الجزيرة نت | الجزائر
هل يصنع العشق أو الشغف بالشيء المعجزات؟ أو على الأقل هل يكون ذلك قاعدة صلبة لبصمة متفردة وفريدة من نوعها؟
في قصة شاب جزائري، لم تجتمع فقط عِبر التحدي والنجاح لما يعشقه ويحلم به، بل استطاع أن يكون “ظاهرة ثقافية” نادرة بين شباب الجزائر.
بلال شعابنة (34 عاما) من محافظة جيجل الساحلية الواقعة شرقي الجزائر، صنع الاستثناء باستثمار يراه كثيرون “غريبا” أو “حتى مضيعة للوقت” أو “استثمارا مفلسا”، والبعض يعده “استثمارا راقيا”، لكن بلال يعتبره “الحلم الناجح الذي لا يقبل إلا النجاح”، كما قال للجزيرة نت.
قرر شعابنة الاستثمار في مجال لا يخطر على بال، وهو الذي اقتحم عالم “الاستثمار الثقافي” بفتحه عدة مكتبات لبيع الكتب والروايات بمختلف أنواعها ولغاتها، بل وضع لمشروعه مخططا أوسع يشمل “استعارة الكتب” وتخصيص فضاءات للمطالعة لمن يريد.
أما هدفه في ذلك فهو “غرس ثقافة القراءة والمطالعة في المجتمع الجزائري” التي قال للجزيرة نت إنها في تزايد مستمر، وهو الذي اختار “علامة موحدة” لمكتباته المنتشرة في 5 محافظات باسم “البصمة”، محققا بصمة حلمه الذي راوده منذ صغره، مبتعدا عن قالب “دور النشر” ليكون له مشروع استثماري بفلسفة ثقافية خاصة لم يسبقه فيها أي أحد، يضم نحو 25 ألف عنوان.
الاستثمار في الكتاب
الجزيرة نت زارت شعابنة بمحافظة جيجل، واستقبلنا بذلك الوجه البشوش، وحيوية ونشاط من يعيش حالة عشق داخل “قفصه الذهبي المكتبي” وهو يتابع كل تفصيل داخل “مكتبة البصمة” الواقعة بقلب المدينة الساحلية، التي باتت منطلقا أيضا لظاهرة ثقافية فريدة.
وقال شعابنة إن فكرة المشروع الاستثماري تولدت من شغفه بالمطالعة عندما كان هائما يبحث عن اقتناء الكتاب في كل مكان، وإن بداياته معها كانت من الكتاب الديني والروايات العالمية.
وأضاف “كأي هاوٍ كنت أبحث عن العناوين التي تستهويني بين رفوف المكتبات في ولايتي، كنت هائما بين شوارع المدينة، لكن لم أجد ضالتي، فقمت بالانتقال من ولاية لأخرى لانتقاء العناوين المميزة”، ليبدأ خطوات تحقيق حلمه الأولى بمكتبة خاصة في منزله وداخل غرفته، وتولدت معها فكرة تحقيق حلمه بفتح أول مكتبة خاصة به لبيع الكتب عام 2017 بمحافظة جيجل، قبل أن تتوسع الفكرة إلى مشروع استثماري فريد بـ5 مكتبات في محافظات الجزائر العاصمة (وسط) وسوق أهراس وتيزي وزو وبجاية (شرق)”.
“بصمة” بلال كانت واضحة في مكتبته من خلال مختلف العناوين المتوفرة من كتب دينية وعلمية وروايات محلية وعالمية وغيرها، وحتى في طريقة عرضها التي شبهها البعض بتلك الحلوى المزينة التي تسيل اللعاب.
وعن سر اختياره اسم “البصمة” لمجموعة مكتباته، يقول بلال “ببصمتك سنبني أجيالا أكثر وعيا وحضارة ومن هنا انطلقت فكرة تسميتي للمكتبة، أحببت أن تكون بصمتي بين القرّاء والكتاب، فلا بد من ترك شيء مثمر في الساحة”.
ثمار يريد هذا الشاب الجزائري غرسها وهو يتحدث عن “حلم جارف” يريد تعميمه في معظم ولايات الجزائر وحتى بعض دوائرها وبلدياتها.
وقبل ذلك، يتحدث بلال عن بداياته الصعبة لتحقيق حلمه، وأوضح ذلك بالقول “معروف في مجتمعاتنا -وخاصة لمن لا يعرف قيمة الكتاب- القول إن الفكرة مضيعة للوقت، لكن بالنسبة لي الكتاب كل وقتي، بدايتي كانت من العائلة وبفضل دعاء الوالدين بدأت ونفذت مشروعي ولا زلت، وهذا أفضل دعم بالنسبة لي، وأيضا بفضل عملي ونشاطي المستمر في هذا المجال تلقيت الدعم من بعض دور النشر النزيهة في عملها حيث دعمتني بكل أنواع الكتب التي تنشرها”.
وإن كان هذا المشروع قد أخّر “تفجير بلال لموهبته” في الكتابة، وكشف عن تدوينه عديد النصوص القصص والروايات التي تركها جانبا لانشغاله بالمكتبات، لكنه ينوي نشرها قريبا.
استثمار مادي أم ثقافي؟
ولأنها ظاهرة استثمارية غير معتادة، سألت الجزيرة نت بلال شعابنة إن كان استثماره ماديا أم ثقافيا، فكان رده -مفسّرا للجزيرة نت خلفية مشروعه- “كشاب يملك خبرة في مجال الكتاب وترويجه في الساحة بطريقة ثقافية تجعل القارئ في حماس أكثر للكتاب الورقي، فإن فكرة مشروعي لا تقاس بالربح المادي”، بل تُحسب بـ”الربح الفكري، والثقافي، والعلمي، الأدبي، والديني فهذا الاستثمار حب انطلقت في مجاله لتكون بصمتي راسخة بحول الله وليس الربح المادي”.
بلال أيضا لا يرى أنه جازف بالاستثمار في فتح سلسلة مكتبات لبيع الكتب، وبدا واثقا وراضيا عن النتيجة التي حققتها فكرة مشروعه “الاستثمار في القراءة”.
ومن أجمل الصور التي صادفتها الجزيرة نت داخل مكتبة بلال، قدوم طفلين شقيقين لاقتناء كتب، وهما إياد الذي يدرس في الصف الرابع ابتدائي، وشقيقه الأكبر عبد الوهاب الذي يدرس في الصف الثاني متوسط.
يقول الطفل إياد “أذهب بشكل شبه يومي إلى مكتبة البصمة مع زملائي، ودائما ما نجد حسن الاستقبال والمعاملة من صاحبها وهذا ما يشجعنا أكثر للإقبال عليها، وحتى للمطالعة فيها، لذا نعتبرها أحسن مكتبة في المنطقة”.
أما شقيقه عبد الوهاب فأبدى إعجابه بالمكتبة وما تقدمه لمن هم في سنه ومستواه الدراسي، وتابع قائلا “المكتبة رائعة، نحب المطالعة فيها لأنها تتوفر على جميع الكتب المدرسية”.
قبل أن يعود بلال ليجيب عن تساؤل قال إنه عُرض عليه كثيرا من محيطه، “لماذا لم تستثمر في تجارة مضمونة الربح كبقية الشباب”؟.
ليؤكد مرة أخرى أن هدفه ليس ماديا بقدر ما هو فكري وثقافي، والأكثر من ذلك يرى أن مشروعه “مختلف عن المشاريع الروتينية”، ففضل أن تكون له بصمة خاصة به بعيدة عن التجارة ومنطقها.
كما نوه إلى أن “النجاح في عالم المكتبات والكتب والمضي قدما؛ (من أجل أن يبقى) الكتاب الورقي موجودا، ومن أجل خلق روح المطالعة أكثر في ظل وجود الكتاب الإلكتروني”.
إستراتيجية مكتبية
ويهدف بلال شعابنة من خلال مشروعه الثقافي إلى “التركيز على توسيع فكرة ثقافة الكتاب داخل الوطن بصفة شاملة لتعزيز المقروئية، حيث سيكون لكل مكتبة فضاء خاص ومريح للمطالعة”، وهي الفكرة الجديدة التي أدخلها الشاب إلى مكتبات بيع الكتب في الجزائر.
فكرة أخرى لم يتعود عليها القارئ الجزائري استحدثها هذا الشاب الطموح والمولع بالكتاب، حيث كشف عن “استعارة الكتب بمبلغ رمزي لمن لا يستطيع اقتناء الكتاب”.
وشرح ذلك بالقول “قمت بجعل فضاء الاستعارة للقارئ ذي الدخل الضعيف كالطالب والمتمدرس، حيث يدفع مبلغا رمزيا ويملأ بطاقة الإعارة، ويستعمل أي كتاب لمدة 15 يوما أو شهر ليُكمل بحثه أو مطالعته، ويقوم بإرجاعه، وهكذا يستفيد الطالب أو التلميذ، ونستفيد نحن أيضا، ولنكون راضين عن عملنا الدؤوب لإعطاء الفرصة لكل مهتم بالكتاب”.
وهي الفكرة التي استطاع من خلالها زيادة عدد المهتمين باستعارة الكتب في مختلف مكتباته، خصوصا خلال فترة الموسم الدراسي وحتى في أيام العطل، معبرا عن فرحته وتفاؤله بما قال إنه “جميل أن ترى شبابا هنا لمطالعة واستعارة كتبهم المفضلة بدلا من ذهابهم لقاعات الإنترنت، وهذا ما يساهم في إحياء روح المقروئية”.
وعن أكثر الكتب مبيعا في مكتباته الخمس، كشف صاحب “المشروع المكتبي” عن تصدر الكتب الدينية حجم المبيعات، تليها العلمية ثم الروايات العالمية والكتب التاريخية والثقافية وحتى روايات المبتدئين، حتى إنه يخصص ركنا خاصا بهذا النوع من الكتب للمبتدئين وهدفه في ذلك تشجيع الشباب من الجنسين الذين لديهم موهبة، على الكتابة والطبع والنشر.
الكتاب لـ”السجين”
هوس وتعلق بلال بالكتاب واقتناعه بحلمه لم يتوقف عند جدران مكتباته، فقد تعدى ذلك ليصل إلى داخل الزنزانات. يقول بلال شعابنة إنه بعد عدة نشاطات راودته فكرة مشروع ثقافي جديد بالتنسيق مع نادٍ أدبي ثقافي في ولاية سوق أهراس الواقعة شرقي الجزائر واسم النادي “طاغست تقرأ”، وباشر العمل على المشروع مع رئيسة النادي لدعمها بكمية من العناوين للمباشرة في العمل، واختار له شعار “القراءة حياة”.
وهو المشروع الذي تبنى توزيع عدد معتبر من الكتب في مختلف المجالات والتخصصات، داخل مراكز إعادة التربية (السجون)، من خلال دوريات بمعدل مرة واحدة كل شهر، يتم فيها تسليم مجموعة من الكتب للمكتبات الخاصة بالمؤسسة العقابية.
ولهذا المشروع “هدف نفسي” -كما قال- من خلال “السهر على توفير العناوين التي تساعد المعاقبين على التحسين من نفسياتهم والاطلاع أكثر على حياة القراءة”، ومع ذلك لم يجد هذا المشروع طريقه للنجاح الذي كان يأمله صاحبه.
وختم بالقول “مع الأسف لم نجد أذنا صاغية لهذه المبادرة حيث إننا شاركنا بها في إحدى المسابقات الخاصة بمشاريع القراءة بإحدى الولايات”.
الجزيرة نت | 16 ديسمبر 2022.