله الوهيبي. الظل: أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية، ص: 176.

[33]– عبدالمنعم المحجوب. كلّما شعّ النبيذ، ص: 33.

[34]– محمد بنيس. الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها (الشعر المعاصر)، ص: 127.

[35]– انظر: مجموعة من الباحثين. قصيدة النثر العربية، ص: 140. 141.

[36]– رولان بارت. الدرجة الصفر للكتابة، ص: 18.

[37]– علي حرب. النص والحقيقة، ص: 6.

[38]– محمد عبدالرضا شياع. دلالة الانسجام في ديوان الغيمة في يدي، ص: 63.

مقالات ذات علاقة

دفقات شعرية

ناصر سالم المقرحي

‘قسامي’ شروع هذياني في كتابة المختلف

محمد الأصفر

هل لدينا نقاد…؟

المشرف العام

اترك تعليق