كان “صراخ الصحراء الصامت” … لا هدوئها مثلما ظننت!!
في مساء يوم 02 08 1992 … ضمن أيام ما أسميها برحلتي الأولى إلى الجنوب..
وبعد أن أنهيت ورفيقا الرحلة طارق الغدامسي ومحمد الطرابلسي جولتنا في مدينة مرزق عاصمة فزان قبل الاحتلال الإيطالي وعاصمة المدنية والعلم والثقافة فيها…
اقتربنا من غابة صنوبر … والشمس مازالت تحاول الغروب فيما بين جذوعها..
فمدحت بصوت عالي هدوء الصحراء الذي لم استشعر مثيله من قبل في صخب مدينتي طرابلس
ليفاجأني طارق بقوله: أتسمي هذا هدوء؟ أنت لم تسمع هدوء الصحراء بعد!!
كان طارق قد أتم دراسته في كلية هون للهندسة الميكانيكية.. وأحب في هذه السنة أن يزور أصدقائه الذين تعرف عليهم في هذه الكلية من أبناء فزان.
فكان لديه صديق في كل مدينة فيها.. وكنا على موعد عشاء مع صديق له في أحد بيوت ضواحي مرزق.. لكنه أوقف توجهنا نحو بيته قرب غابة الصنوبر هذه … ليُسمعنا هدوء الصحراء كما أخبرنا!
نزل من السيارة بعد أن ركنها تحت بعض الأشجار، ثم أمرنا بتتبعه وكأننا سنلج حقل ألغام هو وحده من يعلم بالطريق الآمنة فيه!
كان يتجه نحو ساحة صحراوية شاسعة من الرمال النقية تفترش الدنيا ما بعد الغابة مباشرة.. حيث تمتد إلى ما بعد الأفق
وبينما كنا نخترق الغابة نحو مجلسنا الذي وعدنا به رأيت أن ألتقط الصورة المرفقة في ذكرى هذا الحدث المرتقب!!
في الواقع كلمة مجلس هي مبالغة مني.. فلم يكن هناك كراسي ولا منادير ولا حتى حصيرة!!
كان يتجه نحو بقعة خلاء تتوسدها الرمال الناعمة الصفراء.. لا حجر ولا حتى ذبابة طائشة!
سرنا وراء بعضنا في رتل وكأننا أسرى نحاول الهرب من سجننا إلى الحرية!!
والحقيقة أن وضعنا كان مشابه لذلك إلى حد ما … فقد وعدنا طارق بأننا سننطلق حقاً خارج قضبان صخب المدينة الذي نسج حول نفوسنا سياج سميك من الضباب حال بيننا وبين رؤية حقيقة دنيا الله.
نعم كان لطارق مسحة فلسفية صوفية!
وما هي إلا نحو 10 دقائق حتى توقف فجأة طارق في وسط مساحة شاسعة من الصحراء الرملية الدافئة.
التفت ورائي فرأيت الغابة بالكاد تلاشت …
ثم رأيت طارق وقد استدار إلينا.. ثم بإشارة حازمة من سبابتيْ يديه أمرنا بأن نشكل دائرة جلوس ذكرتني بجلسات الهنود الحمر!!
غير أن جلستنا لم تكن حول نار وإنما حول نقطة بئر وهمي حاول طارق أن يقنعنا بأنه سيكون نقطة اتصالنا بالعوالم السفلية والعلوية!
جلسنا “متربعين” في دائرة.. غير أن طارق جعلها جلسة تأمل بوذية!
انقطع عنا تماماً ورفع وجهه قليلاً إلى السماء.
ثم ما هي إلا دقائق حتى لفنا الصمت!
سكتت أنا ورفيقي محمد عن الكلام راغبين في استكشاف هدوء الصحراء في هذه الجلسة الاستكشافية الأولى من نوعها.
مازالت الشمس تتردد في الغروب لكن بالفعل لبسنا صمت كبير عظيم لم أشعر به في حياتي
لأول مرة لم أسمع صوت سيارة ولا صياح طفل!
كان صمت عميق جداً حقاً حتى تخيلت أنني أستمع إلى خيوط أشعة الشمس وهي تغرب!
لم يكن هناك حتى صوت رياح.. نسيم مساء الصحراء الذي كنت أرغب في الاستماع إلى وجهة نظره وتحياته لم يمر بنا في هذه الجلسة أبداً!
كان غائب غيابا تاما!
وما هي إلا دقيقة حتى خيل إلى أنني أستمع إلى دقات قلبي وكأنها انتقلت إلى طبلة أذني، بل أنني صرت أستمع بوضوح إلى تنفس أذني وما يدور بداخلها من همس لم أسمعه في حياتي!!
بدى صوت تنفسي من أنفي الصخب الوحيد الذي التقطته!!
بالإضافة إلى يقيني من أنني كنت أستمع إلى تدفق الدم في كل دماغي!
وفي لحظات أدركت ما يعنيه استرخاء البوذي.. وما يقصده الصوفي بهذيانه في حضرة الله!
فكرت للحظات لو أدرك أطباء الغرب هذا الهدوء لوصفوه بمئات الدولارات لمرضى ارتفاع ضغط الدم!
ولو أدرك رؤساء شركات السياحية هول هذه الجلسة لجعلوها من أهم فقرات رحلاتهم السياحية إلى فزان..
بل من الآثار الليبية التي كان على وزارة السياحة والصحة أن تتفقا على تقديم طلب لحفظ حقهما فيه ضمن الإرث البيئي في عالم جداول معالم اليونسكو!
كانت جلسة مذهلة حتى ظننت أنها أجبرت الشمس على التباطؤ في غروبها.
لم نكن نرتدي غطاء رأس التوارق … لكنني شعرت بغطاء أرق منه يلف رأسي ويضغط بنعومة ساحرة على شعري وبشرتي!
لا أتذكر بأنني رأيت رفيقاي في الجلسة فقد انغلق جفناي لوحدهما بعد دقائق.
كان حقاً “صراخ الصحراء الصامت” … لا هدوئها كما أخبرنا طارق!!
فلم نفق إلا على إيعاز شبه عسكري من طارق يأمرنا فيه أن ننهض.. ونتجه إلى سيارته.. متأففاً كعادته متمتاً: لقد تأخرنا عن موعد العشاء بسبب جهلكما بصمت الصحراء!!