سرد

حـديـث الكـورنـيـش: الـليــــــل بـزبــد البـحـر

……

تقطف الواز روحها ولا تتقشر إلا في صدر من تحب.. حزنها الشاعر على وجه البحيرة يواعد الغيم بمآقي حالمة،، اللجة والملح تميمتها.. ظمآنة للسراح والسراج دلاءها معصوبة بالصبر،، عصماء تأبت النوح،، عصية ولا تذوب بالبوح،، وجهها اللازوردي وصورها المنكسرة فاضت من شروخ الموج،، مرايا للهيام بذكريات هائجة.. سلامها الحاني في أحداق الساكنين ومض حنين،، وقبلات تنثرها باكرا على كل الضفاف مواعيد للقاءات الرطيبة،، الذكرى تغالبها ولا تنعس فيها الروح الجياشة.. إلا بمهد يهدهدها…

الساعة علمتها أن تسرد حكايات الموت للفوات، تواريخ ميلاد ’، وأن تكتبها مشاوير انتظار، لحيوات ستصل دفقاتها من القلب إلى عطش الشرايين أجراس غزارة. مدينة بلا أسوار مفتوحة على المد والمدى لم يحاصرها الوجع، من ظهرها الجبلي تنسل الوديان بالزلال لتؤوب إلى طينها وتنجلي مخضبة الربيع.

لم تكن يوما مطية ولا حدباء.. في قلبها روح المدائن وتسكنها عروق وطن،، في صدرها البحر هدير أمنيات، وأمواج الرحلات بكفها رذاذ مجاديف.. وأشرعة أحلام بشطها تأنس ليل الفنار، تحط أحمال اليم للعابرين في صمت وللراقدين بلا ريح وتحتها،، تمر بشوارعنا مهذبة العناء.. تمر بقصائدها الدهرية عبقة الرهج،، نثيرات من المسك والبخور للزوايا وقباب الأضرحة الخضراء،،

.. كم مضى عليك هنا !؟ منذ ألاف العابرين 〰☼〰 منذ أن نزلت الشمس ببحرنا وصنعنا من الملح حلوى للمراكب. منذ أن سطع الفنار ونادى في اليم نوره أذان التائهين. منذ أن حطت خيوط الوطن على نول الخريطة تنسج أسطورتي وتلهب التوق درة، مدينة يسكنها وطن، هنا منارات الله ورياض الصالحين،، هنا البحر وشيوخه يعلمون أبناء الموج السباحة في الشعر وصيد الحكايات للبر..

تأبط محارك، اخلع شراعك وأذرع شطان القوت، هناك يتعطرون برذاذ الشابي الأزرق ويتشرفون قهوة العشايا بفناجين العباب……

كالنور تأتي سقوفها وقبابها، ملاحم الشعاع.. النجم والقمر بقبتها صنوان،، بمراسيها أعشاش النسيم وموئل الطير. بصفحة تراب خبأت غبارها وبذرة العمران..

.. بميدان الشجرة لا قشة تقصم ظهر القطران. الشوكات يخاصرها الملل وتكويها أعقاب السجائر المحلية وعيون البطالة.. المارة يدحرجون خطاهم والعربات تزفر الدخان على مؤخرات الوحل،، لا خضرة ولا ماء.. النافورة ناشفة العروق لم تستحم منذ ولادتها. فقط وجوه الراجلة بالهراوات والجمال بشارعه غير مستتب……..

في الحديقة الجرداء.. أنا والعيدان اليابسة فوق قانون اللاظل.. متهمان بالذبول في عين الشمس…. على الرصيف الشائك فاحت مشاويري الشهباء ” ألغاز بلا حل “، وعدت ” من حضرة البركة ” بأوراد سيدي حسين ! ؟.. إلى المشاء ” صديقي في الطرف الأغر”……..

.. الشوارع المثقوبة.. في كل حفرة سخانة مياه قديمة،، في كل ثقب وتد (تل) صدئة وعجلة نافقة الهواء ” تجاوزنا مرحلة المسامير، جحا لن يعود، جحا بريء من جدراننا أيضا. فتشوا عن جندارما الجرذان. أوقفوا حرب الشوارع وصفقات الأنفاق التي لا تردم شراهة. متى ينتهي هذا العري القبيح بالميادين المزرية والأحياء المتشرنقة على بؤسها والممزقة الطرقات، العامرة بالشروخ حوائطها !؟..

… مرض هنا ومصحات هناك.. بينهما درب جبانة،،، موت هناك وجنازات هنا.. لو تفاهم الموت والمرض لأرحنا المعزين ووفرنا الزاد ووقود الرواحل، تذاكر السفر.. ولدفنا بعين المكان جميعا بهدوء وصمت.. يا دودة القز وطني المرقع بالتوت أحق بحريرك..

.. كنت في قبضة السكون، نادني رمل وماء. عدت لشط الملح وشمس الرغيف. كنت في زنزانة البحر أخربش على جباه الموج، أسائل كتابا معصوما باللاغرق،، عن صبوات الصواري ونزق المراكب،، أفكك أصدافي المرة المخبلة بشباك الريح. اغسل لساني من صمت البر الطليق. كنت بأمان مع الوحشة وكانت الوحدة تطمئنني. البدر تمام، كذلك أتت النجمة البعيدة. التي هنالك تركت، لا تغني، يتسرب صوتها لمعة على قيثارة العتمة.. كالهدي تهيئ من الاختلاج مرافئ للشرود !.. ها أنذا أعود.. لميدان الحوت بفناجين الأعماق المرة ” وللمفتي بهدرزة شيوخ البحر “..

 .. الأرصفة البيضاء تطبع على غبارها القديم خطوات العابرين القدامى.. كالأطياف مع النسيم رحلوا… قلب المدينة الشاغر استنزفه الغياب ونهاية القامات القديمة.. هنا كان التورط البكر مع الحرف بيراع رفيق الهادئ ساكن المطبعة، ومسارد الفاخري والنيهوم في شارع الحشيش تحصد الأصداء.. هنا كانت تحط قوافل الصحف والكتب أحمالها للحالمين بأقلام التنوير وخرائط العمران وأخبار ما وراء البلد الصاغية.

هنا النرجيلة تمخر الدخان في سكون يرضع نداوة الصبح. هنا كان التجار والشطار والصغار في ضجيج السوق زحام حياة بلا قلق ولا طوابير للخبز والحليب،، وكانت عرافات المدينة من عصر الودع وبنات تبرة بخلاخيل الفجرة يذرعن أزقة الحظوظ وعتبات الرجاء، يبعن لنساء الأعشاش الجديدة المدججات بالبيض والديكة ريش الآمال وأحلام الدفء.. وحدهم العاشقين الهادر فيهم عصف الحنين يطارحون اليوم الحوائط، ويتحسسون نبضات الشباب بطوبها الهاري، زمن وشم الحب على خشب الأبواب المخلخلة حيث الثقوب يصبغها الكحل وبصمات أصابع الحناء الرقيقة على الرتاج المسحورة بالعرسان..

اليوم باعة الموز وعربات البطيخ والدمى الصينية يتزحلقون الواحد تلو الآخر على قشرة الإسفلت القديمة.. عن ميدان الحوت انحسر الهدير، نفقت الأمواج والملح مستتب…. المدينة تمزق قلبها وتفرق دمها على الأطراف… لكنها تحن وترتعش… للحب والملح…

في المقهى الرياضي.. يتكيف الليبي بالماكيتو ( مكياطة ) الإيطالية،، ينفخ رغوتها الحامية بأنفاسه الباردة.. ويذوي على كرسيه كعين ذابلة تطالع انتماءاته البديلة مفتوحة على كل الشباك في قدم ايطالية تنصب له فتنة ” الكالشو ” بطعم البلازما في بحر الشاشات المخدرة، فخ الفراغ بطعم الفرجة.. مباريات لا قدم له فيها ولا علم،،، يخسرها بأرض الرهان والساق على الساق..

غادرنا المقهى الرياضي وتركنا على الجدار هدف لم يصفق له أحد… ” عمر المختار ” صورة ساجية بأخر المقهى يسكنها الصمت المهيب ويلفها دخان النرجيلة،، يرمق أحفاده معممين بعلم شانقيه يتهاصرون بالإيطالية ويلوحون للمارة.. ” ” Viva Roma.. تركنا صديقنا المصري في حبه القديم يفرك أذنيه بصوت أم كلثوم ” الأطلال “…..ـــــ….

….. ” لكن مدخل الكورنيش هما العمودان الرخاميان الموجودان الآن، وقبل نصف قرن، كان على قمة أحدهما أسد.. وعلى الثاني لبوة ترضع صغارا.. رمزا لأسطورة تأسيس مدينة روما في ايطاليا..

عند منتصف الكورنيش يوجد رصيف مربع القبطنارية أي رصيف القباطنة، وعنده في فترة العيد، كانت ترسو القوارب لنقل الأطفال مع آبائهم في جولة قصيرة حول الميناء. وفي نهاية الميناء كان يجلس هواة الصيد بالصنارة، كما يفعلون إلى اليوم. وعلى الكورنيش تطل بعض المباني الهامة. التي ما تزال قائمة : قصر الحاكم أو قصر غاراتسياني، الذي منح للجامعة الليبية منذ منتصف الخمسينات. وشرقه كانت فراندات مقهى الفردوس الشهير. وغربه عند انعطافة الكورنيش، الكنيسة وبجوارها هوتيل برنيتشي ( فندق الجزيرة الآن )… كان الكورنيش في الخمسينات ملتقى شباب المدينة ما بعد العشاء.. يطقطقون الزريعة والكاكوية ويشربون الآرانجاتا. والمدخن منهم يستمتع بسيجار البحاري الانجليزي أو إسبيريا الليبية.. قبل ظهور دخان سبورت أو الرياضي.

وفي تلك الأجواء كانت تطيب الهدرزة !!……………

لكن الكورنيش كان أيضا الحزام الذي أحاط بالمباني والإدارات الغرف التي شهدت مخاض الدولة الليبية فندق برنيتشي كان مقر القيادة البريطانية بعد الحرب، ومن قصر المنار ( الجامعة الآن )، أعلن استقلال برقة ثم ليبيا… “.

… هكذا يختصر الصديق الدكتور محمد المفتي في كتابه ” ع الكورنيش ” تاريخية معمار المكان في نصه الوصفي عن جادة الكورنيش وما حولها… كما يعيد بدقة رسم لوحة المشهد والأجواء والطقوس التي كانت تحيط يه…

وصلت بخطى ثقيلة إلى كورنيش الكابترانية ( كما ينطق بالعامية البنغازية ). شرفة المدينة البحرية، مستعذبا في خاطري دندنة أحبها لفنان الجيل أحمد فكرون ♪ ” يا نسمة يا ليل يا قمر ♪، خلوها الحكاية سر ♫ ♪…… ثمل بجرة الشعر، أعبث بضفائر الندى والفجر يسكر. أهش على الصحو بطرف قصيدة.. خادرة المدينة العصماء في البحر، قصائدها لا تذوب والشط الجريح يكابد ملح الحكاية البكر، يغمس في الموجة وجعه العرم. بروحي نهر الليثون الجارف يغسل تفاح الهسبريدات، بوجهي بحر برنيكي وشفاه نسيم ــــــ “…

.. لم تستحم كعادتها بماء السبيل. نشوانة بالذكرى عند غدير لم يفيض. التحفت ريشها المالح. تنقر في صدوع الطوب بالمنارة حظها القديم، مناقيرها بلون السنابل وحب الحصيد. ذاوية عند شاطئ الأساطير.. تجمع لضفائرها ” برنيكي “. أصدافها الحبلى بنداءات المطر الجديدة وقصائد الزمن البديل..

” نوارس فورتونا كانت تثرثر بمسبح بيكاسوس قبالة ركام المتحف “..

نظرت في مرآة الماء فلم ينعكس من المباني الرمادية المطلة على وجه الأجاج نور زجاج شباك ولا انسحبت من قبة السماء ستائر الكشف عن ظل سحابة.. لم أرى حتى ارتعاشة وجهي المائج فيها.. ياه إلى هذه الحد ماتت الأشكال والألوان والملامح والخيالات والظلال ! ؟..

لا لن يضيرني الاعتراف بأن البحر يغط في فساد عميق وأن التسكع على الأرصفة المحاذية لمصيبته ومصيبتنا فيه بات بالنسبة لي ” كآدمي وبري ” مجرد سويعة تجوال ملونة بالملل وملوثة بالحسرة،، ستدق في باطني أجراسها معلنة سقوط لوحة أخرى بالوحل من جاليري المدينة البحري وانتصاب لواجهات القبح وصور العفن كفن سائد الطراز لعمارة وعمران هذا الزمن السريالي الللطشات والغرابي الريشات..

حتى اليوم لم أجرؤ على هجر البحر، لكنني أتذكره دائما كلما تذوقت طعاما واكتشفت أنه بلا ملح.. وأجدني جد منشغل بأمره كلما وقعت عيني على عدة البحر خاصتي لأعد كم الأيام ابتعدت عن بلله ورمله…. وحده صديقي سي علي اشقيفة الصياد العجوز يجدد بي الحنين للرحلة إلى البحر كلما جالسته بدكانه للمعدات البحرية بمصب شارع العقيب على ميدان الشجرة وهو يصنع ” البرنغالي الوجه ” * – الذي يعوم خيطه كالمسبحة بالشصوص ( الحسك ) بقوة دفع الشراع على وجه الماء بخلاف الآخر الشائع بين صيادي المراكب المعروف ببرنغالي القاع – المخصص للصيد أيام الرياح الجنوبية فقط ” القبلي ” – وهو صانع ماهر وأفضل من يصنعه بشرق ليبيا على الإطلاق ولازالت أشرعته تحرث البحر..

يحدثني من حين لآخر عن طرائقه الخاصة للصيد وخططه البحرية لتفخيخ الموج والضحك على ذقون الأسماك وذيولها،، بشصوصه المختارة بدقة وخيوطه الألمانية التي لم تخذله في يوم صيد، كأني به يقول أنها قد نتفت من شوارب هتلر نفسه قبل أن يحلقها الحلفاء… زبائنه لا يملون سماعه أيضا خاصة عندما يروي لهم قصتهم المفضلة عن أيام الصيد وثراء البحر بستينات وسبيعينات القرن العشرين في سوق الحوت يوم كان يصنع الحدث والصورة وهو يجلب من أسماك ” الشولة ” مثنى وثلاث ورباع الواحدة منها بوزن لا يقل عن 25 كجم ويجمع للمشهد جماهير المتفرجين من أطراف السوق… وبوصلة الدهشة والأنظار لا تؤشر إلا على ذراعه وعرق جبينه..

طحالب وأشنات متشبثة بالجدار الرطب وحطام قارب فارق الماء،، حشرات تطير وحشرات تزحف وأخرى تعوم، من فصائل البر بحر والبحر بحر والجو بحر،، حلزونات مالحة أنتجت من الغراء ما يكفي لالتصاقها بحقها طلبا لطراوة العيش..

الكل في نشاط وحمية مبللة..حضور متحرك ومستغرق على منصة مائعة حتى القاع.. اعتقد أنهم حتى اللحظة بصحة جيدة وحتما أنهم يتكاثرون بوتيرة معقولة أيضا…

وأنا أتابع هذه الحياة الفطرية الطافحة ” بالقذارة ” من وجهة نظر وشم بشرية. أعدت عكس وقع الأذى بأذهان كل هذه الكائنات التي تصورت أنها في حالة استنفار وخوف ورعب ثلاثي التوجس من وجودي المدمر لوجودها..

بدت فكرة إعادة رسم خريطة الرزق وأقاليم المعاش وتوزيع البيئات أيا كانت نجسة أم مقدسة، آسنة أم جارية.. برية أم بحرية أم هوائية، مواتية أيضا للقبول حشريا حيوانيا ميكروبيا كمشروع للبحث، بل ربما بالنسبة لها ستعادل قيمة وضرورة مطلبية مشروعة كذلك كما هو الحال بمطالبنا ببيئة نظيفة وصحية، خاصة وأن بعض الدراسات البيئية تنصح بالمحافظة على بعض الكائنات من الانقراض لأنها ستكون أيضا من وسائل وأدوات المكافحة البيولوجية وعمليات الإصحاح البيئي…. غادرت الفكرة خوفا من أن تعلق برأسي وتتعلق بعقلي أو أن تسافر قبلي إلى جوار أحدهم فينعتني بأبوتها والجنون معا،، لذا خدرتها في ركن منزو إلى حين سيضيق بها، وحتى يتمدد بي الوعي ناحيتها في صحوة لاحقة لمفاكرتها ربما بمزاج أفضع،،،،

نظرت للأسفل كانت قوارير طافية وأحذية حافية،، أوراق منقوعة وأحجار موضوعة وأكياس مبثوثة قلت في خاطري يالهذا الجحيم القميء الذي أرى، لا ينقصه غير زيت الويل ولهب اللعنة ليشتعل،، بالكاد رفعت رأسي واستعدت حاسة الشم على مراحل،،… تراجعت قليلا تنفست الصعداء،،……

ثم التفت من حولي لليمين ولليسار،،، وحدقت بالجالسين قبالة البحر بعيدا عني..

كنت أتوسط بانوراما الشاطئ وعلى الكرسي المتوسط بينهم تقريبا،.،…

قلت للكورنيش البحري، أين هدير الموج ؟ أين الدلافين التي كانت ترقص بين المراكب ؟

أين القاع الرملي ولمعة النقود المعدنية بين قواقعه وحصاه الملون، يوم كان الصغار يغطسون لجلبها

قبل أن تغوص وتتوارى بالرمل الأبيض؟

رد هاتف مائي نحن هنا،، نحن نلمع..ألا ترانا بينها.. !؟..

علب الكوكولا وديدان الصدأ تسكنها.. وتتزحلق على جلودنا كبرادة الجرب. !..

كانت اسماك البوري تتقافز بجنون وتنفض في الهواء رذاذا زيتيا عن جلدها المصفر تناثرت القطرات كالحبر وامتقعت على وجه الماء رسالة من بطن الماء…..

” النافثا * ومستهلكات سلسلتكم الغذائية الراقية ومياهكم السوداء ببحرنا الأبيض..

يــا ابـــــــــــن الـطـــــــــــيـــــــــن المــتــــــوســــــــــــــــط ! ! ! “….

أخيرا وقبل أن أغادر تنبهت لوجودها معي بالحقيبة.. أخرجتها بكفي ووضعتها أمام عيني.. الكاميرا أفضل وسائط التوثيق المعاصرة وهي فنانة تجميد المرئي الثابت والمتحرك،، تكنز بأمانة حصاد اللحظة لمواسم الذكرى.. هنا لن تسمع إلا انهيارات أهدابك أمام كوة الرؤى وتقليم الأنوف بتهمة سب العفن.. فأشح بوجهك عن كل هذا ولا تضع عينك بعين منظر.. يبغي دمعك..

التقطت بعض الصور للكورنيش الكئيب وما حوله رفقة صديقي الكاتب زياد العيساوي،،

رغم اشتعال أعمدة الشوارع المحيطة بأنوار تشبه لون برتقالة شاحبة، لم انجح معها إلا في الحصول على مسحة حزينة للمشهد المتشاجر مع أفقه، فجاء قطاف الصور التي اعتصرها أصبعي المرتعش من سلة الفراغ جد حامضة أيضا.. لعل الإلتقاطة الوحيدة التي مسحت ما سبقها وأسعدتني في آن.. تبدت بوجود شابين يقومان بالرسم على حافة المصطبة الحاجزة بين الرصيف والماء.. الشابين فنانين بحق، كانا منهمكان في صمت، يرسمان بعض أفكارهم وتصوراتهم والتي إن بدت غريبة لبعض المارة أو مجنونة، إلا أنني لم أرها كذلك وتمكنت من قراءتها باطنيا بثلاث أضاد اجتمعت من حولها حتى انتشلتها مجردة رغم عمقها السحيق بعد أن عكستها من اليسار إلى اليمين كلغة لجيل لم نقرئه بعناية ونظن انه لا يكتب ولا يرسم ولا يغني ولا يحلم وهو يحاول أن يوصل صوته وأبجديته وحروفها..

كان أحدهما يرسم على سطح المصطبة الحجرية بدقة متناهية وجه الزعيم النازي رودولف هتلر ويستنطق لسانه بجملة كتبها بالانجليزية وسط فقاعة بجوار رأسه تؤشر إلى فمه المتوج بشاربه المميز..

(( Don’t Follow me Just Be Yourself ))

غادرت المكان ولازالت العبارة تتبعني.. غادرت الكورنيش غير آسف إلا على الشابين ونفسي ومدينة تتآكل من أطرافها وتؤكل فلذات أكبادها ولم يشبع بعد أحد…

ثمة مشكلة صامتة لم تذب بعد بصراخنا أصداء… نحتاج الملح لنحيا والماء لنحيا..

العذب الزلال والملح الأجاج تؤمان من رحم الأرض، نحن أيضا أبناءها من الطين اللازب، نتشقق بين الهجير والرمضاء كقرب من جلد ميت، لكن اليباس لا دلاء بآباره إلا للسيارة ولا يروي في هذا الزمن عيداننا النابتة من حوله كقوافل من الحطب الآيلة للاشتعال….

…. آذان الفجر يصعد وندواة من السماء تهطل… أراها استيقظت،، ستتوضأ بالطل ورذاذ البحر..

،، الفاضلة يحبها الله وأنا كذلك… المدينة ستصلي..

انتهيت حبرا…

….. ” الرابعة ودقائق مبللة فجرا “

_____________________________________

*/ ( = الوقود المتسرب من محركات الديزل بالمراكب )

*/ هي آلة للصيد،أشبه بقارب صغير مكونة عن مثلث خشبي الشكل لا يزيد مثلث أضلاعه عن المتر والنصف ينتصب فوقه شراع.

تطلق مع هبات ريح القبلي ( الجنوبية ) في البحر وليسحب معه خيط الحسك الملفوف على بكرة بالشاطئ.. خبرني سي علي اشقيفة أن يونانيا كان ببنغازي جربها بحضور بعض الليبيين وأنها لم تنجح تماما في حينه غير أن أحد الليبيين انكب يحاول مع فكرة ” الريقريقي ” حتى طوعها لبنانه ونجح بإطلاق القارب الشراعي بالبحر، ثم توالت التطويرات والتحسينات عليها خاصة بعد ما عرفت أعماق الشواطئ القريبة وضبطت معها أطوال خيوط الحسك وعرف أن أنثى الإخطبوط هي أفضل طعم يمكن الاعتماد عليه لأنه لن يتحلل بالماء ولن ينسل من الشص، والأسماك الكبيرة تفضله على غيره، كما غيرت البكرات إلى أحجام أكبر ووضعت لها يد للف بدل الجذب باليدين، وثم تحسين سارية الشراع وجعلها متحركة. 

مقالات ذات علاقة

مقطع من رواية: الأشواجند

فتحي محمد مسعود

فـوضـى

الصديق بودوارة

الذئب

مفتاح العماري

اترك تعليق