المقالة

رؤية.. تحولات الشعر الليبي

من أعمال التشكيلي الليبي_ عبدالرزاق حريز
من أعمال التشكيلي الليبي_ عبدالرزاق حريز

مرَّ الشعر الليبي بمراحل عديدة على مستوى شكل القصيدة وعلى مستوى فحواها فمن الشعر المقفى مع الشعراء حسن السوسي وراشد الزبير وأحمد الشارف والأسطى عمر، إلى الشعر الحر والمرسل وخير من مثله هم الشعراء محمد الفقيه وعبدالحميد بطاو وثمة من كتب في النوعين ليصل بعد ذلك الشعر الليبي إلى مرحلة قصيدة النثر مع أبرز روادها الشعراء أدريس ابن الطيب وفرج العربي ومجاهد البوسيفي وعمر الكدي وعاشور الطويبي وجيلاني طريبشان ومفتاح العماري ومحيي الدين المحجوب على سبيل المثال، وثمة أيضا من شعراء القصيدة العمودية والشعر الحر من أدرك القصيدة في شكلها الأحدث وكتب مستأنساً بشروطها مثل الشاعر الراحل علي صدقي عبدالقادر العابر للأجيال المساير للحياة في وقعها المتجدد والمتبدل، وغني عن القول أن لقصيدة النثر رؤيتها الخاصة وهمومها التي تختلف عما سبقها، وفي تقدمها الواثق لا تنفك تخلق مناخها المميز وتجترح خصوصيتها، وكونها قصيدة حديثة صار ضروريا أن تشتغل على هذه الشروط وتتناول الحديث من الهموم وتقول هواجس الحاضر وتعلن قطيعتها مع الماضي أو تتجاوزه لصالح الحاضر والمستقبل، وكان ضروريا كذلك أن تقترف لغتها الخاصة التي تختلف عن لغة القصيدة العمودية وقصيدة الشعر الحر، وكل من كتب قصيدة النثر كتبها عن قناعة من أن ما سبقها من أشكال لا تلبي حاجة المتلقي للشعر أو أن الأشكال الأولى استنفدت إمكاناتها وتعجز عن تلبية متطلبات الحاضر وصار إيقاعها رتيباً ومملاً لكثرة  تكراره واجتراره ولطول هيمنته على المناخ الشعري العربي العام، من هنا برزت ضرورة التجديد والسعي إلى تجريب أشكال جديدة، وبطبيعة الحال الشكل الجديد سيجر وراءه اهتمامات أو موضوعات جديدة فرضتها المرحلة التاريخية والواقع اليومي، وكغيرهم من شعراء الوطن العربي برزت الرغبة الشديدة في التجديد لدى الشعراء الليبيين الذين أخذوا رغم معارضة التيار المحافظ ورغم التوجس والخوف والرفض الذي قوبلت به قصائدهم أول الأمر، أخذوا في كتابة قصيدة النثر دون أن يتأثروا بكل العراقيل التي واجهتهم، ولربما كانت هذه العراقيل دافعاً لهم لتوطيد قصيدتهم وترسيخ أقدامهم في أرضها التي لا زالت بكرا رغم أن البداية الحقيقية لقصيدة النثر في ليبيا تقريبا بدأت ثمانينات القرن المنصرم مع ثلة من الشعراء أمثال مفتاح العماري ومحيي الدين محجوب وأحمد بللو وسالم العوكلي وغيرهم ممن لا تحضرني أسماءهم الآن.

ومنذ ذلك الحين سار الشعر في ليبيا بأوجهه الثلاث،  العمودي والحر والنثري بالتوازي دون أن يحدث اصطدام ما بين مدارسه فلكل نوع من الأنواع الثلاثة منتجيه ومتذوقيه ولكلٍ مستمعيه وشعراءه حتى التحول الأخير، بالرغم من أنه تحول جزئي لم يتجاوز المضمون لأن الشكل لا زال كما هو نثراً غير مقيد بنسق محدد أو إيقاع مسبق، نتحدث هنا عن القصيدة عند بعض الشعراء الليبيين في تجلياتها الأخيرة، حيثُ القصيدة لم تعُد هي ذاتها بعد أن تأثر كُتابها بمؤثرات عدة لعل أهمها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والظروف السياسية والأمنية والاقتصادية التي تمر بها ليبيا سنواتها الأخيرة، حيثُ ألقت كل هذه المؤثرات بظلالها على قصيدة اليوم التي تتسم بالجرأة في الطرح وتجاوزها لبعض المحظورات مستثمرة في ذلك الأفق الرحب الذي انفتح أمامها ومستغلة مساحة الحرية التي حققتها الظروف السياسية قبل بروز انواع جديدة من السلطات الغير رسمية وصعود بعض التيارات المحسوبة على أيديولوجيات معينة والتي مارست نوعا من الرقابة والقمع المعنوي على حرية التعبير بالكامل وليس على القصيدة فقط.

وكان ضروريا ان ينعكس هذا التخبط والفوضى التي تهيمن على مجريات الأمور في ليبيا اليوم في القصيدة فمن الواقع المُحيط والغير قابل للإصلاح والميؤوس من التئام جراحه قريباً ومن الغموض الذي يلف المستقبل تخرج قصيدة اليوم لتحاكم الخراب وتحاكم المتسببين فيه وتحاكم المجتمع وتحاكم العالم ، تخرج القصيدة غاضبة وساخرة وساخطة بلغة صادمة وجارحة ومُدببة، حيث الصورة لم تعد جميلة ورقيقة بل موجعة وقاسية وصاخبة وعاصفة بل وعدائية أحياناً والإيقاع لم يعد انسيابيا رقراقا وهادئا بل مزمجرا وهادِراً وحانِقاً، وبقدر ما في الواقع الذي أنتج هذه القصيدة من بذاءة وقبح قد تتبنى القصيدة لغته ووقعه وتقوله كما هو بلا زيف ولا تخفي شيئا من عيوبه واعوجاجه، في ذات الوقت الذي لا تتغيا هذه القصيدة كسب ود القارئ واستمالته وتخديره بل يهمها جداً أن ترجّه وتصدمه وتخرجه من حالة السكون التي يكون فيها وتحثه على محاكاتها وإعلان غضبه ورفضه لما يراه من أجل مستقبل أفضل له ولأبنائه، والقصيدة هنا لا تهادن ولا تُداهن ولا تراوغ حينما تزيح العَصابة عن العينين وتقود القارئ إلى حافة الهاوية التي تنتظره وتُشرع في هدم قناعاته البالية، القصيدة هنا معنية بالهدم أكثر مما هي معنية بالبناء القصيدة هنا تنفصل عن كاتبها لتمارس حياتها الخاصة بمعزل عنه وهي لا تهتم بمن يتقبلها أو يرفضها وهي على غرار الواقع، قنبلة موقوتة على وشك الانفجار ووضع هش قابل للانهيار، القصيدة كما المستقبل لا أحد يدرك كنهه وما يُخبئ في جعبته من مفاجآت القصيدة صرخة مدوية وبركان مشتعل فعلى من يريد الاقتراب منها أن يحترس لئلا تحرقه أو تلفه بغبارها المسموم.

ودون تعيين لأن التجربة لم تتبلور بعد والتحول لم يتحقق كاملا نقول إن لهذه القصيدة ممثلين في المشهد الشعري في ليبيا اليوم وما على الباحث والمهتم إلا أن يتصفح حسابات بعض الشعراء الذين يتصدرون المشهد في هذه اللحظة الشعرية لا سيما من صغار السن حتى يتأكد من هذا التحول الذي أسهمت في حصوله عوامل عدة كانتشار استعمال مواقع التواصل الاجتماعي التي سهّلت كثيرا عملية التواصل وألغت تماما صعوبات النشر، إضافة إلى الوضع السياسي العالمي ومدى ارتباط الدول العربية ودول المنطقة وليبيا به.

ونود الإشارة إلى أن ممثلي هذا التيار الشعري في ليبيا قليلون ولا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين إلا أنهم مؤثرون ولهم صوتهم المسموع الذي يؤهلهم لأن يتبوؤوا مكانتهم في المدونة الشعرية اليوم وفي القادم من الأعوام كونهم تيار في طريقه إلى التحقق وذلك مرتبط بجدية ممثليه.

مقالات ذات علاقة

بين خيمة محمد حسن وجلسة حسن مناع وماضي محمد صدقي …

خيرية فتحي عبدالجليل

أرض التلمود

سعد الأريل

فيضان المحبة

يوسف الشريف

اترك تعليق