من ذكريات الدراسة في أوكسفورد
الدكتور عبدالعزيز الصويعي
كانت لذة الصيام في هذا الشهر فريدةً ومميزةً. فهو أول رمضان أصومه بعيداً عن أهلي وعشيرتي وجيراني وبلدي ووطني. وأول رمضان لم أر فيه تصرفـات الصائميـن المقصودة منها والعفوية، التي كانوا يمارسونها في الأسواق الشعبية، تحت ذريعة (حْشِيشَة رمضان)، خصوصاً في الفترة بين العصر والمغرب. وأول رمضان لم أصلِّ فيه التراويح على المذهب المالكي. وأول رمضان لم أحظ فيه بسهرات العائلة الطويلة، التي تتواصل حتى السحور. وأول رمضان لم أستمتع فيه بـ(طُرح شكُبَّة) أو أية لعبة ورقيـة أخرى. وأول رمضان لم أتناول فيه مُحليات (العَسْلَة) و(الشاميّة)..
هذا من حيث المتعة اليومية المألوفة في شهر رمضان، أما الجانب الروحي، فأنا سعيد بصيامي في هذا الشهر المبارك. فهو أول رمضان ختمتُ فيه القرآن الكريم مرتين. ولم أتخلّ عن صلاة العصر بالمسجد، ولا عن صلاة القيام، ولا عن صلاة الجمعة، إلاّ فيما ندر. رغم انتظامي في الدراسة بالمعهد، ومراجعة دروسي في البيت. ورغم تباعد المسافات بين المعهد والبيت والمسجد.
كنت ألتقي يومياً تقريباً بصديقي الليبي، خصوصاً بعد الإفطار مباشرة للذهاب بسيارته إلى المسجد، وكان ودُوداً محبّاً، ومواظباً على اصطحابي للمسجد، وكان يشارك (الشيخ الباكستاني) أحياناً في إمامة المصلّين، فهو من حملة كتاب الله، ويتقن الإنكليزية. وكنت سعيداً بمرافقته، وأحترمه كثيراً، ولا أدخن ما دمتُ معه في السيارة. وعلى ذكر التدخين في ليالي رمضان، حصل لي موقف طريف يشكل التدخين سببه الرئيسي. ففي ذات يوم من أيام رمضان كان موعدي مع امتحان يقيمه معهد (بيتمـان) في لندن، يجرى عادة بإحدى مدارس “أوكسفورد”، فشاركتُ فيه بدافع الحصول على شهادة متقدمة (أدفنسد) التي يمنحها ذاك المعهـد المشهور، بعدما حصلتُ منه على شهادة متوسطة (إنترمديت 2).
غير أن موعدَ الامتحان لم يكن مناسباً لصائم مثلي. فهو يبتدئ قبل موعد الإفطار بساعة تقريباً، وينتهي بَعدَه بعدّة ساعات. مع العلم أن آذان المغرب يحين في حدود الساعة التاسعة، وأن الجوّ العـام يوحي بوقت المغرب قبل الساعة السابعة، حيث يحل الظلام، وتُنار الشوارع بالمصابيح. فننتظر موعد المغرب الحقيقي مدّة تفوق الساعتين والوقت ليلاً ظاهراً..!
خرجتُ من البيت، وأنا أدرك ذلك تماماً. فأخذتُ علبة من (الروثمن) ودفنتها في جيبي، لأتناول منها سيجارة عقب خروجي من الامتحان.
وخلال إجابتي عن الأسئلة، نظرتُ في ساعتي، فعلمتُ منها أن موعد الإفطار قد حان. ولكنني ممنوع من التدخين داخل الفصل الدراسي. فزادتْ رغبتي في (سبيسي). وبدأتْ تتراقص بين عينيّ السيجارة، حتى كدتُ لا أعي ما أكتب..
حمدتُ الله على أن الامتحان مرَّ بسلام، حسب اعتقادي. وما أن انتهيتُ من آخر ورقة، حتى لاحظتُ أن معظم الممتحنين قد غادروا، باستثناء الأساتذة الملاحظين. فخرجتُ من الفصل متمايلا وشبه مترنح كالسكران (حاشا الشهر).
وقفتُ في بهو المدرسة، وأخرجتُ سيجارة، ووضعتها في فمي، وبحثتُ عن (وَلْعة) فلم أجد في جيبي علبة الكبريت. إذ يبدو أنني نسيتها في البيت.. نظرتُ بحوَلٍ شديد إلى الأساتذة الخارجين من الفصل، وكنتُ أراهم على الطريقة الشامية: (الزَّلَمِي عَشْرَة)! فطلبتُ منهم (وَلْعَة)، فاعتذروا، بحجة أنهم ليسوا متورطين في هذه العادة السيئة. وخرجنا جميعاً من المدرسة بعد أن أقفلوا أبوابها. فوقفتُ أنتظر الحافلة. وكان الوقتُ متأخراً نسبياً، وحركةُ الحافلات بطيئة جداً في الليل كالعادة. بحثتُ في الشارع عن أي مدخّن، فلم أجد من يتحرك فيه أصلاً.
– لعن الله الدخّان والمدخّنين.
شعرتُ برغبة في إعلان الإقلاع عن التدخين. ولكنني أرجيته إلى ما بعد هذه السيجارة التي في فمي. وقررتُ جازماً أن أوقد فيها النار وأشفي منها غليلي شماتةً. ولكنني انتظرتُ طويلاً قبل أن أنفذ قراري. حتى وصلتْ الحافلة.
صعدتُ -كعادتي- إلى الدور العلوي المخصص للمدخنين . فلم أجد فيه أحداً، باستثناء زوجين عجوزين يجلسان في منتصف الحافلة، ويتحدثان بصوت عال. وكان الرجل يدخّن الغليون. فتخلّيتُ عن عادة الجلوس بالكراسي الأمامية، ورميتُ جسمي المنهك على الكرسي الواقع مباشرة خلف العجوزين، فانزعجا مني. ولاحظتُ أن حديثهما بدأ ينخفض ويتقطع منذ جلوسي خلفهما، وهما يلتفتان إلى بعضهما ويسرقان النظر بحذر شديد إلى الخلف. فقد استغربا اختياري للكرسي القريب منهما بينما كانت كلُّ كراسي الحافلة خالية من الركّاب.
قررتُ أن أطلب (وَلْعَة) من الرجل المدخّن. وحاولتُ أن أحرّك لساني المتثاقل، وأمد يدي المرتعشة إلى كتف الرجل، لألفت انتباهه إلى سيجارتي. وبدلاً من أن أربُتَ على كتفه بلطفٍ كما قررتُ، لكزتُه لكزة قوية، إهتزّ لها، والتفتَ مذعوراً، وحدّق في وجهي بعينين واسعتين. فقلتُ له بصوت مخنوق ولسان ثقيل:
– (لايت.. بليز).
خيّم على الحافلة صمتٌ رهيب، باستثناء بعض الهمهمات الواردة من الدور السفلي، دام برهة من الزمن، عض خلالها الإنكليزي على غليونه، وراح يفتش في جيوبه، فأخرج منها علبة كبريت، وحاول تسليمها لي وهو ساكت وشبه متردد. خلته كأنه سيصيح في وجهي قائلاً:
– ( إمضِ قيس..إمضِ.. جئتَ تطلبُ نارا ..
أم تُرى جئتَ تشعلُ البيتَ نــارا..)!
حقيقةً كانت (ليلاي) وقتها تلك السيجارة التي لا تزال في فمي هامدة لا نار فيها. فمددتُ يدي لتناول علبة الكبريت من يد الإنكليزي، لكنه امتنع فجأةً وتراجع، وأعاد العلبة إلى يده الأخرى، وفتحها، وأخرج منها عود ثقاب، وفركه بقوة على قشرة الفوسفور الجانبية، حتى صدر منه اللهب، ومد يده، وأشعل لي سيجارتي بنفسه.
لا أدري ما كان يدور في رأس هذا الشائب. ربما خاف أن (أشعل الحافلة نارا) مثلما خاف أبو (ليلى) من (قيس) عندما جاءه يطلب نارا..!
أخذتُ نفساً طويلاً، ونفخته بقوة في الفراغ بين الزوجين العجوزين، وهما لا يزالان يلتفتان إلى الخلف، وقد انقطعا تماماً عن الحديث.
أرخيتُ جسمي على الكرسي، منتشياً بسيجارتي وما سبّبته لي من (دوخة) عنيفة، ومتأسفاً عما حصل للإنكليزي وحرمه من انزعاج لم ينقطع، حتى وصلنا المحطة.
بالصدفة كانت محطتي نفس المحطة التي يجب أن يتوقف عندها الثنائي العجوز. فسارا في الشارع أمامي بخطوات متأنية وحذرة، مع التفاتات قصيرة، إلى أن عرّجتُ في اتجاه بيتي، فخلّصتُهما من سوء الظن بي..! ولكنني حُرمتُ ليلتها من الصلاة في المسجد مع صديقي.