المقالة

عام الدقيق وعام الذبح

للتذكير بكيف كانت ليبيا، حتى وقت ليس بالبعيد

النول العمودي يُستخدم لصناعة السجّاد (الصورة: الكاتب يونس الهمالي بنينه)
النول العمودي يُستخدم لصناعة السجّاد (الصورة: الكاتب يونس الهمالي بنينه)

مقدمـة:

يُخطيء من يعتقد أن البترول هو مصدر الرزق الوحيد في ليبيا (والرزق على الله).. بل ربما البترول جعلنا ننسى الخيرات الأخرى لليبيا المعطاءة، الأرض الطيبة التي أكرمت أهلها طيلة تاريخ الإنسان على هذه الأرض. فكما ذكرت في مقالات سابقة وبشهادة المستكشفين الأوروبيين فإن خصوبة الأراضي الليبية تساوي سبعة أضعاف خصوبة الأراضي الأوروبية.

فأقرأوا كيف كانت ليبيا تُصدّر إلى الخارج في وقت ليس بالبعيد.

ومع أنني ذكرت “في وقت ليس بالبعيد” إلاّ أنني في هذه الفقرة فقط أعود بكم إلى أيام سبتمبوس سيفيروس حيث عندما تم تنصيبه أمبراطوراً على روما ومستعمراتها، كان أول أمر أصدره هو إعفاء أهله في ليبيا من الضرائب التي كانت تُجبيها روما على “مستعمراتها” والتي كانت تُغيض السكان الليبيين الأصليين. فما كان من الليبيين إلاّ أن ردّوا الإحسان بالإحسان، ولكي يُعبّروا عن امتنانهم لإبن “لبدة” البار.. أصبحت عادة سنوية أن يُرسلوا إليه كميات هائلة من زيت الزيتون الليبي..  فأرخ المؤرخون أنه بعد وفاة سبتيموس سيفيروس في مدينة “يورك الإنجليزية” كانت هناك كميات كبيرة من زيت الزيتون الليبي تكفي روما لفترة خمس سنوات متوالية (1).

فـ “زبدة” ما أود قوله هنا.. هو أن الأرض متوفرة وخصبة وشاسعة، حيث تمتد الأراضي الخصبة لمسافة 70 كم على الأقل من الشاطيء إلى الدواخل.. وبقياس مسافة طول شاطيء ليبيا (أطول شاطيء في البحر المتوسط) ـ أضربها في 70 كم إلى الدواخل ستجد أن مساحة الأرض الخصبة شاسعة ـ  ناهيك عن جنوبنا الطيب الخيّر الذي يُنتج أفضل تمر ربما في العالم كله، فكل ما تحتاجه ليبيا هو (هِمّة أهلها) ونيتهم الصادقة للعمل والإنتاج والنهوض بليبيا من المآسي التي حلت بها منذ قرون طويلة.. الواحدة تلو الأخرى.. وربما نستخدم أموال النفط الآن في تشجيع الزراعة والصناعة في ليبيا الجديدة، وتعليم وتدريب الإنسان الليبي الذي أثبت قدرته في جميع أنحاء العالم.

يجب على الليبي الآن وأخيراً أن يثبت للعالم أنه أهل لهذه الأرض الطيبة المعطاءة.. وأنه كفوء وقادر على النهوض بها..

ربما أصبح الماضى البعيد “أيام سبتيموس سيفيروس”.. من الأساطير لجهلنا به وبعدنا عنه..  وعليه سأعود بكم إلى أقل من قرنين إثنين من الزمان فقط.. حيث ترابطت الأحداث و”حَبِلت” بما حدث لنا الآن.. فربما من تاريخنا نتعلم كيف نخرج من المِحن..

وإليكم نبذة عن كيف كانت ليبيا ليس فقط مكتفية ذاتيا بل كانت “تدعم اقتصاد تركيا”:

قبل احتلال إيطاليا لبلادنا بفترة وجيزة، كانت ليبيا تُعتبر من الدول المُصدّرة في العالم لسلع تتلهف عليها الدول الأوروبية والولايات المتحدة وغيرها من الدول، ومن بين هذه السلع:

الإسفنج والمواشي والحبوب والفواكه والخضروات والمنسوجات الصوفية والقطنية والسجاد والكليم (الحِمل)، إضافة إلى الملح والمصنوعات الجلدية وغيرها من السلع.. وكلها من أفضل الأنواع وتتميز بجودتها العالية (2)

كما كانت الدول الأوروبية تشهد على مهارة الحرفيين الليبيين في بعض الصناعات مثل المنسوجات و المجوهرات وغير ذلك..

إسفنج برقة بالذات كانت له قيمة شرائية عالية لدى الدول الأوروبية ومن بينها اليونان وهولندا وبريطانيا.. نظراً لإستدارته وقلة الثغرات فيه.

ورغماً من أن ليبيا لم تهنأ لساعة واحدة من الإغتيالات والصراع على السلطة ودس المكائد (التي وللأسف الشديد أصبحنا بارعين فيها)!! إلاّ أن ذلك لم يوقف عجلة الإنتاج.

كانت ليبيا تُصدّر نبات الحلفاء والشعير إلى بريطانيا ـ حيث أعتمدت بريطانيا في ذلك الوقت على الحلفاء الليبية في صناعة الورق الفاخر لطباعة النقود والصحف البريطانية مثل جريدة “التايمز” و”الدايلي تلغراف”. كما أعتمدت على إستيراد الشعير بكميات كبيرة من ليبيا لأنه من أفضل الأنواع لصناعة أرقى أنواع الجعّة البريطانية.. ولماذا لا وخصوبة الأراضي الليبية كما ذكرت أعلاه تساوي سبعة أضعاف على خصوبة الأراضي الأوروبية ـ  (3).

ومع أن الدول الأوروبية كانت تستورد الإسفنج الليبي من جميع أنواعه المتوفرة في المياه الإقليمية الليبية، نجد أن بعض الدول العربية تستورد السجّاد والأقمشة الحريرية الليبية مثل مصر الكنانة وتونس.

في عام 1908م أي قبل احتلال إيطاليا لليبيا بثلاثة أعوام وصلت صادرات بنغازي إلى مالطا من الثيران  إلى 700  ثور أو عجل إسبوعياً على مدار السنة!! وذلك من مزارع الكويفية وسوق بنغازي المفتوح يوميا لبيع الماشية بالمزاد العلني، فما بالك بما يتوفر في المناطق الغربية من ليبيا.

أرقام مُذهلة إذا قارنا كل ذلك بما عانته ليبيا فيما بعد من فقر وخراب وهلاك للأخضر واليابس منذ عام 1911 وحتى السابع عشر من فبراير 2011م حيث قامت إيطاليا و”عن عمد” بإهمال الصناعات الليبية من أجل تشجيع صناعاتها لتدخل الأسواق الليبية!! (4)

ولنبدأ بصادرات ليبيا في ذلك الوقت:

كانت ليبيا تُصدّر الإسفنج من أربعة أنواع عالية الجودة: ـ الحجر  ـ التراغنا أو البياضة ـ فيكيو  ـ الأصبع (لست من متأكداً من الاسم الأخير).

النوع الأول يُسمى “الحجر” لأنه ينمو بين الصخور، ويُعتبر من أرقى أنواع الإسفنج، لملمسه وثخانته وشكله المستدير.. ويتكاثر في برقة.

وإسفنج التراغنا ينمو فوق صخور صغيرة على أرضية البحر ويتواجد هذا الإسفنج بكثرة في بحر مصراته.

وإسفنج البياضة شبيه بإسفنج التراغنا في شكله وملمسه، ولكنه أصغر كثيراً في الحجم، ويتواجد قريباً من السطح بينما إسفنج التراغنا يتواجد في الأعماق وينمو على أرضية البحر.

وإسفنج الفيكيو أشتق اسمه من اسم الأعشاب البحرية (وربما التسمية يونانية) حيث تستورد اليونان %40 من الإسفنج الليبي، يعتبر كثير الثغرات مما يجعله أرخص سعراً من سابقاته. وهو يكثر في السواحل الغربية لليبيا.

أما إسفنج لصبع فهو أقلها قيمة بسبب نسيجه ضعيف المقاومة رغماً من أنه أثقل وزناً وأكثر دائرية في الشكل. ورغماً من سعره الرخيص إلا أنه يدخل ضمن الأنواع الأربعة عالية الجودة في صناعة الإسفنج.

أما الأنواع الأقل قيمة فذلك بسبب عدم تناسق استدارتها وأحجامها، ومن بينها إسفنج (أذن الفيل) لأنه يشبه أذن الفيل، ويُعتبر أقل أنواع الاسفنج جودة.

ويُصدّر الإسفنج ويُباع طبقاً لوزنه وجودته، بينما إسفنج خليج سرت وبرقة يباع بالواحدة في مجموعات. أي مجموعة من عشرة أو مائة الخ..

استفادت ليبيا من النظام اليوناني في صيد الإسفنج باستخدام أجهزة الغوص وقاربين كبيرين. ولن اتطرق هنا إلى الأسلوب المتبع في صيد الإسفنج لضيق الوقت والمساحة.

كانت أسعار الإسفنج الليبي تزيد عن أسعار الإسفنج التونسي بنسبة 30%. كما كانت صادرات ليبيا في عام 1909 كالتالي:

اليونان: %40

إنجلترا: %18

هولندا: %17

إيطاليا: %10

تونس: %8

دول أخرى: %7

للأسف الشديد لم تُعطِ ليبيا إهتماماً لصيد الأسماك في ذلك الوقت رغماً من أن ذلك كان سيجلب ثروة هائلة لليبيا. وعليه أقتصر صيد الأسماك على الإستهلاك المحلي فقط.. واعتقد أن هذا بسبب عدم توفر التكنولوجيا لحفظ الأسماك ومنعها من التعفن خاصة وأن الحرارة شديدة في بلادنا.

كما كانت ليبيا تستورد (ثم تُصدّر) ريش النعام والعاج والجلود والتي كانت تستوردها من الدول الأفريقية من خلال قوافل من الإبل.

ولم تكن تستخدم البحر كوسيلة للشحن ونقل البضائع في تجارتها تلك، بل كانت تستخدم قوافل الإبل عن طريق سرت إلى سوكنة ثم مرزق ثم بلما وأخيراً إلى بورنيو أو إلى تيبستي ـ أو تستخدم طريق غات إلى الهوسة. كما كانت هناك طرق قوافل أخرى تنطلق من طرابلس إلى فساتوـ سيناون (فساطو) ـ ثم غدامس ثم غات وأخيراً إلى كانو. إلاّ أن هذه التجارة تأثرت بفعل احتلال فرنسا لـ “تنبختو” مدينة الذهب في مالي.

ومع أن ليبيا كانت تستورد (الفيلالي) المصنوع من جلود الماعز إلاّ أنها كانت تُصدّر الجلود بعد معالجتها إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

ويتضح أن دولة السودان كانت تتمتع بعلاقات تجارية جيدة في ذلك الوقت مع ليبيا حيث كانت تُصدر المخدات القطنية (لكثرة القطن في السودان)، وكانت هذه المخدات تُباع في طرابلس وبنغازي والمدن الليبية.

برع الحرفيون في ليبيا في تصنيع المنسوجات الصوفية والحريرية والقطنية من الأردية والجرود والعباءات والسجاد، وكانت ليبيا تصدرها إلى مصر وتونس وغيرها من الدول. ولا ننس التبغ والملح وحجر الصوان.

كان هناك نوعان من التبغ يُعتبران من أرقى أنواع التبغ وهما التبغ (الفزّاني) والتبغ (الطرابلسي).

تتم زراعة التبغ الفزاني في يناير ويتم حصاده في شهر يوليو. أما التبغ الطرابلسي فتتم زراعته في شهر فبراير ويتم حصاده في شهر أغسطس أو خلال الأيام الأولى من سبتمبر.

كان وزن منتوج التبغ يصل في العام الواحد إلى 26 طن من التبغ الفزاني و11 طن من التبغ الطرابلسي.

كما كانت ليبيا تعتمد على الأبار الإرتوازية في ري المزاع عن طريق (الجابية) والجداول المائية، وكان هناك انتاج هائل من الفواكه والخضروات من أنواع كثيرة مثل التمر والزيتون واللوز والحمضيات والرمان والمشمش والتين (الكرموس) والتوت، والعنب، والحنة والشعير والقمح والتبغ.

ومن الخضروات البازيليا والطماطم والسلق والكوسة، والبطيخ والبصل والثوم والبطاطا وغيرها الكثير من الخضروات. ولا ننس أن جميع هذه المنتوجات تُعتبر من أجود المنتوجات في العالم لخصوبة التربة والشمس والمياه العذبة.

التمر الفزاني يفوق جودة التمر في المناطق الأخرى من ليبيا.

كان المزارعون يجنون (اللاقبي) من أشجار النخيل ولكن لفترة لا تزيد عن الـ 45 يوماً فقط من كل نخلة وإلاّ فإن النخلة ستُهلك.. وكانت هناك رقابة حكومية على ذلك.

أشجار الزيتون كانت تكثر في منطقة مسلاتة بالذات أكثر من غيرها من المناطق الليبية. بلغ الإنتاج الليبي من زيت الزيتون في عام 1910م ستة ملايين لتر 6,000,000  لتر.

كانت هناك صادرات ثمينة من ليبيا من بينها نبات الحلفاء ـ كما ذكرنا أعلاه ـ الذي كان يُصدّر إلى بريطانيا لصناعة ورق صحف جريدة التايمز والدايلي تلغراف وغيرها من الصحب والمطبوعات إضافة إلى ورق النقود المالية الفاخرة. وكان نبات الحلفاء يتكاثر في ترهونة ومناطق أخرى.

كما كانت بريطانيا تولي اهتماماً كبيراً على استيراد الشعير من ليبيا لجودة الشعير الليبي في صناعة أجود أنواع الجعة الإنجليزية.

أما القمح فكان يُصدّر إلى الدول الأوروبية الأخرى.

ذلك إضافة إلى الثروة الحيوانية الهائلة من المواشي مثل البقر والغنم والماعز والإبل والخيل والحمير الخ..

اشتهرت منطقة برقة أكثر من غيرها بالثروة الحيوانية خاصة من الثيران والبقر والغنم والماعز، وكانت الأبقار الليبية من الجنس الأفضل في فصيلتها بين حيوانات الدول الأخرى حيث اكتسبت جيناتها من فصيلة الحيوانات الأفريقية المعروفة بجودة تركيبتها الجسدية والإنتاجية. وكان أفضل سوق للمواشي هو سوق بنغازي الذي يُقام يوميا لبيع المواشي بالمزاد العلني.

تم إحصاء عدد “المواشي المُصدرة من ليبيا” خلال عام 1906 فبلغ  500,000 رأس. وفي عام 1908 استلمت مالطا “إسبوعياً” من إقليم برقة لوحده 700 ثور أو بقرة، وعليك أن تضرب 700 X 52 أسبوع لتحصل على العدد السنوي لصادرات برقة من العجول فقط.

بينما بلغت الصادرات السنوية إلى مصر 340,000 رأس من الضان و 20,000 من الثيران والأبقار.

في عام 1903 بلغ عدد رؤوس الإبل في منطقة طرابلس لوحدها 300,000 رأس. هذا بدون فزان أو برقة. بينما بلغ عدد الخيول في طرابلس الغرب30,000 رأس.

أما مدينة المرج وباقي مدن الجبل الأخضر فقد اشتهرت بدون منافس في انتاج العسل الذي كان يتم تصديره إلى تركيا كاملاً بالشمع.

كما كانت ليبيا تتمتع بموارد طبيعية مثل ـ الملح الطبيعي من (راس التين) في درنة، وسيدي حسين في بنغازي، وأُم التبن في مصراته، والملاّحة في طرابلس، وأم الفريش في زواره. كما تتواجد ترع ملح أخرى في ليبيا. إلاّ أن ملح سرت وطبرق والسلوم كان متماسكا في كتل صلبة وقاسية، مما يجعل من تصديره عملية صعبة.

برع الليبيون في صناعة المنسوجات القطنية والصوفية ومنسوجات الحرير، فقرر (أحمد راسم باشا) تشجيع هذه الصناعة فاستورد في عام 1899 عدد “2,200 شجرة توت” من انطاليا في تركيا وتمت زراعتها في سيدي المصري ومناطق أخرى على امتداد ليبيا وبعضها لا يزال ينمو حتى وقتنا هذا. شجع ذلك على تكاثر (دودة القز) التي تُنتج الحرير. للأسف الشديد اندثرت هذه الصناعة بسبب احتلال إيطاليا لليبيا بعد 12 عاماً من زراعة هذه الأشجار.

كما برع الليبيون في المنسوجات بكافة أنواعها، فبلغ عدد “نول المنسوجات” في ليبيا كالتالي:

طرابلس:

1700 نول تنسج الأقمشة القطنية

350 نول تنتج الأقمشة الصوفية

150 نول تنتج الأقمشة الحريرية

مصراته:

في مصراته فبلغ عدد النول 250 نول أفقي للمنسوجات الصوفية. أما النول العمودية فإنه لم يتم التمكن من حصرها لكثرتها، والنول العمودية تتخصص في نسيج السجاد والحِمل (الكليم) والعباءات والجرود الليبية.

بنغازي:

بلغ عدد النول في بنغازي 450 نول للمنسوجات القطنية، و50 نول للمنسوجات الصوفية و10 نول للمنسوجات الحريرية.

درنـة:

وفي درنة بلغ عدد النول 100 نول للمنسوجات القطنية و12 نول للمنسوجات الصوفية.

ولا ننس البادية الذين كانوا ينسجون الكليم (الحمل) والحصائر الخ.. والذين لم يتم التمكن من حصر نولهم لتنقلهم المتواصل (الرحيل) وصعوبة إجراء الإحصاءات في ذلك الوقت.

وكانت منسوجات الأردية تتكاثر في ليبيا.. ويبلغ طول الرداء 13 قدم وعرضه 5 أقدام. بلغ انتاج الجرود (الحولي) في طرابلس 250,000 حولي في السنة، حيث يتم استخدام %75 منها للاستهلاك المحلي وتصدر الـ   %25 المتبقية إلى تونس وبرقة. أما ناظمات أسلاك النول فكان يتم استيرادها من مانشستر في بريطانيا وبعضها من النمسا وإيطاليا.

وأفضل أنواع الأردية: الوردي المطبّق، والخمسي المطبّق، والوردي بوطرف، وحب الرمان.

تتعلم الفتيات في برقة من أمهاتهن حرفة النسيج، وتلاحظ في الصورة كيف أن كل واحدة منهن تقوم بدورها في صنع السجاد

كما كانت غدامس تشتهر بجودة منسوجاتها إلاّ أن الحولي هناك يبلغ 5 أقدام للطول و2 قدم للعرض.

الحولي الجبالي كان أنصعها بياضاً حيث كان يُصنع في جبل نفوسة ويتم تبييضه بالجبس المخلوط بالماء. يبلغ حجم الحولي الجبالي 16 قدم للطول و5 أقدام للعرض.

كما كانت ليبيا تنسج البطاطين والتي يبلغ حجمها 25 قدم للطول و6 أقدام للعرض، أو بالحجم الآخر الذي يبلغ 18 قدم للطول و4.5 قدم للعرض. تباع المنسوجات في طرابلس في سوق الرباع الجديد.

اشتهرت مصراته بجمال سجّادها وروعة النقوش والرسومات التي أصبحت في ذلك الوقت معروفة ليس فقط في ليبيا بل في دول كثيرة، فألوانها كانت تنبض بالحياة وكانت برّاقة تجذب الأنظار، كما كانت تُصنّع من الصوف الصافي سواء كان ذلك بألوان طبيعية أو بألوان اصطناعية. وكانت نقوشها ورسوماتها تأتي في أشكال مثلثات ومضلعات ورسومات للغزال وأشجار الرمان والفواكه الأخرى، أو ذات أشكال من الدوائر وحتى من النقود التي يتم تطريزها أحيانا باستخدام خيوط الحرير وبأحجام مختلفة. ويتم نسيجها في شكل سجاد للاستخدامات المنزلية أو كسروج للخيول أو “حوية” وهي مقعد الراكب على الإبل، وأغطية أخرى طبقاً لألوانها وأحجامها، ولها مُسميات مختلفة مثل: “أم الدرج”، “الباره”، “الرمّان”، “صوبات القاضي”، “الزّليز”، “المرقوم” ـ “الكليم”.

بلغ إنتاج السجاد في ليبيا حوالي 7,000 سجاد في العام أغلبها يتم نسيجه في مصراته.

بلغ إنتاج الجرود حوالي 8000 جرد في العام، ولها أسماء مُتعددة.

كما أن صناعة الحصائر (الحصيرة أو الديسة) نالت حضاً كبيراً في ليبيا وكانت تُنتج بأعداد هائلة. وكانت حصائر طرابلس في ذلك الوقت تفوق في الجودة تلك التي تُصنّع في تونس.

كما أشتهر الليبيون بصناعة المجوهرات مثل الذهب والفضة وفي صناعة الجلود والمخمل وأعمال التطريز.

اشتهرت الليبيات بارتداء أزياء غنية جداً لا تخطر على البال، إلا أنه بينما الرجل يظهر بملابسه على الملأ في السوق، فإن المرأة الليبية تتبجح بأزيائها الرائعة هذه فقط بين قريناتها أوفي بيت أهلها.

ومن بين ملابس المرأة الليبية: “الفانيك” وهو قميص مطرز بخيوط فضية. و”الفرملة” والقفطان والمريول والكوفية.

بينما الرجل يرتدي السروال والفرملة والزبون والبرنوس والبرنوس السوداني.

ويشتهر الليبيون بصبرهم ومهارتهم في أعمالهم الحرفية ولا تقل أعمالهم في الجودة عن أعمال نظرائهم الأوروبيون والهنود في التصنيعات الدقيقة شائكة التصميمات.

ومن بين هذه المصنوعات: السبتة والغلاف، ونقالة زوز غداري، الحزام، وجواء سيف العرب، والبلغة، والكندرة، وحزام الثلاثين، وكساء دخان المضغة (جواء لحفظ المضغة)، وجواء السكين وجواء الكميّة المصنوعين من الجلد. وعيار الفضة المستخدمة في ليبيا هو 900/1000 والذهب عيار 18 قيراط وعيار 22 قيراط.

كما كانت هناك مصنوعات أخرى، ربما توقف الليبيون عن تصنيعها في ذلك الوقت وهي: الصالحة (صوالح) تزين بها المرأة الليبية غطاء رأسها. والخلال، والدبات وهو خاتم فضي يربط رداء المرأة الليبية (توكامية). والشنقال، والشعراية (قلادة)، والمكحلة، والنبايل، والحزام والخلخال، والقرن وهو قرن صغير من الفضة لقبعات الأطفال، والطيور وهي دنادين (أقراط) من اللؤلؤ.

مع أنه كانت هناك صناعة محلية للخزف في طرابلس وغريان، إلا أن السلطات التركية لم توليها اهتماماً يُذكر مما أضطر الناس إلى استيراد الجرار وغيرها من المواد الخزفية من تونس.

كما ذكرنا أعلاه أسواق برقة كانت تشتهر بمبيعات المزاد لبيع الأبقار والضان والماعز، وكانت هذه الأسواق تفتح بشكل يومي حيث يُعلن عن بدء المزاد العلني وتبدأ عمليات البيع.

الخلاصة: مع توفر التكنولوجيا الآن وأموال النفط يمكننا الاستثمار في الإنتاج والصناعة بدون حدود، فإذا نجحنا منذ أكثر من قرن من الزمان في الإنتاج وكانت بلادنا من الدول المصدرة إلى العالم فإن الفرصة الآن أكبر للتقدم في هذا المجال بالاستثمار في الإنسان والأرض على حد السواء.

ومع أن ليبيا كما تُلاحظ عزيزي القارئ كانت من الدول المصدرة وتحتوي على خيرات كثيرة إلا أنها تعرضت لكوارث طبيعية أثّـرت في بنيتها السكانية فتقلص عدد السكان والحيوان والزرع.

ومن هذه الكوارث، نذكر:

مرض الطاعون الذي ظهر في ليبيا خلال العام 1785م والذي فتك بعدد كبير من السكان حتى أن الحالة وصلت إلى دفن جماعي للسكان لكثرة الموتي. ومن بينهم “عبد الرحمن” أحد سفراء يوسف باشا القره مانللي ـ وفر الكثيرون من الليبيين إلى مالطا وتونس وحتى إلى الجزائر والمغرب.  ويُذكر في الكتب التاريخية أن النساء الليبيات اللاتي كن لا يخرجن عاريات الوجه وصلت بهن الحالة إلى العويل ولطم الخدود في الشوارع وهن ينقلن موتاهن إلى المقابر ـ وتصفهن الآنسة تاللي في كتابها “عشر سنوات في بلاط طرابلس” بأنهن كن يخرجن بدون (اللحاف الخارجي) عاريات الوجه وشعرهن أشعث يلطمن خدودهن ويصرخن حزناً على أحبابهن، إلا أنه فيما بعد أصبحت جثث الموتى ملقية على نواصي الشوارع ولا أحد يهتم بها لكثرة الموتى”.

ثم عاد مرض الطاعون مرة أخرى في عام 1849 وأدى إلى هجرة أخرى لليبيين ولكنها كبيرة في هذه المرة لم يسبق لها مثيل إلى مالطا وتونس والدول المجاورة في الجنوب.. إذ ربما تذكر السكان الطاعون السابق.

ولم يلبث أن عاد مرض الطاعون للمرة الثالثة في عام 1911 وهو عام احتلال إيطاليا لليبيا.

أي ثلاث كوارث لمرض الطاعون حلت بليبيا ـ كل 60 عام تقريباً.

يُقال أن الطاعون سببه (براغيث) دقيقة لا تُشاهد بالعين المجردة، ومصدرها هو الصين، وتخرج في مجموعات هائلة وتتقدم لمسافة كيلومتر في اليوم. تدخل هذه البراغيث عن طريق الأنف والفم، وتتكاثر في رئتي الإنسان، فتنتفخ أوداجه، ويُصاب بالحمّى ويتقيأ بعنف، وتجحظ عيناه، ويضيق تنفسه، وهكذا يموت بأبشع أنواع الموت وببطء. ويُقال أن السكان الأصليين من العرب والبربر فقدوا رُبع عددهم الأصلي، بينما فقد الأوروبيون في ليبيا أربع أخماسهم.

كارثة من نوع آخر حلت بليبيا في العام 1871م (14 عاماً قبل الطاعون الكبير)، حيث تعرضت ليبيا لقحط وجفاف لم تشهده سابقاً، فسُمي عام 1871 بـ (عام الذبح). إذا لم يتمكن المزارعون والرعاة من توفير المياه أو العلف لمواشيهم فاضطروا لذبح المواشي بدلاً من تركها “جيف” تموت من العطش والجوع. كما تم فتح مطابخ ومستشفيات حقلية اضطرارية للعائلات الفقيرة.

تخيّل الخسارة الهائلة لليبيا في التخلص من حيواناتها، فلا شك أن كثيراً من الخيول والحمير أيضاً قد نفقت جوعاً وعطشاً، وهذا ليس من السهل تعويضه في ذلك الوقت لحاجة السكان إلى بهائمهم للتنقل والأكل الخ..، فأحسبها كارثة أثّـرت على اقتصاد واستقرار ليبيا فيما بعد.

بعد عشرة سنوات من تلك الكارثة جاءت كارثة “عام الدقيق”، حيث عاشت ليبيا فترة من القحط والجفاف ليست أفضل من سابقتها، فاضطرت الحكومة التركية لأول مرة إلى استيراد الدقيق من تركيا لتغطية الإستهلاك المحلي بتوزيعه على السكان خاصة في الأرياف الليبية.

كان الليبيون في ذلك الوقت يحسبون المواسم الجيدة ويتوقعون موسم جفاف واحد من خمسة مواسم جيدة، وعليه يتخذون احتياطاتهم لذلك.. إلا أن هذه المرة خلف هذا القحط جفافاً وبؤساً لم يعرفه السكان من قبل.

وكل هذه الكوارث أثرت بطبيعة الحال في مسيرة واستقرار ليبيا كما ذكرت، ناهيك عن احتلال إيطاليا لليبيا. لا حظوا كم عانى المواطن الليبي (المُهوَّل).

رسالة إلى حكومتنا الجديدة

ـ ومع أن موضوع الأثار ليس موضوع هذه المقالة ـ ولو أنه أحد المصادر التراثية ـ إلا أنني استغل هذه الفرصة لأطلب راجياً من حكومتنا أن تخصص قوة عسكرية خاصة لحماية الأثار ـ مع إنشاء بناية في كل موقع أثري يهتم بشؤون الأثار في المنطقة المعنية.

إن ما تحت الأرض أكثر مما فوقها من أثار ولهذا سيتربص اللصوص بسرقة أثار ليبيا التي لم تُستكشف بعد، فكفى ما سرقوه.


المراجع:

1 كتاب عبر الصحراء لهانز فيشر ـ جاء سبتموس سيفيروس إلى بريطانيا لإعادة بناء هادريان وول (حائط هادريان)، ومات في مدينة يورك. بالمناسبة كانت روما تُجبي ضرائباً غير معقولة على السكان الليبيين إلى درجة أن الليبيين أحرقوا مزارع نبتة السيلفيوم التي كانت تدر دخلاً كبيراً يُقال أنه أغنى سكان هذه البلاد. ونبتة السيلفيوم مشهورة في العالم القديم بأنها تُشفي كثير من الأمراض المتفشية في ذلك الوقت، وعليه انتشرت زراعتها في كافة أنحاء الجبل الأخضر. يا ليت هناك من يبحث عنها الآن فربما لا تزال تنبت في الجبل الأخضر. بالمناسبة سبتيميوس سيفيروس ليس رومانيا بالكامل بل أن أبيه ليبي وأمه رومانية وحتى أن الرسومات المتوفرة له تُبين شكله أسمر قمحي اللون بشعر أسود ملفوف في دوائر مما يدل على  أنه ليبي وليس روماني مولود في ليبيا.

2 ليبيا تحت الحكم العثماني “الحقبة الثانية” ـ  تأليف الرائد أنتوني كاتشياM.B.E, F.R.S.A, F.A.I.A.

3 مذكرات الآنسة تاللي ـ عشرة سنوات في بلاط طرابلس.

4 نفس المصدر في رقم 2 أعلاه


مقالات ذات علاقة

الحب الذي لن يجف

محمد الزوي

هرطقات ليبي معزول (8): في يوم الوثيقة العربية 17 أكتوبر 2018

مصطفى بديوي

حكاية قديمة جداً

المشرف العام

اترك تعليق