في ذكرى الشاعر توقد شموع الكلمات، ويرجع الزمن إلى الوراء قليلا، يعّـُد أنفاس الشاعر، تلك الأنفاس التي ظلــّت تمتـدّ جسرا للبوح والحنين، لتذكــّر الأجيال القادمة بأنّ هناك شاعر مرّ من هنا وحطـّ رحاله هناك، يرصد هموم ومعاناة أبناء قومه. لا بأس أن نستفيق الآن من غفوة النسيان لننشد معا. وبصـوت عـالٍ نشيـد (جزائرنـا). لنتذكـر الشاعر الجزائري محمد عبد الله الشبوكي الذي ولد من رحم الثورة، وقد عمّر ما يقارب القرن من الزمن واحـد وتسعون سنة. لقد رأى النور في قريته (ثـليجان) عام 1916م، يمتدّ نسبه إلى القبيلة الشبـاكية إحدى بطون أولاد حميدة من الفرع الأكبر للنمامشة، عرف حياة صعبة، جعلته يتنقل بين ضواحي تونس بين الحامة ونفطة وتوز. حفظ القرآن في طفولته، والتحق بالزيتونة ليتابع دراسته، وحصل على شهـادة التحصيـل عام 1942م وعاد إلى أرض الوطن ليشتغل معلما. في المدارس الحرّة لجمعية العلماء المسلمين. وشاء له القـدر أن يعايـش الثـورة والاستقـلال وانتهت بـه الرحلـة في 15 جوان عـام 2005م رحمه الله. هو عالم مترامي من الثورة التي تفيض بكل الرفض والغضـب، يسكنـه فيـض الشعـر الحافـل بـالكلمــات النابضـة بحـرارة الوجـود الإنسـاني، يسكـن أعمـاقـه وقع الشعـــراء الأوائــل، “المتنبــي، البحتـري، شوقـي، السياب، نزار قباني، فدوى طوقان، مفدي زكرياء …” شاءت الأقدار أن يولد في وسط جيل من شعراء الثورة الذيـن سلكـوا نفـس المسلـك في النشـأة والتربيـة والتعليـم فـأغلبهـم تخرّجـوا من الزيتونـة وأغلبهم حفظوا القرآن فـي الطفولـة قبلـه .عمـر بـن قــدور محمـد العيـد ، ومحمـد سعيـد الزاهـري، ومن جيله ،الربيـع بوشامـة، ورمضـان حمـود، وعمـر شكـري وصالـح خباشة، فهو يتقرب من مستوى أشعار مفـدي زكريـاء أحيـانا، ويجانب مستوى أشعـار جيلـه أحمـد شقـار الثعالبي وأبوا القاسم خمار، وأحمد الطيب معاش. حتى ظن البعض أن نشيده الوطني الـذي مـلأ الآفـاق الثورية بعد الاستقلال (جزائرنا) إنـّه للشاعر الكبير مفدي زكرياء لقد عـرف النـاس النشيـد، وجهلــوا كاتبــه، إنّ الشـاعـر محمـد الشبـوكـي يتخــذ مـن الكتابـــة الشعريـة موقفـا وموقفـه لا يخـرج عـن دائـرة الثـورة وقـد كان يتمثـل بقـول الشاعر الـعراقـي “صـدقي الزهـاوي “القائـل:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه / فليس خليقا أن يقال له شعرا
ويظلّ ذلك الاهتزاز يسكن الشاعر منذ أن فتح عينيه على ذلك التراث الشعبـي الذي تزخـر بـه منطقتـه من خلال تلك الأهازيج التي تلهـج بهـا الموسيـقى ( الشـاويـة ) ذلك الإيقاع الخفيـف الذي ربما كان العامل الأساسـي فـي تركيز الشاعـر في جـلّ قصائـده على الأناشيـد الوطنيـة منهـا نشيــد جزائرنـا، نشيـد الشبـاب الجزائري، نشيد بنات العرب، نشيد الأكاديمية العسكرية بشرشالتلك القصائد التـي جـاءت في أغلبهـا على إيقاع بحر المتقارب، وبحر الرملإنّ الشاعر في أغلب أناشيـده التي جـاءت على تفعيـلات المتقـارب أراد لهـا الشاعـر أن تكون مرّة (فعولن) ومرّة (فعول) ومرّة أخر ىفـَعُلْ) وذلك كما نجده في نشيده (جزائرنا):
جزائرنا يا بلاد الجدود / نهضنا نحطم عنك القيود
فعول / فعولن / فعولن / فعول / فعولن / فعول / فعولن / فعول
ففيك برغم العدا سنسود / ونعصف بالظلم والظالمين
فعول / فعولن / فعول / فعول /فعول /فعولن / فعولـن / فعـول
إن نقـص حركة السـاكن في تفعلـة (فعـولـن) ضــرورة شعـريـة، ولكـن لا يـعـقـل أن تكـون الضـرورة في البيت الواحد تتكرّر أكثر من مرّة فما بالنا أن تـتكـرّر في القصيــدة العديـد مـن المرّات. يحاول الشاعـر الشبوكي في نشيـد ”جزائرنـا” أن يخضـع تجربــة الكتابـة الشعريـة إلـى تجربــة الكتابــة تـحـت الـطلـب كمـا يـعتـرف بذلـك بـأن (جـزائرنـا) كتبـت تحـت الطلـب في حوار أجراه معه الشاعر السوري أحمد دوغان بجريدة الشعب عام 1983. حيث يقول: “كنت في الشـّـُريعة التي لا تبتعد عن الجرف كثيرا. إذ اتصل بي المجاهد محمد بلعوج من مدينة الشريعة بتبسة وقال لي: الإخوان من قـادة ناحيـة ( بالجبل الأبيـض ) يطلبون منك أن تبعث إليهم بنشيد ثوري ليتغنى به الجنود وسجّلت النشيد ولـم تكلفنـي صياغته إلا سهرة واحـدة فقـد كنـت ممتلأ الجـوارح اغتباطا بثورة (الجـرف) التي لا أشبههـا إلا بغـزوة بـدر الكبـرى، وسلمت النشيد في صباح اليوم التالي إلى مبعوث جيش التحرير وقد ألقت السلطـات الفرنسيـة القبـض علـى الشاعـر بمـدة لا تتجـاوز الشهـر في 10 فيفـري عـام 1956 بتهمة التحريض والدعوة إلى الثورة والتمرد على السلطات الفرنسية إن من الأسباب الموضوعية التي جعلت الشاعـر يسلك مسلـك الكتابـة الثورية( النشيــد ) هـي تلك الظروف الصعبة التي حولت الشبوكي من الرجـل المعلـم المربـي الهـادئ إلى الرجـل الثائـر ولعـلّ تلـك الفتـرة الطويلـة التـي قضاهـا فـي السجـن وهـو يتنقـل مـن معتقـل إلـى معتقل آخر طيلة ستة سنوات من فيفري عام 1956 إلى 13 مارس 1962 التي جعلته يختار العزلـة ويختفي عن الأضواء، وقد يتساءل القارئ لأشعار محمد الشبوكي عن سرّ غياب الشاعر من دائرة الشعر الجزائري، وإقصائـه مـن مساحـة النقـد علـى غـرار فئـة كبيـرة مـن الشعــراء الذيــن عاصروه، وبرزوا بقـوة في الساحـة الأدبية داخل الجزائر وخارجها، وفي الدراسات النقدية وإذا جئنا لتقصي تلك الحقائق:
أولا: نجد السـرّ في ذلك يكمـــن وراء غيــاب الشاعـر فـي تلـك الفتـرة المهمة من حياة الشاعر بسبب مدّة سجنه الطويلة التي حرمتـه مـن تقديـم المزيـد مـن المساهمـة والمشاركة في العمل الإبداعي الذي واكب الثورة كما هو الحال عند غيره من الشعراء.
ثانيا: إنّ الشاعر بعد خروجه من السجن، وجد نفسه يغرق في دائرة العمل السياسي والنضالي (الحزبي وذلك ما جعله يغير موقعه من معلم إلى مديــر مدرســة، ثـم إلى رئيـس بلديـة، ثـم رئيسـا للمجلس الشعبي الولائي ولعلّ هذه الظروف السياسية جعلته يبتعد عـن عام المشاركة الفعلية فـي تقديـم أشعـاره فـي الأمسيــات والمنتديات واللقاءات الأدبية، وقد يصدق قوله في السياسة حينما يقول:
فما السياسة أجدت في مطالبنا / ولا الشكوى أفادت عبر ماضينا
إنّ السياسـة أوهام مضللة / يا طالما عرقلتنا عن مرامينـا
ثالثا: إنّ زهـد الشاعـر الشبـوكي في نشـر أشعـاره الثورية والوطنيـة هو موقـف سلبيّ يحسـب عليـه لا له، وهو القائـل: في إحـدى المقابـلات الصحفيـة” إنـّي لا أعطـي قيمـة لما أنتجته من الشعر، لذا تراني زاهدا في نشره في مختلف وسائل الإعلام” ولكن الشاعر يبقى بينه وبين نفسه يتوق إلى عالم الشعر الواسـع وإلى كبـار الشعراء في الوطن العربي. وهو القائل:” إذا كان للشعر زعيما فإن (المتنبي) هـو زعيم الشعـر، وهو شاعر قضية عربية، رغم أن البعض يعتبره شاعرا قديما. ويحـاول الشاعر الشبـوكي أن يتـوارى عـن عالم الشعر والشعـراء، بـانصرافـه إلى حياته الخاصـة، ولكـن يرفـض فيـض الشعـر أن يغيب علـى لســان الشاعر الشبوكي حيـن يقول مخاطبـا الأحبــة والخصــوم:
هذه صورتـي وهذا شعـري / يعبّرا عن حقيقتي وضميري
في محيـايـا قديـد اللون إحساسي / وضـاءت مسيـرتي وحبـوري
أن أهـوى الحيـاة تصفـو مجاريهـا / وتشـدو بكـل لحـن نضيـرِ
وبقلبي الحقـوق ينبـوع شعـر / في قوافيه غبطتي وسروري
إن هـذا الاعتـراف الشعـري يـورّط الشاعـر أكثر عندما يقول إنه لا يعطي لشعره قيمة ويجعله في حالة من الاضطراب حينما يتأمل القارئ جيدا قوله:
في محيايا قديد اللون إحساسي / وضاءت مسرتي وإحساسي
ويقول أيضا:
وبقلبـي (الحقـوق) ينبوع شعر / في قوافيه غبطتي وسروري
إنّ الشاعر الشبوكي شاع كلاسيكي ضبـط إيقاعه على وقع الرصاص والبارود والثورة، فصـبّ قوافيـه فـي قالـب شعـري وافـق بالثـورة وانخـرط فـي تفاصيلهـا الصغيـرة والكبيـرة، وعايـش صنــّاعها، كمـا عايـش أبنـاء وطنـه انطلاقـا مـن قريتـه الصغيـرة التي ظلّ وفيـّا لها، ولـم يـرض عنهـا بديـلا. ولـم تسحـره المدينة العصرية بمغرياتها، وأضوائها البرّاقـة وهـو يقـول فـي قصيدته (قريتي):
أنت يا قريتي حديقة أحـلا / مي وينبوع بهجتي وانشراحي
فيك يا قريـتي الجميلـة سلـوا / ني الوحيـد ومنزهي وارتيـاحي
فيك أنسى وفيك تشعر نفسي / بالرضا في مسائها والصباح
فيك تصبو مشاعري فأناجي / في سكوتي سرّ الليالي الملاح
إنّ الشبوكي في هذه الحالة الحالمة بزهـوه في الريـف، يلتقـي مع الشاعر التونسي أبو القاسم الشابـي حين يختار في آخر أيامه القرية الزاخرة بالخضرة والبساطة، وراحة البـال ويقرّر الإقامـة في قريته الشابية فكيلاهما ثائر مع الاختلاف في الأسلوب والتجربة ومستـوى الكتابـة. لقد أوقف الشاعر الشبوكـي شعـره على الوطـن وهـو يقول في حوار له مع مجلة الجيـش. المنشورة بتاريخ نوفمـبر 1983 العدد 236.
كلّ شعري قلته في الوطنيات، والتغنـيّ بمعارك جيش التحريـر، وخاصة معركتـي (الجرف) و(أرقو) وهما معركتان مشهورتان تكبدت خلالهما القوات الاستعمارية خسائر كبيرة غير أنّ الشابي طاف عوالم الشعر مبكرا فكتب للوطن وللمرأة وللحرية وللإنسان بصفة عامة وللطبيعة ولم يخرج الشاعر الشبوكي عن دائرة الثورة. حين يتحدث عن فلسطين ومعاناة أبنائها ودون أن يشعر يجد نفسه يبوح بانتمائها السياسي. في قصيدته (لاحق إلا في البنادق) قائلا:
يا “فتح” يا حلما تحقـّق / بعـد أطياف كـواذب
إنــّي أهتــف من هنـا / من أرضنـا أرض المناقب
لاحـقّ إلا في البنــا / دق والمدافع والكتائب
وفي مقطع شعري آخر يصّر الشاعر بأنّ الحلّ الفلسطيني يكمن في يد منظمة فتح حيث يقول:
وفلسطيـن أرضنا كيـف تحتـل / ثراهــا عصــابـة همجيـّة
أين أبناء يعرب الصيد هل فيـ / كم بني القوم في صلاح بقية
إن في الفتح آية النصر فامضوا / كلكم في العواصف الفتحية
لقـد ظل الشاعـر الشبـوكي -ساهـرا فـي محرابـه الثـوري، وعندما تضيـق به الـدروب يغنـي للطفولـة، فيغدو رائعا في تلك القصائد التي أراها نغما جميلا يصلـح بـأن يكـون من أدب الأطفال، دون أن يغادر محرابه الوطني، وذلك كما في قصيدته (نشيد بنات العرب):
نحـن بنــات العــرب / مـن مثلنـــا في النســـب؟
أمـجــادنا معـلـومـة / مـكتـوبــة -بــالـذهــب
أمـتــنا مــشـهـورة / بـعـلمـهــا والأدب
أســلافــنا أمــجـاد / تـاهـوا بـأعلــى الحسـب
شقـوا الطريــق للعــلا / فـازوا بـأسـمـى الـرتــب
تـاريـخهــم محـامـد / قـد خلــدت فــي الـكتــب
قد زرعوا الأوطان عـد / لا واستجـابــوا للنــبـــي
وأمــنـا خــديـجــة / مـقـامـهـــا فـي الشهـب
بـهـا نـفاخـر الدنــا / فـي مشــــرق أو مــغـرب
وللشاعر قصائد أخرى تصلح أن تكون أناشيد للطفولة منها ( مناجاة هلال رمضان):
يا هلال -الصوم يا خير هلال / فيك أطياف من السحر الحلالْ
لحت في الأفق وضّـاح السنا / مشرق الطلعـة موفور الـدلال
وقصيدة ليلة القدر:
ليلة القـدر تـهـادت / تـحمـل السـرّ الدفيــن
نــزل القــرآن فيــهـا / رحـمــــة للمــؤمنيـن
إن الشاعـر الشبــوكي يجنـح إلى البساطـة في الكتابة الشعريـة، تلك البساطـة التـي نـراهــا علـى مستـوى (المفـردة اللغـويـة، وعلى مستـوى الصـورة الشعرية) فأشعـاره تخلـو من التعقيـد، كما تخلو من المجاز والرمـز، ويحـاول فـي بعـض الأحيـان أن يـوظــف بعـض الألفــاظ العاميــة كمـا في قصيدتـه (جزائرنا):
قهـرنا الأعــادي فـي كـل وادي / فلم تجدهم طائرات عـوادي
ولا (الطنك) ينجدهم في البوادي / فباء بأشلائهــم خاسئيـن
تلك الكلمات العامية المحرفة عن اللغـة الفرنسيـة (الطنـك، البيكـو، مكيـاج) لقـد ظلـت حالـة العزلــة تضغـط بقـوة على حيـاة الشاعـر وهـو يبتعـد عـن عوالـم النـاس يركـن في وحدته أو في (معرته) وذلك خلال فتـرة طويلـة مـن الزمـن. لقـد زهـد فـي كـل شـيء واستسـلـم لذلك الهروب المبرّر بتغيير الواقع والظروف الحياتية الجديدة. مع العلـم أن الشاعـر لا يمكنه أن يستسلـم بكـل بساطـة، بل من واجبه ألاّ يتخلى عن دوره الريادي في كل محطات الحياة. وها هو يعلنها صراحة في قصيدته (سئمت الدّنا):
سئمت الدنا وكرهت البشـر / وتقت إلى العيش فـوق القمـر
هنالك كي لا أرى غير كون / تـزينـه رائعـات الصـــــور
بريء من الزور والترها / ت بعيـد عـن الكبريـا والبطر
جوانحه طاهـرات الظــلال / وآفــاقـه ظــافــرات العبـر
يوحـّد فـيه الـفـتى ربـه / بقلـب تطهّـر مـن كل شــر
فأحيا هناك فريـدا سعيـدا / أناجـي الإله وأرجو الظفـر
إن الشاعر يحاول أن ينسى كل مراحل حياته على الأرض، التي عاشها وسـط الناس بكل ما تعـج من حركة، وسلوكيات بشرية منافية للوضع السليم في الحياة وهو يقول:
وأنسـى حياتي التـي عشتها / على الأرض حينا وأسلو الذكر
وأغسـل نفسـي من كل رجس / عــراني مـن مـوبقات البشـر
وأنشـد وحــدي نشيد السلام / وأعشـق وحـدي جمـال القمـر
ترى أيّ نشيد يقصده الشاعر، وعن أي سلام يتحدث؟ هل هو سـلام الـذات والوحـدة والعـزلة، أم هو السـلام الـذي يتمنـى أن يحيـاه كـلّ كائـن بشـري علـى هـذه الأرض، التي تعـجّ بالحروب والكوارث والجرائم، وعن أي جمال يتحدث الشاعر؟ هل (القمر) هنا هو القمـر الـذي يشـعّ نـورا وسط الظلام أم هو القمر الذي تضيع تفاصيله وسط مفهوم الرمزية؟ التـي تــُسلمنا إلى معنى يدركه الشاعر وحده. وفي الختام أأمل أن تسعفني الرحلة كي أقف عند محطات هذا الشاعـر بقـدر كـافٍ من التوسّع في القراءة لأشعار الشيخ محمد رحمه الله.