كاريمان صقر
في الفترات المزدهرة من تاريخ الحضارة الإنسانية -” الإسلامية”، وازدهار حركة العلوم والمعارف على اختلاف أنواعها والتى امتدت ظلالها على مختلف أنحاء العالم ومنها ما نعرفه من أثرها على العالم الأوروبى وانتقال العديد من المعارف عن العرب إلى هناك وإلى مختلف البقاع من العالم مع مرور الزمن ومن ضمن مظاهر هذه الفترة الذهبية ازدهار حركة التأليف و الترجمة عن مختلف اللغات آنذاك ولمختلف أنواع الكتب.
أحد أشهر هذه التراجم والكتب المترجمة إلى العربية الكتاب الشهير ” كليلة ودمنة ” والمترجم بالعصر العباسى وتحديدا كما ذكر بالقرن الثانى للهجرة / القرن الثامن الميلادى والذى قام بترجمته إلى العربية الكاتب الفارسى – “عبدالله ابن المقفع”..
كتاب القصص المصورة ” كليلة ودمنة ” من أحب واشهر كتب القصص المرغوبة إلى يومنا هذا، والترجمة العربية هى ليست الترجمة الأولى للكتاب الأصلى والمشتقة منه مع بعض الاضافات..
فالترجمة العربية مشتقة من [ بنجاتنترا و مهابهاراتا – Pañcatantraand & Mahãbhãrata ] الهندية أو كما عرفت باسم [ الفصول الخمسة للحكمة.]. أى ان أصول الكتاب- هندية، وقد كتبت آنذاك باللغة السنسكريتية وذلك حوالى مابين ” 200 CE – و 500 AD”..أول القرن الاول الميلادى.، وببعض المصادر ذكر أن الترجمة العربية جاءت عن أول ترجمة فارسية للكتاب، وفي هذا ميل للصواب على اعتبار أن ” ابن المقفع” هو فارسى الأصل والفارسية لغته الأم.
وقد ورد فى مقدمة ترجمة ” شاندرا راجان” لهذا الكتاب (بنجاتنترا و مهابهاراتا) أن الترجمة عن اللغة السنسكريتية بدأت تنتقل بهذه اللغة من موطنها الأصلى عبر الترجمة لهذا الكتاب وغيره من الكتب الهندية إلى بقية الأراضى والبلدان أوائل القرون الميلادية، مثل كتاب” الفصول الخمسة للحكمة ” هذا الذى ذكر ان حركة ترجمته بدأت قبل” 759 م ” أى بالقرن الأول الميلادى.
وأول ترجمة لهذا الكتاب ” الفصول الخمسة “
كانت إلى” اللغة الفهلوية- الفارسية -(ايران الوسطى) ” Pahlavi / middle Persian ” أوائل القرن 6 م بأمر من إمبراطور الفرس ” كسرى الاول – Khusraw Anūshīrwan – الذى حكم بين 550 – 578 م “، والذى أعجب بالكتاب وبمحتواه، وكانت الترجمة للفارسية عن طريق (Burzöe أو Barzawayh – برزويه)و[برزويه هو عالم،مترجم، فيزيائي، كاتب وسياسى فارسى، عاش أواخر العهد الساسانى فترة حكم كسرى الاول ]، وقد فقدت هذه النسخة المترجمة للفارسية فيما بعد، كما فقدت أيضا النسخة الأصلية السنسكريتية. ومن حسن الحظ وكما ذكرت بعض المصادر أن يتمكن “ابن المقفع” من القيام بترجمتها إلى اللغة العربية قبل أن تفقد النسخة الفارسية المترجمة ولتصبح ” كليلة ودمنة لابن المقفع” أحد أهم أعمال النثر بالأدب العربى.
ثم ظهرت عام 750م الترجمة السريانية للكتاب عن طريق رجل دين يدعى ” Bud ” وجعل عنوانها “كليلة ودمنة -[ Kalilag wa Dimnag ] وهما اسمان أطلقا على اثنين من ” ابن آوى ” والتى تدور على لسانهما قصص الكتاب..ثم جاءت نسخة الترجمة العربية بالقرن الثامن الميلادى عن طريق الفارسى ” عبد الله ابن المقفع ” [ زرادشتى تحول الى الاسلام عام 750م، واسماه (كليلة ودمنة – Kalila wa Dimna ) وفى ترجمته ونسقه فى كتابة فصول الكتاب أضاف من عنده قصصا إضافية الى القصص الاصلية والتى تستمد جذورها من التقاليد الهندية والفارسية إذ أنه النسخة الهندية الاصلية والتى كما سبق الذكر كان اسمها الأصلى (الفصول الخمسة للحكمة) كانت تضم عددا من القصص، إلا أنه ومع كل ترجمة للغة ما، كان يتم اضافة عدد من القصص من قبل المترجم، ومنهم ” عبد الله ابن المقفع ” وكان كاتبا على درجة عالية من التعليم، وصاحب مكانة فى بلاط الحكم، ومن نسخة ترجمته اشتقت الكثير من التراجم فيما بعد باللغات الأوروبية والشرقية على مدى القرن العاشر والرابع عشر الميلادى
وقد جاء بمقدمة الكتاب ” كليلة ودمنة ” أن الحكيم الهندى ” بيدبا – Bidpai ” ألفه لملك الهند ” دبشليم ” وقد جاء الكتاب بمثابة ” مرايا الأمراء” بحيث كانت تحمل تعليم الأخلاق والآداب للأمراء من خلال قصص تدور على لسان إثنين من ” ابن آوى ” ومستخدما فيه الحيوانات والطيور كشخصيات رئيسية فى قصص الكتاب،وتحمل الكثير من الحكم والطرائف والدلالات والتى تعكس معانيها على البشر وتأتى في صور نقدية على سلوكيات مختلفة سواء سلبية أو إيجابية. ويمكن إسقاطها على الأوضاع السياسية والاجتماعية وغيرها مما جعل هذا الكتاب مازال متداولا ويستدل به إلى اليوم.
إحدى القصص التى جاءت بكتاب “كليلة ودمنة” قصة ” الحمار والبردعة”، والتى ترتبط بمثل عربى شهير نسمعه ويتداول إلى يومنا هذا وهو بالعامية ” ماقدرش على الحمار قدر أو(تشطر) عالبردعة ” !!
والقصة…يروى أنه كان هناك حمارا مؤذيا يسبب الأذى الكثير كلما دخل السوق لأحد البلدات، فيبدأ فى رفس الناس، ويعض آخرين ويطرح من يصادفه أرضا، علاوة على إتلافه لبضائع الباعة وبسطاتهم، ويأكل الخضروات التى يبيعونها، ويكسر جرار الفخارين ويعبث بالمكان طولا وعرضا،مما يجعل أهل السوق ولينالوا منه ينهالون بالضرب المبرح على بردعته منفسين وصابين جل غضبهم على بردعة الحمار المشاكس.. ظنا منهم أن الحمار سيتأدب ويغير من طبعه الشرس، إلا أن الحمار لايتغير وفى كل مرة يكرر أفعاله المؤذية.. وفى كل مرة ينهالون بالضرب على بردعته ضربا مبرحا.. ولما رأوا انه لم يتغير..توصلوا إلى أن الحل قد يكمن فى تغيير بردعته !!،فربما إذا غيروا البردعة يتغير سلوك الحمار !!،..وغيروا البردعة..ولم يتغير سلوك الحمار المؤذى… واستمروا بضرب البردعة دون فائدة فى كل مرة دون أن يفكر أحدا أن المشكلة فى الحمار نفسه وليست فى البردعة التى يحملها فوق ظهره..!!، واستمر الحمار كما هو فى سلوكه المؤذى لسنة وراء سنة، وفى المقابل بكل مرة كان أهل السوق يغيرون فيها البردعة…..حتى صارت مثلا… (ماقدرش على الحمار..تشطر على البردعة.)..والذى قد يتغير لحد ما حسب لهجة كل بلد..ويضرب لكل من يلتف حول المشكلة ولايعرف مصدرها الرئيسى ليعالجه،وبدلا من ذلك يوجه طاقته ويسدد خططه فى غير الاتجاه والهدف الصحيح فيظل كمن يدور فى دائرة مغلقة ويتخبط فى المشكلة دون مخرج…