النقد

عزة المقهور.. كامرأة تربعت على حافة العالم

سحر عبد المجيد | القاهرة

امرأة على حافة العالم.. للقاصة عزة كامل المقهور
امرأة على حافة العالم.. للقاصة عزة كامل المقهور

بداية من عنوان المجموعة (امرأة على حافة العالم): ترسم المبدعة عزة المقهور المرأة/ الإنسان التي تقف على حافة العالم؛ لتعيد صياغة العالم كما تود أن تراه، وتضع أسسا لوعي المرأة وعقلها وسلوكها كما ينبغي للمرأة أن تكون إنسانا جميلا متزنا.. يحب ويبدع ويغير ويقيم، امرأة تضع خطوطا عريضة تحت ما ينبغي أن يكون للمرأة، وما ينبغي أن تكونه المرأة متخذة عدة ملامح تضعها كحجر في الماء تاركة تلك الدوائر تتسع؛ لتصل لكل متلق كي يدخل في دائرة وعيه وتأوليه الخاص ويعيد صياغة ما كتبته وكأنه حياة خاصة له.. تترك مساحة جدل ما بين نصوصها وبين المتلقي؛ ليصنع دوائره الخاصة ويستطيع أن يقف على حافة عالمه؛ ليعيد صياغة مفاهيمه ورؤيته لواقعه.

إن المبدعة تدعو المتلقي للمشاركة في الوقوف بجوارها على حافة العالم ليرى من زاوية مختلفة فربما ذلك يساعده على فتح نوافذ جديدة للتفكير.

يعد الإهداء هو الملمح الثاني بعد العنوان لرؤية الكاتبة للعالم، العالم الذي يتخلل من بين أصابع امرأة صانعة له، منبثقا من أجزاء روحها ووعيها بكل تفاصيله، عالم تقف على حافته؛ لترى كل خفايا العوالم المحيطة، لتصنع لنفسها نوافذ كثيرة من الضوء لها ولكل أنثى أرادات أن تعي معنى الفعل الأنثوي في حياتها وحياة الآخرين، وفى تشكيل عالم مختلف، عالم يتقبل الحرية والعدل والتوازن والاختلاف.

فالمرأة على حافة العالم لم تصل إليه بسهولة، وصلت للحافة بعد جهد ووعي وألم وصراع ولحظات عاصفة استطاعت استبدالها بلحظات هادئة تخللها قرارات حاسمة في حياتها.

الجذور التي استقت هذه المرأة معرفتها وثقافتها ووعيها كانت الأم، فالإهداء يبرز دور “الفعل الأنثوي”/ الأم في حياة الأبنة فالأم، روت والأبنة تخيلت، ثم فتحت الكتاب فقرأت، وأمسكت بيدها فكتبت، ووجهت خطواتها فسارت، ثم كانت بمثابة (الوحي/ الأنثى) الأول من نوعه (الذي/التي) نفخ في أحلامها فسافرت إلى حافة العالم، فكيف لإنسان أن يكون بتلك القوة التي تشكل وتصنع وتحيي شخصا آخر، إنسان له من الخيال والإرادة والقوة والتوجيه والروح القوية سوى إنسان/ أنثى “أمّا” فهذه الصفات التي نبعت من قلب إنسان ليهبها لإنسان آخر يجعل منه إنسانا استثنائيا في العالم.

هذا الشخص الاستثنائي قادرا علي تشكيل ثقافة مختلفة في تلقي المشاعر القاسية مثل “الانفصال” فتضع الكاتبة قوانين في كيفية التعامل مع هذا النوع من المشاعر التي ربما يصنعها طرف واحد ولم يشارك فيها الطرف الآخر، فتطرح المبدعة عزة المقهور “ثقافة الفراق” في قصتها البديعة الرصيف، وكيفية الترك لشخص استمرت الحياة معه عمرا وعددا من السنوات ليس بالهين، كيف للشخصية المثقفة الواعية خلق سلوك شديد البلاغة في تقديم “انسحاب” يليق بعقل يعي حقيقة الأشياء، وأن الهدوء في الانسحاب من حياة آخر غير مناسب لم يكن أبدا ضعفا أو قلة حيلة، وأن العلاقة الأهم في الحياة الحرص في الاستمرار مع من يشبهون عقولنا وبحثنا المستمر عن كل أسئلتنا المتعلقة بذواتنا، وأن كلما كان الإنسان مثقفا بمعنى أنه يعي ما يفعل وما يؤمن به، ويعلم كل خطوة قادمة مخططا لها في حياته، غير منساق إلى ما يشده الآخر لديه من مادية مفرطة وخسف بسنوات وذكريات وحياة ومحبة وود إلى عرض الحائط وتحولها إلى ورقة حسابات، فمشهد الرحيل في قصة الرصيف لا يمنح سوى قوة براقة تجذب العيون إلى ثقافة وفكر ووعي البطلة التي كان ظهورها كطيف في القصة بينما كان الراوي هو البطل المحرك للأحداث، ولكن الفعل الأقوى والحاسم للمرأة الهادئة وللمرأة التي لم تنجذب لأفعاله الغير لائقة في ثقافة الفراق التي تطرحها من خلال القصة، لم تأخذ غير حاسوبها فقط، لماذا الحاسوب فقط؟ الحاسوب هو الذى تكتب عليه، ولأن الكتابة تأمل لذاتها وعالمها فهي فعل حياة لها، بينما ينغمس الرجل في كتابة قوائم بكل ما هو مادي، وهي مستلقية لا تأخذ من هذا العالم الزائف سوى كنبتها المفضلة الزرقاء متجهة دائما للضوء وفتح النافذة الواسعة، ورؤية الضوء والعمل متجنبة الجدران والأبواب المسمطة، بينما هو على النقيض تماما يحب الليل والشموع، أن يسدل الستائر، يحب الأثاث والأرضية والجدران، يحب كنبتها الزرقاء مزركشة بالضوء لكن الضوء تحبه وهى تستحم به، يهديها عصفوران في قفص، لكنها تفضل الحياة الأرحب للعصفورين.

يفكر طوال الوقت في التخلص منها خارج البيت، ولا تفكر هي مطلقا سوى أن تجلس بهدوء فوق كنبتها تعمل وتسعد بالضوء، هذه المفارقة التي تضعها أمامنا ما هي إلا طرق للاختيار، كما أظهرت كل شخصية وكيف تفكر وما علاقة كل شخصية بالعالم والكائنات حولها.. كيف تتلقى كل شخصية معطيات الحياة لها.

القاصة عزة كامل المقهور
القاصة عزة كامل المقهور

ظل يضغط عليها حتى قررت الرحيل في مشهد غاية في الهدوء والحزم “ثم سمع الباب يغلق بهدوء..” تكه واحدة خفيفة أيقظت كل حواسي، فانتفضت من استلقائي في غرفتي، وأسرعت نحو الكنبة.. وجدت الستائر مسدلة والكنبة والعتمة سواء.. لم تكن هناك ولا حاسوبها.. خرجت للشارع مسرعا.. رأيتها تخطو واثقة وهي تقطع الطريق نحو الرصيف المقابل.. وصلت إليها لاهثا.. “إلى أين؟” “ألم نتفق”؟ “نعم.. ولكن أمتعتك.. حاجاتك.. البيانو” “تركتها لك”.. ورحلت وحين عدت.. جلست على الكنبة الزرقاء وبكيت بحرقة…“.

خرجت للرصيف الآخر انتصارا للحياة، وكأنها تعدينا لأسطورة للخلق الأول بأن آدم خلق من الأرض فكل اهتماماته مادية إنما خلقت هي من “حي” منه، فعندما نسي حقيقة خلقها وتخلى عن حقيقته وأنه عليه أن يهتم لحياتها، ويهتم بها “هي” عندما أدرك قيمة المعنى كانت قد تخطته لأنها الأكثر وعيا وأكثر حياة باحثة عن “الحياة” التي خلقت منها ولها.

وفى لحظة إدراكه لقيمتها الإنسانية كانت هي لحظة البكاء، لأنه فتح عيونه على الأهم، واستخدام الكاتبة لفظة “أيقظت” كانت موفقة بشكل كبير، لأنها أيقظته من غفلته المادية إلى يقظة الوعي لمعرفة من الذي انتصر في هذا الصراع، وأنه يستحيل أن يكون البقاء للأشياء على حساب العلاقة الحقيقية بين الرجل والمرأة والرابط الحقيقي بينهما، فلتذهب الأشياء إلى الجحيم بكل ثمنها الباهظ وليذهب كل الوقت الضائع في الاقتناء والتنظيم والتقسيم إلى المهملات، لن يبقى إلا الأمل في حياة حقيقية يملؤها الضوء والحرية.

وفي ملمح آخر في قصة “رجل” عن طريق الحوار بين الأم وابنها، الذي لم تضع له اسما، وكأن ما ستذكره سيكون صفة ظاهرة ومعروفة عن كل رجل، فالرجل في هذه القصة حائرا في خياله، الخيال الذي يشكل الفارق الحقيقي بين إنسان وإنسان، فالرجل في البداية وهو طفل لا يعرف ماذا سيصنع بذلك الخيال هل سيلجمه أم يتركه يطير؟ هذا الرجل الذي تعلق بورقة شجرة مميزة، يظل يبحث عنها في كل مكان، هو في النهاية لا يرى ما يصادفه في الحياة إنما يبحث عن ورقة في خياله تشكلت وهو طفلا مع أمه، وهذه إشكالية غاية في الخطورة، لأنه لم ينضج، ولم يترك لنفسه رؤية أوراق أخرى، ولم يتمتع بأي شيء رآه إنما أضاع وقته في البحث عن مشهد طفولي، ثم تضع الكاتبة حقيقة على لسان الأم / الأنثى الكبيرة الواعية لتكشف الفارق بين الرجل والمرأة وهو فارق شديد الاعتماد على الاتساق في مجتمع كل منهما.. فقوة الخيال هي الفاصل بينهما، فالرجال لا يرون إلا ما يلمسون، وبعدما أظهرت الأم هذه الحقيقة أمام الرجل اتخذها قانونا عاما لكل شيء وكأنه لا يعمل عقله إنما ينساق وراء تعاليم الأم، لكنها طوال الوقت تحاول إبطال هذه المعرفة وتعدها معرفة طفولية على الرجل أن يتخلص من تلك الصفة شديدة الالتصاق به، وكأنه إذا تمسك بهذا القانون الطفولي الذي يعتمد على اللمس ولا يعمل عقله وخياله سيظل طفلا، ولا يكون الرجل رجلا إلا بعد رؤية الأشياء بعقله لا بيده.

وفى ملمح آخر تطرح المبدعة فكرة اللعب كفعل حياة، لأن اللعب هو التجربة الحقيقية بالحياة ففي قصة الكرة التي ترسم فيها معنى الحياة، الحياة هي الاستمتاع واللعب والتحدي والأهم الوقوف مع ذواتنا لنعلم جيدا ماذا نريد، وكيف نواجه، وكيف نحقق ما نريد، كيف نتصرف في حال رفض الآخرين لنا، كيف نستقبل تلك الكلمات العميقة التي ستصل إلى قلوبنا فتجرحها، الكرة هي الحياة في يد كل منا” تاركة جملة حقيقية لكل منا ليحاول النزول لمعترك الحياة ومحاولة اللعب والاستمتاع بالحياة “ولكنه كان دائما يجلس في نفس المكان دون أن تتاح له فرصة اللعب”، لا ننتظر أن تتاح لنا الفرصة، علينا صنع الفرصة، والنزول للملعب.

في “امرأة على حافة العالم” تلك السيدة التي تقرر الذهاب لحافة العالم، والعالم ليس له حواف كتعليق جاء للسيدة المصاحبة لها، لكنها في الحقيقة تود الفرار من العالم، تود لو تذهب لحافة العالم في الوقت المناسب، لم يكن أبدا هناك حظ لامرأة تابعة للرجل عقلا وقلبا وروحا أن تخرج لحدود شرفتها، علينا أن نغتنم الوقت المناسب إذا جاء للذهاب لحافة العالم، علينا ألا نتأخر عن الذهاب، علينا أن نكون أنفسنا.

أعلم جيدا حقيقة الصعوبة التي تواجهها كل أنثى في الوصول لذاتها، وفي معرفة نفسها ومحاولة إكمال وعيها عبر مراحل حياتها المختلفة، وأعلم جيدا ماذا نواجه في مقابل أن تكون كل أنثى مميزة ومختلفة، أعلم القلق والتوتر في كل خطوة نحو إبعاد ما يلتصق بنا من زيف محاولا تغيير ملامحنا الحقيقية.. مجهود كبير وعمل شاق أن تكون الأنثى امرأة حقيقية تصنع العالم، تقدم الكاتبة عزة المقهور طريقا سلكته ربما ينير لنا طرقا أخرى، علينا أن نلعب، علينا أن نستنشق الهواء من النوافذ الواسعة ونستحم بالضوء ونغرق فيه، وننزل إلى رصيف أكثر اتساعا على الجهة الأخرى من العالم حاضنين أملا لبداية هادئة ومريحة تاركين كل ما شيراه الآخرون ثمينا زاهدين فيما مضى بكل ما يحمل آملين في لحظات حب مثقلة بالكشف والمعرفة والوعي صاعدين على حافة عالم أجمل نختاره نصنعه بأيدينا ونشكله كما نريد، فالحياة خلقنا فيها لنعيش كما نحب ونحلم.

مقالات ذات علاقة

«زرايب العبيد».. الألم يحاصر القارئ

المشرف العام

الغَمزُ بالكلمات.. وسؤال الثقافة المحليّة

حسام الدين الثني

“عايدون”… رواية تحكي عن ليبيا اليوم

المشرف العام

اترك تعليق