حاورته: حنين عمر
خلطة سحرية ممتلئة بأسرار اللون والمحاكاة لألآم إنسانية عميقة في الماضي والحاضر … تجربة الفنان علي المنتصر تتميز بأسلوبها التعبيري الصارخ نحو تأكيد الحالة الانفعالية والفكرية وتقديمها في قالب واحد لخلق عمل فني يلامس روح الوقت.
• سألنا الفنان علي المنتصر عن طفولته فقال:
في مجتمعات استهلاكية بامتياز لا يمكن التعويل عليها في صنع وبناء الإنسان …
طفولتي كانت مفعمة بالحيوية والنشاط والطاقة كان الحلم بحجم العمر والمرحلة، كان الشغف بمادة الرسم يشغل بال وروح طفل لم يعير اهتمام لكل ما كان يشغل أي طفل يسعى لامتلاك أكبر قدر من الحلوة وقضاء أطول وقت في اللعب والمرح … طفولة لا تهدأ ولا تستكين … كانت السطوح البيضاء تمثل حالة استفزاز وتحدي لخلق شيء يجسد حلمي كطفل يبحث عن لغة تحتويه، تلك السطوح كانت بمثابة الفضاء الرحب الذي يحوي روحي المفعمة بالطاقة والحياة، كنت اغطيها بلحف من أحلامي وأملؤها بحبي الكبير للشكل واللون والحياة …
تجربتي هي رحلة طفل عنيد تأبط حلمه في سن مبكرة متحديا أمية مجتمع لم تترسخ فيه فكرة أن الاشياء تنمو وتكبر بعد أن تسقى بماء المتابعة والاهتمام في مراحل نموها الأولى لكي تعطي نتائج ثمارها … اذكر كنت أشعر بالتميز دائما عن الاخرين وهذا قد تحقق بالرسم حيث أمتلك لغة مختلفة وطاقة إبداعية ساخنة …
• وعن خصائص اسلوبه الفني بتجربته الفنية قال:
لكل فنان خصائص تميز تجربته الفنية والإنسانية وهذه الخصائص تحددها عدة اشياء ومن أهمها التجربة الحياتية الشخصية للفنان، وما مدى ثقافة الفنان وإدراكه بعامل الزمن والمحيط…
تجربتي تتميز بأسلوبها التعبيري الصارخ نحو تأكيد الحالة الانفعالية والفكرية وتقديمها في قالب واحد لخلق عمل فني يلامس روح الوقت، أعمال تصدح بروح زمن قلق بعيدا عن المغازلة والتزيين خارج السرد والمعاني والدلالات القاموسية …
أعمال لم ترسم للمجتمعات السعيدة الباحثة عن الترف والبهجة، أعمال بمثابة وخز يوقظ كسل الفكر ورؤيا معاصرة تحمل دلالات إنسانية وفنية في اتجاه الدعوة لتوظيف العقل وطاقة الجسد لتدارك عامل الوقت وسرعة انفاسه.
• لاحظت أنك تقوم بتقديم فنك ولوحاتك في مجموعات كمجموعة الإنسان المعاصر مثلا لماذا تسلك هذا الأسلوب؟
البحث والتطوير هاجس إنساني منذ بداية الخليقة وهو أساس وخلاصة الصورة الحضارية المتقدمة التي وصلت إليها البشرية اليوم … الفنان المبدع لا ينفصل عن تلك الصورة الإنسانية في تطورها وشكلها الحضاري، هناك قلق إبداعي يدفع بي نحو التجديد والبحث حول عدة قضايا فنية وإنسانية شائكة وتطوير رؤيا فنية معاصرة جعلت من تجربتي تأخذ أشكال عديدة في صورة مراحل فنية ذات خصوصية ملامحها معاصرة تنبض بروح هذا الزمن، تخاطب الفكر والوجدان …
فجاءت مسيرتي الفنية متمثلة في مجموعات فنية على مراحل زمنية مختلفة يجمعها موضوع محدد يكون جوهر لرؤيا إنسانية وفنية معاصرة، مجموعة فنية باتجاه فكرة البحث والتطوير للوصول لاكتمال المشهد الذي يسعى إليه المبدع الفنان.
• هل يمكنك الاشارة إلى المواضيع التي تطرقت إليها في لوحاتك؟
طفولتي الفنية كالكثير من الرسامين بدأت بالرسم الواقعي اتقنت جل عناصر الواقعية حققت لوحات عندما التفت إلى الوراء لا اجدها ذات أهمية …
في بداية التسعينات قدمت مجموعة من اللوحات موضوعها (الصراخ 1991) مرحلة هامة تمثل ثورة في مسيرتي الفنية والإنسانية… وجوه تصرخ … صراخ داخلي يتجسد بصريا على الورق والقماش بعد أن تشكل وعي ونضج لدي حول الفن وأبعاده الفنية والإنسانية، لوحات تعج بالرفض والتدفق القلق والحاجة الملحة للتعبير.
تطورت مسيرتي الفنية وبدأت ارسم الصراخ بشيء من التهذيب والتوظيف في مشاهد موسيقيين يحتضنون آلاتهم ويعزفون، كان ذلك بكثير من الصخب والحركة أحيانا وبرقة وعذوبة أحيانا أخرى … أعمال تبحث عن منظومة جمالية ومادية خالصة تشكلت عبر ارتباطي المبكر بالموسيقى.
بعد توقف زمني لم يدم طويلا عدت لرسم نوع آخر من التنهيد الفني (مرحلة المصابيح 1994 – 1993) أمكنة جلوس طاولات خاوية لوحات توحي بحالة الانصراف كراسي خاوية مصابيح متدليه في حالة انطفاء تعكس قليلا من الضوء المرتعش يهمس بجملة (كانوا هنا) …
مرحلة تسلط مزيدا من الضوء على الامكانيات الجمالية والانفعالية المرتبطة بعلاقة الإنسان بحالة الحضور والغياب … والظلمة والنور …
توقفت بعض الشهور للابتعاد الزمني على المراحل السابقة ثم عدت بصياغة خاصة متخذ الرماديات والقتامة إلى غاية السواد لرسم لوحات كبيرة الحجم موضوعها (الاعمدة والسلالم 1997 – 1996) أعمال تترك المجال للمتلقي إعادة التفكير في المعنى الذي قد تأخذه إشكال جديدة في الحياة.
بعد وقفه زمنية طويلة بعض الشيء عن ممارسة الفعل الإبداعي، عدت بروح المقاتل، الذي كان يعيد صياغة ذاته من جديد … بين 2008 إلى2011 اشتغلت على عدد كبير من الأعمال الفنية كبيرة الحجم موضوعها (الإنسان المعاصر) أعمال تستمد رؤيتها من نبض هذا الزمن المرهق بالكوارث والازمات الإنسانة الكبرى … أعمال تطرح فكرة الزمن لا فكرة المكان، لا تحمل رائحة أو ثقافة المكان بحدوده الجيوسياسية خارج أي ايديولوجيات.
في 2018 قدمت مرحلة مهمة في مسيرتي الفنية ومختلفة من جانبها الإنساني والفني، تجربة متقدمة تلخص رؤيا فنية، بعد عدة تجارب فنية قدمتها، مرحلة بمثابة تلخيص لخبرة 3 عقود من الفعل الإبداعي والإنساني … مرحلة ما بعد الحرب ورؤية للحياة بمنظور فلسفي تحمل كثير من الإيحاءات المفتوحة للبحث والتأمل … قراءة في نشأة وتطور الأشياء عبر سنين من الإهمال والتسيب.
حيث قدمتها: لا تأتي الأشياء بشكل مفاجئ بل هي نتاج زمن من التأسيس والنمو حتى تأخذ شكلها النهائي …
ذلك هو (الشرخ) القديم … الجديد … مرحلة ترصد نتائج صناعة القبح والأزمات الناتجة من الفعل البشري … البشر الذي أخطأ في تعامله مع ذاته من جهة … ومع محيطه من جهة أخرى.
• ما لذي يبحث عنه الفنان علي المنتصر عند عمله؟
الفن ليس مادة للمتعة والتزيين الفن لغة كونية لا تخضع لمعاير تحد من مساحة دوره الإنساني والثقافي والجمالي، هذا المجال الرحب افسح لي كفنان مبدع المجال للتحرك بحرية أكبر في طرح اسلوبي الفني وتقديم رسالة تكون أكثر صدقا وأكثر فاعلية في نشر الوعي الثقافي والجمالي بالمجتمع … من هنا جاء سعيي كفنان مبدع أكثر من مجرد وسيط ينقل مشاهد جمالية يغازل بها عيون وقلوب باردة تبحث عن الطمأنينة وراحة البال في زمن مكتظ بالمفاجأة الصادمة من حروب ومجاعات وتلوث والتقدم الهائل الذي وصلت إليه الحضارة الغربية … أعمالي تحمل رسائل تدعو للاستيقاظ والتحرر من كسل الفكر وتوظيف العقل لمجاراة سرعة الزمن، تدعو لمواجهة الذات والابتعاد عن الإفراط في التفاهات…!
• ما تقييمك لحركة الفن التشكيلي بليبيا وما التحديات التي تواجه الفن والفنان الليبي بليبيا وبالخارج؟
سبق وأن اشرت في أكثر من مقال إلى أن من الأساس لم يكن هناك حركة تشكيلية بالمعنى الدقيق لكلمة ( حركة ) هناك اجتهادات فردية يمثلها الفنان التشكيلي الذى يأخذ على عاتقه أدوار أخرى توكل في الأساس لمؤسسات وجهات متخصصة تكون مكملة لدور الفنان وتدعم نشاطه باتجاه دوره الاساسي كفنان متفرغ و منتج للعمل الإبداعي … هذا الحمل يحد من طاقة ومساحة مجال الفنان الإبداعية وهذا يكون له تداعيات في مدى نجاح الفنان التشكيلي الذي يواجه تحديات كبرى، والتي كان لها التأثير الأكبر في إقصاء صورته الفنية وغيابه عن الساحة الفنية والمشهد الثقافي الاقليمي والعالمي … فالحاجة ملحة لمجاراة المشهد الفني والثقافي إقليميا وعالميا والذى يمثل أحد اقطابه الفنان التشكيلي.
النشاط الإبداعي أو (الحركة التشكيلية) تأتي نتاج لمجتمع متقدم في صورة متكاملة لا يمكن فصلها عن باقي المؤسسات او الأنشطة الأخرى بالدولة، أن نجاح أو تقدم أي نشاط بالمجتمع كالتعليم أو الصحة أو الرياضة الخ … يجب أن يوازيه نفس حجم وتقدم النشاط الثقافي وفي نفس الخط والوتيرة التي يكون عليها نجاح أو تقدم باقي الانشطة الأخرى بالدولة.
هي صورة متكاملة ومترابطة في شكلها العام للدولة، لا يمكن فصلها عن بعض، هذه الصورة المتوازية التي تعطى للحركة التشكيلية مكانها ودورها الفاعل والصحيح بالمجتمع غير موجودة لدينا أساسا …! وهذا ينطبق على باقي المؤسسات والأنشطة الأخرى.
أحيانا اجتهاد فرد يحقق لقطاع أو نشاط ما النجاح والتقدم الباهر لذلك القطاع، وعند غياب هذا الفرد يفشل وينهار ذلك القطاع او النشاط … وهذا يؤكد أن المؤسسات غير موجودة في شكلها الصحيح كتطور طبيعي بالدولة… وهذا ما تبدو عليها كل النجاحات والتقدم الحضاري الهائل بالدول المتقدمة نتيجة نجاح كل المؤسسات وبنفس الوتيرة.
وبالرغم من كل هذه الصعوبات التي تواجه الفنان والمبدع الليبي من تهميش وغياب اليد الداعمة لمشروعه الثقافي في كل أشكالها، لم يقف كل ذلك عثرة في طريق سعى عديد من الفنانين لتحقيق ذاتهم وابراز فنهم ورسالتهم الإنسانية والفنية عبر مجهود فردي لإثبات وابراز وجوده إنسانيا وإبداعيا في المحافل المحلية وكذلك الخارجية.
• ماذا تود أن تقول عن صدق الفنان في عمله وعن صدق تجربتك الفنية؟
التجربة الفنية الصادقة هي التي تصنع الفارق بين التجارب الفنية الأخرى، صدق الفنان في تعامله مع تجربته هو الزاد الحقيقي لدعم ونجاح رسالته الفنية من خلاها يستطيع تقديم عمل يحمل رؤيا فنية صادقة يلامس بها أوجاع إنسانية معاصرة وقضايا تخص كل البشر، تبحث عن معاني إنسانية شاملة من خلالها يسجل حضور ومشاركة فاعله في بناء مجتمعه نحو الصورة المتكاملة.
تجربتي الفنية تجربة صادقة استطاعت عبر مثابرة واصرار صهر تجربتي الإنسانية والفنية المدعومة بالقلق الإبداعي لتطوير عمل فني يلامس روح زمني … أعمال تمثل مفردات أصيلة في لغتي التشكيلية وصورة صارخة لنبض هذا الزمن… خارج المجاملة والثرثرة البصرية اسعى بإخلاص تقديم أنتاج صالح لزمني يدعو لتوظيف طاقة الفكر والجسد نحو بناء صورة الإنسان الحضاري.
• وعن تفسيره لمعنى اللون، المكان، اللون الرمادي، الخلود والحب أجاب قائلا:
اللون … سيمفونية الحياة التي نلمسها بعيوننا ووجداننا.
المكان … الكثير يراك ذلك الطائر الذي يغرد خارج السرب وهذا يحدده المكان.
اللون الرمادي … ذلك المحايد الذي جعل من الصمت حكمة.
الخلود … عن الخلود أسأل الزهور فهي تصنع لنا الجمال والحياة دون الالتفات لرحيها باكرا.
الحب … سلاح فتاك لقمع القبح والكراهية.
صحيفة الصباح – الملحق الفني: 30 أكتوبر 2019