لم يحصل الليبيون على استقلالهم نتيجة انتصارهم على الاستعمار، مثلما حصل عليه الجزائريون، ولا بمزيج من الكفاح والتفاوض مثلما حصل عليه التوانسة والمغاربة والمصريون.
جاء الاستقلال هدية حتى إن الأمم المتحدة لم تجد أفضل من أعياد الميلاد لتعلن استقلال ليبيا، وهو العيد الذي تعودوا فيه على تبادل الهدايا، فيوم 24 ديسمبر لا يوافق أي ذكرى في تاريخهم، مثل دول الخليج التي نالت استقلالها في الصيف، ففضلت الاحتفال بيوم الاستقلال في الشتاء حيث يسمح الطقس بخروج الناس للاحتفال بهذا الحدث الكبير.
هل انتبه الليبيون لكتابة الدستور أم أن المبعوث الأممي الهولندي ادريان بلت نبههم إلى ذلك؟.
وبعد اختيار عشرين من كل إقليم لصياغة الدستور، استعانوا بالفقيه الدستوري المصري عبد الرزاق السنهوري، ثم استعانوا بشاعر تونسي لكتابة النشيد الوطني وبالملحن المصري محمد عبد الوهاب لتلحين النشيد، وهكذا حصلوا على الاستقلال، والباقي تفاصيل.
التفت الملك إدريس يبحث عن كفاءات تعينه على بناء الدولة، فوجد عشرة رجال يحملون شهادات جامعية، وبعض الكفاءات التي تعلمت وعملت مع الإيطاليين، وكان قادة الجيش أميين مثل بوشاح وبوقويطين، وقدرت نسبة البدو الرحل بحوالي ستين في المائة، والباقي يعيشون في الأرياف والمدن الصغيرة، فعدد سكان طرابلس عندما وصل الطليان لم يتجاوز 36 ألف نسمة، ومع ذلك فقد قام الحد الأدنى من الدولة وخاصة بعد اكتشاف النفط، وعودة النازحين والمهجرين في الدول المجاورة.
جاء القذافي وألغى الدستور ولم يعترض أحد. غير العلم والنشيد ولم يعترض أحد، ثم بدأ في تفكيك الدولة التي فاز بها بخطاب واحد في إذاعة بنغازي، بعد أن تاه بسيارته الفولكس في مدينة صغيرة وعاد إلى معسكر قاريونس، إلى أن جاء زملاؤه يبشرونه بنجاح “الثورة”.
نفس القصة بتفاصيل مختلفة تكررت في كل الانقلابات العسكرية العربية، منذ انقلاب العراقي بكر صدقي عام 1936، ومنذ أن قال جمال عبد الناصر “ارفع رأسك يا أخي” وذلك الراس ظل يرتفع حتى سقط بين قدمي صاحبه.
الآن نقف جميعا عند الجدار الأخير مثلما يقف المحكومون بالإعدام، وليس في وسعنا أن نرفع شيئا سوى أقدامنا الحافية، الذين انطلقوا من دول واعدة في العهود الملكية مثل مصر والعراق وسوريا، ورفعوا شعارات القومية العربية وتحرير فلسطين، أو الذين انطلقوا بشعارات علمانية ونصحوا الفلسطينيين بقبول قرار التقسيم. بلدان نهبت بالكامل وتفشت فيها الطائفية والحروب الأهلية، ومعظم سكانها مهجرون أو نازحون.
لم تنجح هذه الأنظمة في بناء الأمة انطلاقا من الشعارات القومية، كما لم ينجح الإسلاميون في بناء الأمة الإسلامية ودولة الخلافة، فإذا كان عبد الناصر قد استلم مصر والسودان وكانت قيمة الجنيه المصري تساوي أربعة دولارات، فقد توفي وهو في السلطة بعد أن انفصل السودان، وفقدت مصر سيناء وقطاع غزة، وشيع في جنازة مهيبة دون أن يحاسب على كل هذه الخسائر.
والإسلاميون في السودان لم ينجحوا إلا في تقسيم البلاد، بعد أن أعلنوا الجهاد على شركائهم في الوطن، وقبلهم خاض الماركسيون حربا أهلية في جنوب اليمن، واتضح أن لا علاقة لهم بماركس ولينين وإنما بقبائلهم التي استعصت على الخروج من التاريخ.
رفع البعثيون شعار “وحدة حرية اشتراكية”، فرفع عبد الناصر شعار “حرية اشتراكية وحدة”، ولم تذكر كلمة ديمقراطية إلا في الاسم الطويل للجماهيرية العظمى، وفي الاسم الرسمي لدولة الجزائر وجمهورية اليمن الجنوبية، وتحولت الكلمة عند القذافي إلى “الشعب على الكراسي”، و “الدهماء على الكراسي”، ولو قال “الدواب على الكراسي” لتنبأ بما حدث بعد 2011.
ها نحن جميعا عند الجدار الأخير. دول على شفا الإفلاس، وجيوش تقصف شعوبها بالغازات والبراميل المتفجرة، ومليشيات أشبه بشراذم المماليك والانكشاريين، وشعوب تقفز بأطفالها في البحر هربا من هذا الجحيم، وبرلمانات أشبه بسيرك من المعتوهين. يحدث ذلك في بلد المليون شهيد وبلد المليون حافظ وبلد المليون شاعر، وسيحدث في بلد من سيربح المليون.
الديمقراطية مفهوم أنتجته الحداثة الغربية بعد حروب طائفية وقومية طويلة، كأفضل طريقة للتوافق بين تيارات سياسية وآيديولوجية تعبت من الحرب ولجأت إلى صناديق الانتخابات. المشكلة الأساسية أن مجتمعاتنا رفضت الحداثة وقيمها الفكرية، وقبلت على مضض بمنجزاتها المادية، حتى أحزاب المعارضة لا تؤمن بالديمقراطية. الإخوان المسلمون لا يزال يحكمهم حسن البنا وسيد قطب من قبريهما، والأحزاب الشيوعية لا تزال تدين بالولاء للينين.
زعيم الحزب الشيوعي السوداني محمد إبراهيم نقد ظل الأمين العام للحزب منذ إعدام سلفه عبد الخالق محجوب في مطلع السبعينيات وحتى وفاته عام 2012، وخالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري توفي وورث الحزب لزوجته، وحزب البعث في سوريا والعراق لم يجد إلا التوريث لبشار الأسد ولقصي صدام حسين، ومبدع عصر الجماهير كان يجهز ابنه سيف الإسلام، حتى شقيق بوتفليقة كانت عينه على كرسي أخيه الذي لا يستطيع تحريكه، والصادق المهدي توفي وهو زعيم حزب الأمة قبل أن يورثه لأبنائه، والإسلاميون المتطرفون لا يزال يحكمهم ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وأبو الأعلى المودودي.
في مثل هذه البنية العشائرية لا معنى للذهاب إلى الانتخابات، لأن الناس لن تنتخب ممثليهم وإنما سينتخبون ممثلي القبائل والأحزاب التي تسعى لاستئصال بقية الأحزاب. العلمانيون واليساريون والقوميون فضلوا بعد ثورات الربيع العربي أن يحكمهم الجيش بدلا من الإخوان.
استئصل البعث في العراق فحكمته الأحزاب الشيعية، ووقف الكثير من الليبيين مع حفتر نكاية في الإخوان، ونسي العلمانيون في تونس تنظيراتهم عن الديمقراطية وأيدوا انقلاب قيس سعيد المدعوم من الجيش نكاية في حركة النهضة.
كانت عشرية سوداء لم نجن منها إلا الحروب والإفقار وهذه البرلمانات المضحكة. رئيس برلمان ليبيا رجل قبلي يقول كلمته في الميعاد، ورئيس المجلس الأعلى للدولة لا يزال يدين بالولاء لحسن البنا، أي أننا ذهبنا للانتخابات كمنجز من منجزات الحداثة لننتخب ممثلي تكوينات اجتماعية وسياسية ما قبل الحداثة.
عندما تطرد القبيلة والعشيرة والطائفة من البرلمانات، ونعتمد مفهوم المواطنة سوف ننتخب برلمانات تمثلنا بغض النظر عن أصولنا القبلية والطائفية والعرقية واللغوية، وبالتالي فإننا في حاجة إلى إعادة تنظيم أنفسنا في نقابات واتحادات وجمعيات وروابط تسمو فوق التكوينات السابقة، وتمهد لنا للولوج إلى عصر الحداثة الذي نستخدم كل منجزاته من الكمبيوتر والهاتف المحمول ومواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية لنشتم قيم الحداثة.
بوابة الوسط | الأحد 12 فبراير 2023