سرد

فصل من رواية «كونشيرتو قورينا إدواردو» لـ نجوى بن شتوان

محطة قطارات بنغازي
محطة قطارات بنغازي

قطار ليبيا

أول مرة عرفت فيها آمال ابنة أمزا(١) مسعود، تعود إلى زمن قديم لا أتذكر شيئًا قبله.

أذكر أنها في الفويهات، وأنها كانت في الصباح وكانت رائحة البيت طعامًا، وأختي أمينة تساعد أمي في المطبخ والعائلة ستجتمع لدينا على الغداء.

كنت ألعب في البراح الوسيع أمام الڤيلات مع شقيقتي حين لاحت فتاة ترتدي بنطالًا جينز و بلوزة بيضاء، كانت طويلة جميلة بشعر منسدل على كتفيها، ابتسمت لنا حالما رأتنا فركضنا هاربتين منها، نادتنا باسمينا عارضة علينا الحلوى والهدايا حتى لا نكمل الهرب، فربضنا خلف شجرة ليمون نتدبر خيارنا، هل نعود أم نمضي في قرار الاختباء من الفتاة الغريبة.

هل كانت إحدى جنيات المكان اللائي يغلقن الفراغات هنا كما يقول أخي أيوب؟ وهل ترتدي الجنيات ثيابًا معاصرة كالتي ارتدتها الفتاة وتتكلم مثلها وتجلب الحلوى والهدايا من ألمانيا وتعرف اسمينا؟

قالت أختي: أظنها آمال ابنة أمزا مسعود.

وضعت يدي على فمي وغمغمت: ياااه.

لم أتصور أن لنا ابنة عم جميلة إلى ذلك الحد.

كانت تلك المرة أول مرة أرى فيها آمال وأدركها بعد أن غادرت بنغازي وأنا صغيرة، وطال غيابها وغياب العائلة. سمعنا أنها كانت بسبب حادث سير مأساوي تعرضت له عائلة عمي. توفيت فيه زوجة عمي السيدة كارلا وقضت آمال جراءه فترة علاج طويلة في برلين.

لم نكن أنا وأختي قد قابلنا السيدة كارلا، فقد جاءت إلى الدنيا وغادرت ولم نرها إلا في الصور. لكني أحببت ما خلَّفته لنا وكان يشبهها، آمال ابنتها وابنة أمزا مسعود بجمالها ولطفها واختلافها.

ملأ وجودها علينا المكان الخالي، وكانت أوقاتنا معها سعيدة ومبهجة، كانت تقضي معظم وقتها في بيتنا هي وأمزا مسعود وحين تعود إلى ڤيلتهم للراحة والنوم تصحبني وأختي معها. تُدخِلنا غرفتها وتعطينا ألعابها وهي صغيرة، والأهم أنها كانت تتركنا نعبث بخزانة ثيابها، نرتدي الألبسة والأحذية العالية ونلتف بالشالات ونستغرق في التمثيل وعروض الأزياء متناسيتين الدنيا من حولنا.

كانت تتركنا نفعل ما نريد، وقد أهدتني القطار الكهربي الذي أحببته وسافرت به إلى كل الدنيا حين رأتني أطيل اللعب به.

حفزتني آمال دائمًا على الكلام حين علمت بالصعوبات التي أعانيها، لعبت معي بعض ألعاب اللغة لتجعلني أتكلم. وكنت أفعل ربما لأنني أحبها وأريد الحفاظ على اصطحابها لي إلى الأماكن التي تذهب إليها داخل بنغازي وخارجها وأريد كذلك أن تستمر في محادثتي كما لو أنني أختها الصغرى، فهي لا تطالبني بالحديث فقط كما يفعل الآخرون بل تتحدث إليَّ كصديقة.

ثم كبرت وصرنا نتكلم في التليفون سريعًا كلما اتصل بهم جدي وأمي، وكان حديثي خلال الدقائق الممنوحة لي مختصرًا في: متى تعودين إلى بنغازي؟

كانت أمينة وآمال صديقتان تتجالسان في ڤيرندا بيت عمي، كنا نسمع أحاديثهما عن الموضة والأزياء والحب والطبخ والأفلام والأغاني، وتتبادلان بعض النكات المشفرة، والأشرطة والكتب والمجلات، كنت أنا وتوأمي من نقوم بدور ساعي البريد بينهما؛ نأخذ من هذه ونحمل إلى تلك. لكننا قبل التسليم من كلتيهما نختبئ وراء الڤيلات لنستكشف الأشياء، اكتشفنا المكياج والعطور والقمصان وملابس داخلية ومجلات أجنبية فيها رجال ونساء يتبادلون القُبَل، أي أننا اكتشفنا القُبَل، وكانت أخطر اكتشاف حيَّرنا وأشعرنا بالخجل والحرج وجعلنا نطوي المجلات أسفل ثيابنا كي لا يراها أحد. كان الأشخاص الذين رأيناهم في المجلات ما بين أمينة وآمال أول مارأيناه من ذاك العالم المحجوب عن الظهور، والذي لا نعرف عنه سوى التكهنات، وقد سألت أختي: أليس هذا عيبًا؟ فقالت لي:

بلى، لكن في السر ليس عيبًا.

فسألتها : ألا نخبر أمي؟

فكان رأيها لا، إن أخبرناها فإننا لن نرى شيئًا جديدًا.

توافقنا على الصمت وعلى أن نظل نرى المزيد.

لكن أمينة اكتشفت أمرنا فاستجوبتنا استجوابًا شديدًا في غرفتها، حاولنا الإنكار ثم وجدت أختي الجرأة لتهددها بفضح الأمر لأمي ولأيوب إذا عاقبتنا، فهدأت أمينة وفتحت درجها وأعطتنا علكة وقالت إنها سامحتنا، لكننا لم نخرج من الغرفة إلا بعد أن عقدت معها أختي اتفاقًا يقضي باستمرارنا في خدمة ساعي البريد مقابل الصمت.

خضعت أمينة لابتزازنا أيامًا ثم غدت لا تفارق آمال.

كان العالم الموجود بين ضفاف المجلات وأشرطة الكاسيت عالمًا جميلًا ليس له مثيل في الواقع، عالم لا نراه إلا مختبئًا في الأكياس التي نحملها ذهابًا إيابًا ونحشر أنفينا فيها وكلما سألنا سائل ماذا تحملان، قلنا: كتبًا أو طعامًا.

أدركنا أن نصيبنا منه قادم لا محالة حين نكبر ونصبح هدفًا لفتيان المدارس والشوارع كما يحدث لأختي أمينة حين نمشي معها راجلين من جليانة إلى مركز المدينة.

ذات يوم كنا نحمل لآمال طعامًا، فرأينا شابًّا أمام ڤيلا أمزا مسعود، يقف إلى جانب سيارة جاكوار حمراء ويتحدث إلى آمال، لم نكن قد رأيناه من قبل. اعتقدنا لوسامته وأناقته أنه خرج من إحدى المجلات الإيطالية، تبادلت مع أختي نظرات متفاجئة وكأن المشهد كذلك خرج من إحدى المجلات وليس الشاب فقط، فآمال هي الأخرى كانت فاتنة الجمال وأي رجل يراها سيقع في شراكها.

تجمدنا في موضعنا حتى كأننا جذع شجرة لا يشعران بنا، راقبنا تطور المشهد كما يتطور في المجلات ببطء من الصفحة الأولى إلى السابعة، وكان كذلك لولا ظهور أمزا مسعود المفاجئ الذي دعسه فأعاده إلى الواقع وتحركت على إثره السيارة الحمراء المكشوفة، ولوَّح الشاب منها بيده لعمي وابنته قبل أن تتوارى ما بين الأشجار.

إنه خطيب آمال، هكذا أجابتنا أمينة، وكان أيوب غاضبًا من مجيء الخطيب إلى بيت عمي، حتى إنه هدد بضربه وتهشيم سيارته إن رآه مرة ثانية أمام الڤيلات. تدخلت أمي ومنعته من أن يصدر عنه ما يزعج عمي وابنته، لكنه لم يُرع ولم يكف وزاد من مراقبة آمال والتربص بصاحب السيارة.

كان حانقاً ويبرطم بالشتائم.

ظل الشاب الوسيم ذو الشعر الكثيف المسدول إلى كتفيه، والقمصان الملتصقة بقوامه النحيل، وبنطلون شارون ستون يتردد على بيت أمزا مسعود في حضور عمي وغيابه وكنتُ ذات مرة موجودة في بيت عمي ألعب بالقطار في الصالة، حين رأيت «فيصل» وكان هذا اسمه، يدخِل يده داخل قميص آمال ويضمها ويقبلها، أكمل القطار دورته من دوني، كان شيئًا افتكني من طفولتي وجعلني أتساءل: لماذا يفعل الكبار هذه الأشياء الجميلة ويقولون لنا إنها «عيب»؟

لماذا يفعلون العيب طالما هو عيب؟ ولماذا يأتي الأطفال من العيب ويفرح الأهل بقدومهم منه؟

عندما بُحت بمشاهدتي لشقيقتي أقنعتني بأنه ليس عيبًا إلا لأننا أطفال والأمر سوف يختلف ما إن كبرنا، قالت أيضًا إننا يجب أن نأكل لننمو بسرعة. فصدقت كل ما قالت عن الحب والطعام.

صحبت آمال وخطيبها كثيرًا، وكأن العائلة اشترطت أن يكون هناك أحد منها معهما. حتى لو كان ذلك الشاهد صغيرًا ويعاني اللعثمة ولا يبوح للمستجوبين بما يريدون الحصول عليه.

أخذنا فيصل في سيارته الجاكوار المكشوفة مرارًا وجال بنا في المدينة جهة البحر، كانت يده في يد آمال وكان كثير الضحك ويغني مع المسجلة جميع الأغنيات الأجنبية. كانا يحبان قلب المدينة وكورنيشها ويفضلان الجلوس عند الرصيف البحري عند أطراف جليانة الفارغة من الناس، يتبادلان الهمس في وَلهٍ، بينما ألعب بألعابي غير بعيد منهما، وقبل ختام الجولة كان يشتري لنا آيس كريم لذيذًا من مثلجات «الرقريقي» ويدس شيئًا في كف آمال.

رأيت الكثير مما كان ممنوعًا على خطيبين. فالشاب لم يكن يغادر إلا وهو محمل بقبلات تكفيه أسبوعًا من آمال وهي كذلك.

أوصتني ابنة عمي بالسرية فحافظت عليها كي تستمر جولاتي معها أينما ذهبت.

فرحت بالأماكن التي زرتها والتي سأزورها من دون الحاجة إلى القطار الكهربي وحلمت بالآيس كريم الذي سأحصل عليه ما لم أفتح فمي بكلمة، لم لا؟ لن يكلفني ذلك شيئًا فأنا أعاني صعوبات النطق والكلام على أي حال.

ذات يوم دخلت ڤيلا أمزا مسعود حاملة مشطي ومنشفتي، حيث من عادة أمي أن ترسلنا أنا وأختي إلى آمال كي تمشطنا، وجدتها جالسة في الصالون بعيون مبتلة وأنف محمر، كانت تبكي وحدها.

لم أستطع الكلام، اقتربت منها ووضعت يدي على كتفها، استمرت في البكاء حتى أبكتني معها، ثم انتبهت إليَّ فضمتني إليها، وقالت: لا تخافي، لم يحدث شيء وغسلت وجهها ووجهي.

تأتأت طويلًا لأسألها عمَّا بها، ولا أظنني قلت جملة واحدة مفيدة.

أخبرتني من تلقاء نفسها أن خطيبها اختفى من دون مقدمات، قيل إن أهله هرَّبوه إلى مصر بعد مداهمة الأمن بيتهم.

لم أفهم لماذا فعل الأمن ذلك، وماذا فعل الشاب حتى يأخذه الأمن؟

لم أفهم لماذا اختفى فيصل فجأة من حياة آمال وحياتي، ولم تعد آمال تجده حولها أو تجد السعادة، لم يُجب على التلفون، لم يأتِ ليودعها، لم تعثر عليه في نادي الملاحة أو مصيفها، لم يره أحد في مقاهي لَبْلاْد، بحثت عنه هنا وهناك، وبكت أحيانًا لأنه اختفى دون إخبارها، أو ربما لأنها تشتاق إليه وتفتقده.

بعد بضعة أيام من اختفاء صاحب الجاكوار أُغلق باب ڤيلا أمزا مسعود على دموع آمال وحيرتها وسافر عمي وابنته من جديد إلى ألمانيا البعيدة. لم يعد هناك آيس كريم، ولا حب منفلت من مجلة إيطالية وصلت ليبيا بالتهريب. توقفت المجلات وبقي سر اختفاء فيصل غامضًا وسكنت ڤيلا أمزا مسعود الأشباح التي يسرد أيوب قصصها، وسكنت محبة ابنة عمي قلبي وعقلي منذ ذلك الحين ولم يغير الزمن شعوري بها منذ أن بدأ.


(١) أمزا في لهجة كريت تعني عمي.

مقالات ذات علاقة

طفولة وطن

عبدالسلام سنان

رواية الحـرز (27)

أبو إسحاق الغدامسي

جزء من رواية لن ترضى عنك روما

فتحي محمد مسعود

اترك تعليق