حمزة الحاسي
كأي طفلٍ يتبع خُطى والده عندما يصطحبهُ لأي مشوار داخل المدينة، إلا أن تلك الجولة حفرت في مخيلتي أشياء شكلتني تشكيلاً روحياً منذ طفولتي.
كُنت في الصف الثاني ابتدائي وكان والدي على موعد مع شخصٍ ما لا أذكره، ولكن الذي أذكرهُ تماماً أننا دخلنا من الباب الشمالي من المدينة القديمة تحديداً “سوق الظلام” درنة.
هُناك حيثُ روائح البخور ومطاحن القهوة ولمعان الذهب والملابس العربية المطرزة، كُنت لا أعرف ما يدور ولكن هُناك تساؤلات أشتهيها وتشتهيني.
دخلنا إلى السوق ومنهُ إلى (البياصة الحمرا) حينها كنت لا أعرف المسميات، فقط أتفقد هذهِ الجدران العتيقة والشاهقة وهذهِ التصاميم التي تختلف كلياً على مباني المدينة الحديثة، كُنت أقول في نفسي هذي الجدران المحفورة لما لا يكون سطحها أملسا؟
غير أنني أدركتُ مؤخراً بأن التاريخ هو من يحفر ذاكرة الأماكن. كُنت بجانب والدي الذي أخذ كرسي وطاولة وسط تلك البياصة صُحبة صديقه الذي لا أذكرهُ إلى الآن. أراقب المارة بعيون وذاكرة وكأنها خارج الزمن، كُل شيء من حولي يبدو كلاسيكياً عتيقاً.
هُنا…أدركتُ أننا خارج الزمن وهذه المرة الأولى التي أشعر فيها بهذا الشعور.
بعد حين وقف رجلٌ آخر بجانب والدي الذي قابلهُ بترحيبٍ كبير كان طويل القامة ممشوق القوام كثيف الشعر صوتهُ جهور ويمتلك كاريزما عالية الجودة. لم يخطر ببالي شيء سوى أن هذا الشخص هو صاحب هذا المكان وهذه الأسوار الشاهقة وهذه القلعة الحصينة.
لا أعرف كيف تَمت ترجمة هذا المشهد في مخيلتي ربما يعود إلى أن هذا الشخص كان يختلف عن الجميع في لباسهِ وإطلالتهِ، والتفاف الناس من حولهِ جعلني أؤمن بأنهُ المسؤول هنا وكان الجميع يعرفه، يبدو لي من الوهلة الأولى أنهُ صاحب المكان أو حارسه.
تشكلت تلك الشخصية في ذاكرتي، حتى بعد سنوات كنت أمرُّ من خلال أزقة المدينة القديمة وعندما أراهُ ينتابني شعور أنهُ صاحب تلك الحصون والأزقة والجدران العتيقة، مضت سنوات وسنوات وأنا أحمل تفاصيل هذا الرجل الذي كان لافتاً للانتباه.
كان لذاكرتي موعداً آخرا دون أي ترتيب مع هذا الرجل عندما كُنت أشاهد التلفاز عبر المحطة الوحيدة آنذاك (التلفزيون الليبي)، لأراهُ بنفس القامة والهامة والحضور وهو على منصة يلقي بكلمة في إحدى المناسبات الوطنية. مما جعلني أثق جداً في تشخيصي بأنهُ صاحب ذاك المكان وحارسه.
لم تكن ذاكرتي كطفلٍ محض صدفةٍ عابرة بل ظلت أشياء عالقة في أقصاها منذ ذلك الموقف وأنا طفل.
مضى من العمر ما مضى وكنت حينها أشتمُ رائحة الكُتب وأتحسس شي من الشعر. ذات يوم ذهبتُ إلى إحدى المكتبات التي لم تكن بالبعيدة عن وسط المدينة، أقرأ عناوين الكُتب التي لم أشترِها لم أشترِ أي كتاب لأنهُ كان في جيبي دينار واحد فقط. فخفتُ أن ينزعج مني صاحب المكتبة لأنني كُنت دائماً أبحث في رفوف المكتبة ولا أشتري شيئاً.
فأخذتُ العدد الجديد من جريدة (الشلال) التي كانت تصدر كل يوم أربعاء في مدينة درنة.
دفعتُ ثمن الجريدة (نصف دينار)
وذهبت إلى مقهى (ميدان البلدية)
أذكر أن ثمن فنجان القهوة حينها كانَ يساوي (ربع دينار).
ولكن الأمر لم يكن بالشيء العادي ولا المكان الاعتيادي فَكُلِّ الذين يرتادون المقهى هم من المثقفين والمبدعين والفنانين.
طلبت قهوتي وفتحت الجريدة لأقرأ المحتوى، أول ما وقع بصري علي صورة رجل، هو نفسه الذي كان في ذاكرتي، نفس الملامح والتفاصيل، وتحت الصورة كان أسمه وأسم المقالة الأديب (محمد أسويسي).
هُنا عرفتُ اسمه وصفته ومن يكون، بعد فترة لم تكن بالبعيدة كُنت جالساً في أحد مقاهي البياصة الحمرا، كنت أنتظر صديقي الشاعر (مصطفى الطرابلسي).
جاء الطرابلسي ومعهُ الأديب محمد أسويسي وهذا أول لقاء يجمعني بهِ، وكان من صُنع الصدفة وغير مرتب، استرسل في حديثه عن الشعر والحركة الشعرية ثم انتقل بكل رشاقة إلى فن الرواية المحلية والعربية والعالمية، أستشهد بأعمال مسرحية لضرب أمثلة في عمق الرواية ثم أماط اللثام عن مدى إدراكه وعبقريته في مجالهِ الذي كنت لا أعرفهُ حيث دخل في تحليل مدارس الفن التشكيلي وبداية تأسيس هذا المجال من بداية الرسم على الكهوف مروراً بحقب تاريخية في عدة حضارات وأبرز المذاهب التشكيلية وتعمق في أسباب تطوير هذا الفن الذي كُنت وقتها أجهله تماماً.
لم يخطر ببالي شيء حينها إلا أنني أقف أمام قامة فكرية وثقافية وإبداعية كبيرة جداً، ويجب علىّ أن أنصت فقط وأستفيد.
انتهى اللقاء الأول وأنا أقف على حافة الدهشة وأقول في نفسي كيف لي أن أخبرهُ عن موقف قديم سنة1990.
وهل سيذكر ذلك الموقف؟
مضت أشهر قليلة والتقينا مُجدداً هُنا عرف بأنني أكتب الشعر فقال لي بِكل تواضع واهتمام هذهِ المرة أريد أن أسمع منك شعرا.
قُلتُ لهُ سأسمعك ولكن قبل الشعر _أريد أن أسألك؟
_ما علاقتك بهذا المكان؟
أقصد (المدينة القديمة)
فأجابني بإجابتين وقال:
_الأولى: أن هذا المكان يسكنني وأسكنهُ.
_والثانية: حدثني أنهُ في زمنٍ ما كان أحد المسؤولين عن المدينة القديمة بِحكم أنهُ فنان تشكيلي وأنهُ كان لهُ رؤية صادقة بأن ترمم المدينة القديمة ويعاد صيانتها بمواصفات لا تختلف عن التاريخ.
كلا الإجابتين أتت أكلهما في خاطري
وقال لي لِمَ سألت فقلت لهُ لا شيء فقط لمجرد السؤال.
لم أستطع أن أخبره عن تلك الذاكرة ولا ذلك الموقف الذي لربما لا يذكرهُ إلى الآن.
ثم أسمعتهُ بعضاً من قصائدي وقال عليك أن تداوم هنا معنا أو في (بيت درنة الثقافي) الكنيسة سابقاً.
ذلك الأديب أصبح صديقي منذ ذلك الوقت ولم يُدرك أن لي موقف معهُ في طفولتي. مرت تلك السنوات سريعاً سريعاً، ما بين لقاءات وأمسيات ندوات ومهرجانات إلى أن جاءت سنة 2016.
حيث كانت المفاجأة… وكان لي موعد مع أول دراسة انطباعية حول نصوصي التي كُنت أكتبها آنذاك
غير أن هذه الدراسة جاءت بقلم العبقري الأديب محمد أسويسي وهو أول من كتب عن نصوصي.
ربما كانت هذه الدراسة بالنسبة لي نقلة من مكان إلى مكان أو قُل إن شئت من شخص إلى شخص
غيرت كلياً من رؤيتي وأسلوبي في الكتابة.
بعدها بسنوات أصبحنا في فترات ما من عُمر المدينة نتقاسم أوجاعنا على هيئة سلام أو هدنة لنخفي آلام المدينة بعيداً عن صوت المدافع والحرب، ولكن كانت للحرب كلمة وكان للدمار نشاز باقٍ في ذاكرتنا إلى يومنا هذا.
لك أن تتخيل سيدي القارئ أن كل ذلك الجمال والأماكن التي لم تؤذِنا يوماً وكل تلك الأسوار العتيقة وتلك الأزقة وحتى القصائد واللقاءات والأمسيات أصبحت ركاماً على كتف ركام
إنها الحرب التي كسرت في خوافقنا السلام وقهرت القصائد بالجنازير والمدفعية وانطفأت موسيقانا على وتر صوت الطائرات.
ثم ماذا؟
تلاشت سُرة المدينة وقباب المسجد العتيق وشيءٌ من أحلامنا وانكسرت مرايانا وبُح الصمت في حناجرنا، ومضى ما مضى من الوقت إلى أن وضعت الحرب أوزارها بعد أن سويت المدينة القديمة بالأرض وأصبحت خاوية على عروشها إلى وقتنا هذا، كنت حينها أتجنب المرور من تلك الأماكن.
غير أن للقصيدة موعداً مع روح المكان، أذكر أنني كتبتُ نصاً بعنوان (كأنها المدينة) كُنت أحاول أن أغازل درنة المكان والحلم الأرض والتاريخ لم يخطر ببالي أن أغازل جراحها.
هذا النص الذي كُتب إلى المدينة القديمة كان مرتبطاً ارتباطاً كاملاً بالأديب (محمد أسويسي)، حتى عندما أرى محمد أسويسي يخطر ببالي النص، وعندما أقرأ النص يخطر ببالي محمد أسويسي، لا أعرف سر ذلك الارتباط تحديداً ولكن كل الذي أعرفهُ أن أسويسي إلى الآن لا يعرف أنهُ كان يوماً ما راهباً للمدينة القديمة في نظر ذلك الطفل الذي خذلتهُ الأحلام وشفي بالقصائد والحرف، ولربما لم يعرف بالمطلق إلا عند قراءة هذه القصة، التي أتمنى أن تكون برداً وسلاماً على المدينة وراهبها.
_________________________________________
قصيدة : (كأنها المدينة)
حمزة الحاسي
عندما تكتشفُ
عطراً في القصيدة
تفوح السنابلُ
وعندما تُلقيها تُغازلك المدينة
لستِ قديمة بحجم تلك الذكريات
ووشوشات مثقفيك
وأسوارك المحفورة
بِقطر المطر
لأنكِ الشعرُ أبوح إليك
حتى أحلامي الصغيرة
لاتكتفي بهذا الحنين المُشرد
أنا الليلة… لن أكون على عتباتِ مقاهيكِ
ولا نوافيركِ الصغيرة
ولا عِند الوكالة(*)
سأُلملمُ من صوتِ الرصاص إيقاع انتظار
الأزقة منسية… لم تكن منسية
كانت هُنا
بين أصوات القنابل والجنازر والمدفعية
دماء الجنود المنسية… نعم منسية
خلف أصحاب الكراسي والفخامة والمعالي
كل يومٍ أكتبكِ وطنٌ في جوازي
ويسرقكِ الغزاة
فكيف لي أن أعشقك
دونما أشعرُ بِشروقِ شمسك المزعوم
ياقباب العتيق
يارائحة الرُّكام
خبئيني وراء ليلك الفاضح
بالخيانات والمؤامرات وبيع الذمم
ياسُرة المدينة
ياواهبة الشعر والكتابة
كُلما عُدتُ إليكِ
يستوقفني وهم
للكبر تجاعيد
مثل الجبال والأشجار والبشر
وعند شلالِكِ دوي انفجار
يئنُ بالصدى
هُنا وقفتُ وحدي
لأكتب جملة أقوى من صوتِ الحروب
أعظم من التاريخ
أهدأُ من لذةِ القبلِ
حي على السلام…حي على السلام
هنا… صرختُ في المدى
وفي حُنجرتي ألفُ وطن
وفي خافقي ألفُ حُلم
هُنا… عرفتُ نفسي من أنا
عرفتُ نفسي من أنا.
2018.
(*)_ الوكالة: وهو مكان داخل المدينة القديمة تحديداً في (سوق الخرازة) أحد الأزقة المُطلة على البياصه الحمرا وهي ملك لسيدي عبد الوهاب الطرابلسي الذي دعم حركة الجهاد الليبي مع سيدي أحمد الشريف وأنور باشا وسُميت آنذاك بحركة الضباط الأتراك سنة 1912.
والجدير بالذكر أن سيدي عبد الوهاب الطرابلسي هو والد الفنان المسرحي أنور الطرابلسي رائد المسرح في ليبيا.
الصورة المرفقة: يظهر الأديب محمد أسويسي ليكرمني بعد أمسية شعرية في اليوم العالمي للغة العربية الذي أشرفت عليه جامعة عمر المختار درنة.
_فندق اللؤلؤة 2018.
_عدسة المراسل: ابراهيم غضبان.