شخصيات

هؤلاء حدثوني… محمد عبد السلام الجفائري. المفكّر المنسي

د.الصديق بشير نصر

الذكرى الـ25 لوفاة الأستاذ محمد عبدالسلام الجفائري

الكاتب محمد عبدالسلام الجفائري
الكاتب محمد عبدالسلام الجفائري

أتدرون ما النبلُ؟ لقائلٍ أن يقولَ: ما أيسرَ الجوابَ! إنه “خُلُقٌ رفيعٌ يسمو بصاحبه”… ولكن، هل قابلتَ النّبلَ يوماً؟ أمّا أنا فأقول: لا يَعرِفُ النّبْلَ من لم يُصاحبِ النبلاءَ. وإنني لسعيدُ الحظّ أن قابلت في حياتي نفراً من النبلاء. ونفرٌ في اللغة لا تُطلق إلا على من هم دون العشرة. وقد ذكر الحريري في (دُرّة الغواص في أوهام الخواص): “وَيَقُولُونَ: هم عشرُون نَفراً وَثَلَاثُونَ نَفراً، فيوهمون فِيهِ. لِأَن النَّفرَ إِنَّمَا يقع على الثَّلَاثَة من الرِّجَال إِلَى الْعشْرَة، فَيُقَال: هم ثَلَاثَةُ نفَرٍ، وَهَؤُلَاء عشرَةُ نفَرٍ، وَلم يُسمَع عَن الْعَرَب اسْتِعْمَال النَّفر فِيمَا جَاوز الْعشْرَة بِحَال”.

وهكذا شأن النبلاء، في كلّ مكانٍ وحينٍ، هم نفرٌ قليلٌ من الناسِ في حياةِ بعضٍ منا، سَعِدَوا بصحبتهم والاجتماع بهم. ولا يُسمى النبيلُ نبيلاً حتى تُتوّجَ هامَه محاسنُ السّجايا ومكارمُ الأخلاق. ولقد أحسن الأستاذُ عبد الرحمن البرقوقي، أحدُ أدباء مصر حيث علّل في كتابه (الذخائر والعبقريات) وجودَ النبلاء في المجتمع بأنه “الذي يحسّن ظنّنا بالحياة، ويجمّلها في أعيننا، ويجعلها محتملةً مطاقة، لا كما نرى اليوم”.

وأقول: “وجود النبل في المجتمعات علامةٌ على أنّ الخير لا ينقطعُ”. والنبلُ في لغة العرب: ” الشمائلُ الحسنةُ وجماع ُمكارمِ الأخلاق “، وغايةُ المرء أن يكون نبيلا. وقد جاء في الحديث: ” إنما بُعثتُ لأتمّمَ مكارمَ الأخلاق ” أخرجه البخاري في (الأدب المفرد)، والبيهقي في (السنن الكبرى)، وأحمد في مسنده، وابن عساكر في (تاريخ دمشق)، والحاكم في مستدركه وقال عقبه: “صحيح على شرط مسلم” ولم يخرجه. والمتأمّلُ يدرك الحكمةَ في الإتيان بأداة الحصر (إنما) في صدر الحديث، فكأنما حُصِرت بعثته عليه السلام في إتمام مكارم الأخلاق. وقد أردت من هذا الاستطراد أن أُدخِلَ في رُوعِ القارئِ الكريمِ قيمةَ النُّبل الذي هو جِماعُ مكارمِ الأخلاق، لتتبيّنَ له صورةُ الشخصيةِ النبيلةِ التي سأعرِضُ لها

في عام 1979 دخلتُ إلى مكتبة الأوقاف ومقرّها بباب الحرية بطرابلس برفقة أستاذي وشيخي وصديقي الشيخ الدكتور محمد الطاهر المقوز حفظه الله وأمدّ في عمره، ولم أكن أعرف يومها هذه المكتبة، وكنتُ أظنّ أنّ مكتبةَ مصطفى قدري معروف التي تقع اليوم خلف مدرسة علي وريت الثانوية والتي كانت تُعرف قديماً بمكتبة الولاية التي أنشأها الإيطاليون هي مكتبة الأوقاف وليس الأمر كذلك. فمكتبة الأوقاف هي أول مكتبة عامة تم افتتاحها في عام 1898م (1316هـ) في طرابلس الغرب في عهد الوالي نامق باشا. وكان نواتها شراءَ مكتبة مفتي طرابلس آنذاك العلامة الشيخ محمد كامل بن مصطفى، وقد تبرّع الوالي ومشير الولاية بشراء مائة مجلد، وأُرسِلت قائمةٌ بها إلى استانبول لشرائها لعدم توفرها في طرابلس الغرب. وفُتِح باب التبرّع بالكتب، ودعت الصّحفُ الأعيانَ والعلماءَ لدعمِ أوّل مكتبة عامة في البلاد، ونُشِرت في صحيفة (الترقّي)، التي كان يُصدِرها الشيخُ محمد البوصيري. أوّلُ قائمةٍ بأسماء المتبرعين الذين كان من بينهم العلامة الشيخ عبد الرحمن البوصيري الذي تبرّع بعدد كبير من الكتب مثل: مُعْرَب الكافية، وحاشية العصام على المولى الجامي، وحاشية كشف الأسرار على العصام، وحاشية عبد الغفور على الجامي، وحاشية السيالكوتي على البيضاوي، وحاشية جلبي على التلويح، ومعرب الإظهار لزيني زاده، والفروق لشهاب الدين القرافي.

وضُم إلى مكتبة الأوقاف ما كان وقفاً من الكتب على مدارس الولاية حفظاً لها من الضياع، مثل مدرسة مصطفى الكاتب، ومكتبة أحمد باشا القره مانلي، ومكتبة عثمان باشا الساقزلي، ومكتبة أحمد النائب الأنصاري. وقد أعيد افتتاحها في عام 1939، واتخذت لها مقراً جديداً في باب الحرية. وتوالى على إدارتها عدد من خيرة مثقفي البلد أمثال أحمد الفقيه حسن، والشاعر أحمد قنابة. وكان آخرهم الأستاذ الكاتب والمفكّر محمد الجفائري. وفي عام 1984 على ما أذكر نُقِلت جميعُ محتويات المكتبة إلى مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية. وقد أحسن القائمون على المركز إذ حافظوا على مكتبة الأوقاف من الضَّياع، وإن لم يسلم إلى حدٍّ ما بعضُ محتوياتها من النهب أثناء نقلها إلى المركز. والناظر في فهرست المكتبة يجد بطاقاتٍ عن كتبٍ لم يبق لها أثرٌ . وقد أحسن مركز الجهاد إذ أبقى على الفهرست كما هو حتى يسهلَ على الباحثين الرجوعُ إليها كلما عنّ لهم ذلك. وتحتفظ مكتبةُ الأوقاف بالصحف الليبية القديمة التي كانت تصدر في طرابلس الغرب مثل: الرقيب العتيد، وطرابلس الغرب، والترقي، والمرصاد، والأسد الإسلامي، فضلاً عن الصحف العربية التي كانت تصدر في مصر والشام، وكان يتزاحم على قراءتها المثقفون في تلك الحقبة، ومنها مجلة الرسالة التي كان يرأسها الأستاذ أحمد حسن الزيات، ومجلة المجمع العلمي العربي بدمشق والذي حُوِّل اسمُه فيما بعد إلى مجمع اللغة العربية. وهو أوّلُ مجمع في العالم العربي، وقد سبق في تأسيسه مجمعَ فؤاد الذي حُوّل اسمه أيضاً إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

في تلك الزيارة إلى مكتبة الأوقاف العريقة والتي كانت بمعيّة الدكتور محمد الطاهر المقوز، وقبل أن تُضمّ إلى مركز الجهاد، كان أوّل لقاءٍ جمعني بالأستاذ محمد الجفائري أمين المكتبة… رأيتُ يومها رجلاً وقوراً ، مُشرقَ الوجه، ربعَةً في الطولِ، ذا شعرٍ أسودَ فاحمٍ لم يخُطه الشيبُ بعدُ، يضع نظارةً على عينه. استقبلنا بحرارةٍ حسِبتُها يومئذٍ إكراماً لشيخنا الفاضل د. محمد المقوز، وإن أصابنا شيءٌ منها لمصاحبة ذلك العالم الفاضل، غير أنّ هذا الحسبان ما لبثَ أن تبدّد مع مرور الزمن، إذ أيقنتُ أنها فضيلةٌ فيه وخلقٌ يلازمه مع أهل العلم وطلبته.

كان يجلس عادةً على مقعده في مدخل المكتبة، فلا تراه إلا قارئاً كتاباً أو مُقلّباً صحيفةً أو مجلّةً، وقد فرضت شخصيتُه ورزانتُه احترامَه على الجميع: موظفين ورواداً للمكتبة. وظلّت هذه الصورة لصيقةً به حتى عندما انتقل مع مكتبته إلى مركز حهاد الليبيين للدراسات التاريخية…. كان رجلاً مهيباً مع أنه منشرحُ الصدرِ، منفتحُ القلبِ والعقلِ لا يضيق بزائره ولا يتبرّم حتى بات مكتبه في مركز الجهاد نادياً أدبياً يختلفُ إليه كلُّ من أدركته حِرفةُ الأدب والفكرِ على اختلاف مشاربهم وأهوائهم. وكأني بهذا الأستاذ الجليلِ هو مرادُ الشاعر بقوله:

ولو لم يكن أدرى بما جهل الورى. .. من الفضل لم تُنْفَق عليه الفضائلُ

لئن كان منّا قابَ قوسٍ فبيننا. .. فراسخٌ من إجـــلاله ومراحـــلُ

توطدت صلتي بهذا الرجل النبيل مذ ذاك اليوم وحتى اختاره الله إلى جواره في السابع والعشرين من شهر ديسمبر من عام 1997 ، وبذلك يكون قد مضى على وفاته حتى اليوم عشرون سنة، هي عندي كأنها يومٌ أو بعضُ يومٍ. كانت وفاته فاجعةً، وإن كان المؤمن لا يلقى قدرَ الله إلا بالصبر والدعاء، ولكنه موتُ الفَجأة الذي نستعيذ منه، لأنه وإن كان راحةً للمؤمن إلإ أنه “أخذةُ أسفٍ للفاجر” كما جاء في الأثر الشريف، فهو يحرم صاحبَه من الوصيّة، وردِّ المظالم إلى أهلها، وَتركِ الاستعداد للمعاد بِالتَّوْبَةِ وَغَيرِهَا من الْأَعْمَال الصَّالِحَة. مررت صباح ذلك اليوم بمركز الجهاد أقصد مكتب الأستاذ كعادتي، وكنّا نعدّه نادياً أو صالوناً أدبياً نُعرّجُ عليه كلما ساقتنا أقدامنا إلى المدينة لقضاء حاجةٍ ما، أو جئناه قصداً. فالصالون الثقافي في مكتب الجفائري بمركز الجهاد للدراسات التاريخية كان يرتاده نخبة من المثقفين، أذكر منهم الأساتذة: فؤاد الكعبازي، علي حسنين، علي مصطفى المصراتي، شمس الدين اعراب، محمود التايب، نور الدين النمر، عمار اجحيدر، إبراهيم الشريف، عمرو بغني، وآخرين لا أذكرهم.

وكان يقول لي صديقي الأستاذ نور الدين النمر: “إذا كنت فقدتَ شخصاً ما من أرباب الثقافة ولم تره منذ أمدٍ بعيد فما عليك إلا أن تجلس بعض الوقت في مكتب الأستاذ محمد الجفائري، إذ لا يبلث أن يمرّ صاحبك الذي تفتقده”. وكأنّ صديقَنا نورَ الدين يستدعي صورةً تاريخيةً قديمةً للخان حيث يجتمعُ الغرباء، ويَنشُد كلّ غريبٍ صاحبَه. والمثقفون في بلادنا غرباء داخل الوطن.

في تلك الصبيحة كان مكتب الأستاذ موصداً على غير عادته، فجلسنا في انتظاره في مكتب الأستاذ المرحوم عمرو بغني، ولم يدم انتظارنا طويلاً حتى قرع جرسُ الهاتف، فتناوله الأستاذ عمرو الذي أصيب لهول المفاجأة بالخرس. لقد قضى الأستاذ نحبه. إنا لله وإنا إليه راجعون. كيف؟ متى؟ أين؟ أسئلةٌ لن يردّ جوابُها ما جرى به القلمُ. كنتُ معه في بيته عشيةَ أمسِ، وكنا على موعدٍ هذا الصباح.

ما كان يخطرُ على البال هذا الفراقُ المفاجئ مع أنّ الموتَ مدركنا ولو كنّا في بروجٍ مشيّدةٍ. إنه الموت مفرّق الجماعات وهادمُ اللذات. وما عرفتُ يقيناً لا يخالطه شكٌّ أبداً كاليقين بوجود واجبِ الوجود، والموت الموصوف في القرآن باليقين {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، وحقيقة البعث {إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ}… لقد تصرّم عِقدُ ذلك النادي الذي كان يضُمنا بوفاة ذلك الرجلُ النبيلُ.

في مأتم الأستاذ محمد الجفائري كان يتطرّق إلى سمعنا ونحن جلوس ترحّمُ بعض المعزين على محمد نبيل، فتساءلنا: من محمد نبيل؟ ألسنا في مأتم محمد عبد السلام؟ . اقترح أحد الحاضرين أن نسأل ولا نفوّت ذلك، وأظنّ أن صاحبَ الاقتراح هو الأستاذ عبد الناصر انفيص الذي قام باستدعاء أحد أقارب المرحوم وأظنه أخاه، فأجابنا: محمد عبد السلام الجفائري هو محمد نبيل عبد السلام الجفائري. كانت تلك المرّة الأولى التي أعرف فيها وصحبي هذا. وسألناه: ما سرّ هذه التسمية التي لا يعرفها كثير من الناس؟ قال: ” حينما كان الأستاذ محمد صبياً بدت عليه مخايل النجابة، وكان أحد الفضلاء يناديه بمحمد نبيل. فارتاح أهله لهذه التسمية وصار الاسم عَلَماً عليه إذ كانوا يتوقعون له مستقبلاً باهراً، كأن يكون رئيساً أو وزيراً أو مديراً، وقد أكرمه الله بما هو خيرٌ من كلّ ذلك جميعه. فهو (النبيل) الذي أوتي من كلّ فضيلةٍ حظاً.

حصيفٌ قضى دنياهُ في خوف ربهِ … فحدّثْ ولا تطلب لأفضالهِ حدّاً

وكم من أيــــادٍ جــــاءها ومكارمٍ … فكانت بجيد الدهرِ من فضلهِ عِقدا

جــــديرٌ بأنَّ الفـــخرَ يشكو فـــراقهُ … ومنهُ رواق الفــخر قد كــان ممتدّاً

في العشرين من شهر مايو المنصرم، وقبيل حلول رمضان المعظم، كنت في زيارةٍ عجلى إلى المحروسة لم تستغرق إلا بضعةَ أيامٍ لقضاء بعض الحوائج المعلّقة، وبالطبع لم تُقضَ إذ عدتُ من الغنيمةِ بالإياب، فاغتنمتها فرصةً لأطرق باب الأستاذ الجفائري لعلني أحظى بلقاء ولده فأعثر عنده على سيرته الذاتية بالتفصيل. وأعلم أنّ الأستاذ الجفائري لم يخلّف من الذرية إلا هذا الولد وبنتاً قد تزوجت بعد وفاة أبيها. طرقتُ باب الشقة رقم 2 التي كان يقطن فيها الأستاذ وأهله في عمارة خلف مبنى جهاز المراسم بمحلة سيدي بن سعيد، وهي لا تبعد كثيراً عن مركز الجهاد. وقد جالستُ الأستاذ في صالون هذه الشقة مراتٍ عديدة وكانت تضمّ مكتبة متواضعة، فسألته ذات يوم: أهذه كلّ مكتبتك؟ فأجابني: كلا. إنها داخل الشقة وموزعة على حجراتها لضيق المكان، ولمنع الفضوليين من الاقتراب منها، خاصةً وأنّ الأستاذَ كان قديمَ العهدِ باقتناء الكتب على ضيق ذات اليد. وقد رأيتُ عنده كتباً تُعدّ من نوادر المطبوعات. لم يكن الأستاذ بخيلاً في إعارة كتبه، ولكنه كان حريصاً على ألا يعيرها لمن لا يعرف قدْرَها. وكنتُ اذكّره بالمقولة الشهيرة التي تجري على لسان المصريين: “عبيطٌ من يعير كتابه. وأعبط منه من يعيده إليه”. وكان الأستاذ يضحك من ذلك ملء فيه، وكأنها أعجبته. وأظنه سألني عن مصدر هذه العبارة، فقلت له: سمعتها من الشيخ محمود صبحي، وأخبرني أنه سمعها من الشيخ عبد الحليم محمود وكانت له به صلة متينة رحمهما الله جميعاً.

وأذكر أنني سألته حينما ابتاع هذه الشقة: أمن شقّةٍ إلى شقّة؟ فقد كان الأستاذ يقطن في شقةٍ أخرى فما باله خرج من الضيق إلى الضيق؟ فأخذ رحمه الله يظهر لي محاسن هذه الشقة الجديدة. أولاً: قربها من عمله، وهو لا يحتاج إلا بضع دقائق يمشيها راجلاً إلى مقرّ عمله بمركز الجهاد، خاصة وأن الأستاذ رحمه الله ليست له سيارة وليست له رخصة قيادة. ثانياً: هي أرحب من الأولى. وثالثاً: هي في الطابق الأرضي. ورابعاً: هي تكفيه وعائلته الصغيرة. ورابعاً: هي مِلْكُه، والأخرى شِرْكةٌ بين الورثة ، وخامسة: هي في قلب المدينة حيث اعتاد أن يعيش، واعتاد سكانها رؤيته يمشي في شوارعها، ويذرع طرقها جيئةً وذهاباً حتى بات جزءاً منها، وباتت جزءاً منه. كان يسوق إليّ تلك المحاسن جذلان فرحاً وكأنما حِيزت له الدنيا بما فيها.

طرقتُ بابَ الشقة، لكنني لم أسمع جواباً. ولعلّ ساكنيها وسّع الله عليهم، فأخرجهم من ضيقٍ إلى سَعةٍ، فتركوها إلى غيرها، أو لعلهم لم يسمعوا قرعَ الباب، أو لم يكونوا موجودين بداخلها وقتئذٍ. قفلت راجعاً غير نادمٍ، ولسان حالي يقول: “لعلي أحظى بسيرته الذاتية أو بعض المعلومات عنه في مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية حيث كان يعمل”. وقد تحصّلتُ بالفعل على شيء من ذلك وإن كان متواضعاً جداً، فأكثرُ ما فيه معلوماتٌ لا أجهلها، ولكن حسبي أنني تحصلتُ على صورتين للأستاذ وهو يلقي محاضراته في الموسم الثقافي الذي اعتاد المركز أن ينظّمَه كلّ عام. كانت لي صور تجمعني به في تلك المواسم الثقافية، لكنني لم أعثر عليها في مكتبتي الخاصة التي تعاني من فوضى بسبب ابتعادي عنها كلّ هذه السنين.

كان الأستاذ الجفائري نموذجاً عملياً للعالم الزاهد والمفكر القنوع الذي لا يستثيره ما في أيدي الآخرين. وقد أحسن ابن السماك إذ عرّف الزاهد بقوله: “الزاهد الذي إن أصاب الدنيا لم يفرح، وإن أصابته الدنيا لم يحزن، يضحك في الملا، ويبكي في الخلا”. أكاد أقطعُ بأنّ هذا الإنسان ما خُلِق للدنيا، ولو كان من طلابها لجاءته تسعى، فقد قنع بحياته ونصيبه منها ولم يلوثه نظامُ الاستبداد الذي أرهق البلادَ والعبادَ، بل لم يقترب أبداً من عالمه الطاهر، وأحسبُ ذلك عطاءً غير مجذوذ، منّاً من الله وقضلاً، في الوقت الذي كان نظراؤه يتزاحمون على الفتات المتساقط من موائد المستبدين، أو ممن لا يشبعون من نهش لحوم العباد فوجد فيهم ذلك النظامٌ الغابر حاجته. وها نحن اليوم وبعدما أفلت شمس تلك الحقبةُ الأثيمةُ نسمع مَن يعتذرُ ممن ركبوا ركابها وتمسحوا بأعتابها بأنهم أجبِروا على ذلك والله تعالى لم يستثن بهذه الذريعة والاحتجاج الهزيل آل فرعون من العذاب وهم أهله وجنوده، فقال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ۙ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ۚ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}، ولم يسلم كذلك من كانت قلوبُهم غُلفاً واتبعوا كُبراءَهم على غير هدى {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}.

أذكر أنني قلتُ معلّقاً عليه في إحدى محاضراته بالموسم الثقافي وكانت عن (أديب العربية الكبير الأستاذ محمود شاكر): “أشهد أنني ما سمعتُ الأستاذ الجفائري يتكلم في عرضٍ من عروض الدنيا، إلا أن يحدثني عن كتابٍ جديدٍ اشتراه، أو قديمٍ قرأه. وكأنما الدنيا مُسِحت من ذاكرته”. ليس ذلك إعراضاً عن مباهج الدنيا ولكنه الانشغال بالآخرة، وكأني به يتمثل بقول الشاعر:

أُفٍ لدنيا ليست تواتيني … إلا بنقضي لها عُرى ديني

عيني لجنبي تدير مقلتها … تريد ما ساءها لترديني

وبمناسبة ورود ذكر الأستاذ محمود شاكر، أذكر أنّ الأستاذ محمد الجفائري سألني عن رحلتي إلى الولايات المتحدة في عام 1981 وماذا جنيتُ منها؟ قلتُ له يومها: “أصدقك القولَ. لقد نزلتُ بعض الوقت في نيويورك، ولم أشعر بانقباضٍ في حياتي قَدْرَ ما شعرتُ به فيها، وقد خالطني الشعور ذاته حينما وصلت مدينة هيوستن بولاية تكساس، وهي مدينة الصناعات النفطية، فلم أري فيها إلا العمارات الشاهقة ذات الواجهات الزجاجية، فكان حالي أشبه بحال ميخائيل نعيمة حينما وصف نيويورك في كتابه (سبعون) بأنها (بابل القرن العشرين أو الدردور الرهيب) التي يقطنها الأبيض والأسود والأصفر والعملاق والقزم، والمدقع والمتخم، والمؤمن والملحد، والسارق والقاتل، والأبله والعبقري، والنذل والسَّريّ، والخامل والعصامي، وقد حُكِمَ عليهم جميعاً أن يعيشوا في أوكار، بعضها أوجار وزرائب وسراديب، وبعضها قصور تزري بقصور الأشراف والأمراء والملوك. هكذا قبل مائة عام، وصف نعيمة نيويورك مدينة العجائب التي غادرها غير آسف عليها ليقبع في بسكنتا بلبنان ويستروح أنفاس جبل الشخروب حتى أطلِق عليه اسم (ناسك الشخروب). سألني الأستاذ الجفائري إذا كنت زرتُ مدناً أخرى غير نيويورك؟ فقلت له: نعم زرت شيكاغو، وقد رأيت فيها التعاسة الإنسانية في أجلى صورها، لا سيما حياة السود فيها. قال لي رحمه الله متعجباً: ” ألم تر شيئاً حسناً غير ذلك؟. قلتُ: بلى. لقد زرت مدينة بلومينغتون Bloomington وهي مدينة صغيرة في إنديانابوليس عاصمة ولاية إنديانا حيث كان يقطن فيها ابن عمتي د. خالد أبوغرارة وهو أستاذ مرموق في عالم الكومبيوتر وأستاذ بإحدى الجامعات الأمريكية، وهي المدينة التي درس فيها صديقنا الرائع والأديب الذواقة د. سعدون السويح، المهووس بالمتنبي والمسكون بأشعاره.

وبلومينغتون مدينة طلابية هادئة تأسست على جامعتها العريقة ، وكلّ ما فيها مُهيّأ لخدمة الطلبة. وقد مكثت فيها شهراً لم أبرح مكتبتها التي سرّني وجود قسم للكتب العربية بها يحتوي على أنفس المصنفات العربية التي يشقّ على طالب العلم أن يجدها في تلك البلاد إلا في مكتبة الكونغرس. وهناك كانت أوّلُ معرفتي بشيخ العربية محمود شاكر من خلال كتابه (أباطيل واسمار) الذي قرأته على ضخامته في ثلاثة أيام. سُرّ الأستاذ الجفائري بسماع ذلك، وأخرج لي كتاب (أباطيل وأسمار)، وهو كتاب طريفٌ في تأليفه وصناعته، عظيم في غايته حيث صنفه صاحبه في الرد على لويس عوض (الشرلتان) كما يسميه محمود شاكر الذي كان ينال من المتنبي ومن لغة العرب. سألته: كيف حصل على هذا الكتاب، وهو نادر في تلك الأيام، وكنت أظنّ أنّ هذا الكتاب لم يدخل إلى المكتبات الليبية في ذلك الزمان، اللهم إلا في بعض بيوتات رجال الأدب والفكر؟ فأجابني: أنه اقتناه قبل سنين إذ وجده مطروحاً في إحدى المكتبات بطرابلس لا يلتفتُ إليه أحد، ثم شرع يحدثني عن محمود شاكر بحبٍ ولهفة. وأظنّ أنني سألته عن سرّ هذه المحبة، فأجابني بما معناه: “هذا رجلٌ عظيمٌ يدافع عن الأمة ودينها وتاريخها ولغتها، فكيف لا أحبه ولا أعظّمه”.

وأذكر أنه أخرج لي في مناسبة لاحقة كتاباً آخرَ لمحمود شاكر عن (المتنبي) وهو كتابُ ظلّ صاحبُه ينقحه في طبعاته اللاحقة حتى بات مجلداً ضخماً. وأصلُه مقالاتٌ في الرد على أراء طه حسين في المتنبي وإظهار ما فيها من زَغَلٍ وخَطَلٍ، بدأ بنشرها في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي بمجلة (المقتطف) ليعقوب صروف. وإلى الأستاذ الجفائري يرجع الفضل في معرفتي بهذا الكتاب الذي أعارنيه فقرأته بنهمٍ شديد، فكشف لي ذلك عن ناقدٍ متمرّس، الويل كلّ الويل لمن يقع تحت قبضته. وما ذلك إلا لبراعته في اللغة وفهمه لدقائقها، ولعقله الناقد الحصيف الذي تربى في بيت علميّ عريقٍ حيث تلقى العلم عن أبيه الشيخ محمد شاكر القاضي وكيل الأزهر، وعن أخيه المحدث، واللغوي المحقق، العلامة أحمد شاكر. فانصقلت مواهبُه فبزّ أقرانه، وتجاوز أشياخه. حثّني الأستاذ الجفائري على اقتناء الكتاب بأيّ وسيلةٍ وأيّ ثمنٍ. وأحسب أنّ الفضلَ في سعيي الحثيث للحصول على نسخة من هذا الكتاب يرجع إليه. ولكن كيف السبيل إلى ذلك ومكتبات طرابلس فقيرة؟ قال لي: “عليك بمسافرٍ إلى مصر فأوصه به” فكان الأمر كما نَصَحَ به، وجاءني به أخي الحبيب الشيخ عبد الناصر انفيص على ما أذكر. وظللتُ، وسأظلّ، أذكر الأستاذَ الجفائري كلما وقعت عيناي على (أباطيل وأسمار) و(المتنبي).

والأستاذ محمد عبد السلام الجفائري من مواليد مدينة طرابلس، تحصّل على درجة الليسانس في الفلسفة من الجامعة الليبية ببنغازي في عام 1963، وتحصّل في عام 1982 على درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية التربية بطرابلس عن دراسته القيمة (مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي)، وقد قامت بطبعها الدار العربية للكتاب.

وقد ربطته صلة وثيقة ببعض أساتذة الفلسفة المرموقين في جامعة بنغازي وهو بعد طالب. وأظنّ أنّ الاستاذ الجفائري لم يكن طالباً نظامياً بالجامعة، بل منتسباً. وكانت جامعة بنغازي يومئذ في أوْجِ تألقها وفي حقبتها الذهبية، وكانت تعجّ بأعلام الفكر والمعرفة في ضروب العلوم المختلفة: اللغة، الأدب، الفلسفة، القانون، التاريخ، الحغرافيا. وقد سَعِد الأستاذ الجفائري بمعرفة شخصياتٍ كبيرةٍ أمثال: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، ود. توفيق الطويل، ود. محمد علي أبو ريان، ود. أحمد فؤاد الأهواني، ود. عثمان أمين، وإن لم يحضر محاضراتهم إلا بعضها قبيل الامتحانات. وما حديثه عن أبي ريدة، ذلك العالم الإنسان، وإعجابه به إلا دليلاً على أنه التقاه واجتمع به، وأذكر أنّ الأستاذ الجفائري حدثني عن بحثٍ كتبه وقدمه للدكتور أبي ريدة أو للدكتور أبي ريان – لا يحضرني أيّهما – في موضوع فلسفي، فسُرّ به كثيراً وأخذ يثني على كاتبه. ولم يكن الأستاذ الجفائري من أولئك الناس الذين يتحدثون عن أنفسهم، فضلاً عن أنه كان قليل الاختلاط إلا ببعض الشخصيات التي يأنس إليها. ولذلك كان مكتبه (الصالون الأدبي) لا يرتاده إلا من كانت تجمعه به قواسمُ مشتركةٌ، وأهمها قاسم المعرفة. فأنا أعرف أنّ عدداً من الباحثين الفضلاء بالمركز لا يحضرون تلك الجلسات لأنّ الهوس المعرفي عند الأستاذ الجفائري ورواد مجلسه مفقود عند أولئك، ثم إن مجمع البحرين هذا لا تجد فيه فاحشَ ولا بذاءة لسان، فهو ليس كـ (مجمع الجهلة) الذي وصفه أديبنا الكبير علي مصطفى المصراتي.

كان الأستاذ الجفائري مهموماً بواقع الأمة المتردي، حزيناً لما آلت إليه من تشظي وانقسام، وربما هذا الشعور الذي كان يكتنفه هو الذي مدّ جسورَ المعرفة بينه وبين شخصياتٍ إصلاحيةٍ معاصرةٍ، وأقام بينه وبينهم وشائجَ روحيةً ولّدتها قراءاته لهم فانعكست على حياته وتفكيره. ولذلك ارتبطت أغلب كتاباته بتلك الشخصيات، أمثال: مالك بن نبي، ومحمود شاكر، وعمر بهاء الدين الأميري، ومهدي بن عبود، وجودت سعيد، وعبد السلام الهراس، ومحمد محمد حسين، وعمر كامل مسقاوي، وعبد الصبور شاهين، وأنور الجندي، وغازي التوبة. كلّ ذلك حال بينه وبين الوقوع في قبضة التيارات الفكرية المنحرفة التي وقع فيها نظراؤه من المشتغلين بالفكر، لا سيما تلك الدعوات الهدامة المحاربة للإسلام جهاراً نهاراً. وكان يسميها فقاقيعَ صابون لن تلبثَ أن تنفجرَ. وكان رحمه الله أميلَ إلى المفكرين أصحاب الرؤى الإصلاحية، منهجاً وسلوكاً. ولذلك شدّته شخصيةُ جودت سعيد، ودعوته المتسامحة التي تنبذ العنف. أذكر أنني رأيتُ عنده الطبعة الأولى من كتاب جودت سعيد (كن كابنِ آدم)، ولم أكن قرأته بعدُ فأعارنيه، وأعارني معه مجلة سورية لا أذكر اسمها أفردت لجودت سعيد ملفاً خاصاً لعرض لرؤيته الفكرية في الإصلاح والنهضة. وكانت كتب جودت سعيد يومها نادرةً، ولم أعثر عليها إلا عند أخينا الدكتور عبد السلام العايب الذي أحضرها من الحجاز عندما كان يدرسُ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وظلّلت احتفظ لصديقنا د. العايب بكتبه تلك حتى فرّج الله كربه وخرج من زنازين سجن القذافي التي مكث بين جدرانها الرطبة سنيناً طويلة فرددتها إليه. وأذكر أيضاً أنني وقعت على المجموعة الكاملة لمؤلفات جودت سعيد التي تضمها سلسلة (سنن تغيير النفس و المجتمع) في مكتبةٍ متوارية في أول شارع الساعدية، فاقتنيتها دون تردد، وهُرِعْتُ في المساء مسرعاً أحدّث الأستاذ الجفائري بأنه لا توجد إلا نسخة أخرى فقط من المجموعة، وهو أوْلى من غيره باقتنائها، فما برح حتى صارت تلك المحموعة في مكتبته.

كان رحمه الله مفتوناً بمالك بن نبي حتى إنه كتب عنه رسالته في الماجستير التي أشرنا إليها، وكتاباً آخر بعنوان (مالك بن نبي: حياته وعصره)، وكان يتمثّل أقوالَه في مناسباتٍ عديدة، ويردّ آفاتِ التخلف وعِلَله، وأسبابَ النهضة إلى آراء مالكِ بن نبي، الفيلسوفِ المضيّع بين أهله والذي لم يقدّر أهلُ هذا الزمان فضلَه. ربما لأنّ مناقشةَ قضايا النهضة والبحث عن أسباب الرقيّ كان في وقته من الترف الفكري، أو لعلّها كانت من القضايا التي لمّا تختمر بعدُ في عقول المسلمين المعاصرين، خاصةً وأن طريقة عرض المشكلات ومعالجتها جاءت بطريقةٍ لم يعْهَدْهَا نظراؤه من المفكرين المعاصرين الذين كتبوا في مشكلة النهضة وشرائط انبعاثها.

تذاكرتُ مع الأستاذ الجفائري القضايا العامة التي طرحها مالك في كتبه (شروط النهضة) و(مشكلة الثقافة)، و(المسلم في عالم الاقتصاد)، و(بين الرشاد والتيه)، و(الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) و (مشكلات الأفكار في العالم الإسلامي)، و(فكرة كومنولث إسلامي). وما ورد في (مذكرات شاهد القرن). وقد توصلنا إلى أنّ كتابه (المسلم في عالم الاقتصاد) هو الركيزة الثانية في مشروع مالك الإصلاحي، وهي الركيزة العملية بعد الركيزة النظرية التي أوردها في (شروط النهضة) , وقد نبّه مالك بن نبي في آخر مقدمة كتابه (المسلم في عالم الاقتصاد) الذي صدرت طبعته الأولى في عام 1972 أي قبل ما يقرب من نصف قرن إلى مسألة مهمة أبقظت المجامع الفقهية العربية والإسلامية فيما بعد وهو أنّ البحث عن الحلول العملية لمشاكل الأمة لا يقع بالضرورة على عاتق الفقهاء بل على عاتق العلماء في مجالات اختصاصهم، ولا يبقى من دورٍ لفقهاء الشريعة إلا بيان ما مدى قرب أو بعد تلك الحلول عن الشريعة الإسلامية لتقبلَ أو لتُنبَذَ. يقول مالك بن نبي رحمه الله: “يجب أن ننزه فقهاءَنا عن هذا العتاب، ونقول إنه ليس من اختصاصهم أن يدلّوا على الحلول الاقتصادية سواء مُسْتَنْبَطةً من القرآن والسنة أو غير ذلك، وإنما اختصاصهم أن يقولوا في شأن الحلول التي يقدمها أهلُ الاختصاص، هل هي تطابق أو لا تطابق الشريعة الإسلامية”.

ولفرط انشغال الأستاذ الجفائري بهذه الشخصية بات في نظري مرجعاً لا يُستهان به في الدخول إلى عالم مالك بن نبي، وحسبه أنه يحفظ مقاطعَ كاملةً من كتبه تلك، وتراه يستعرضها عند الاحتجاج في مسائل النهضة والانحطاط ولا سيما فما يتعلّق بنظريته الذائعة (القابلية للاستعمار)، وكثيراً ما نمازحه كلما جاء الحديث عن خذلان الأمة وانقيادها للمستعمرين، ونقول: “إنها القابليةُ للاستعمار يا صاحبي” فيُسرّ لذلك أيّما سرور. وأذكر، إن لم تخني الذاكرة، أنني ذكرتُ له يوماً كتاب غازي التوبة (الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم) وهو كتابُ صدر في أواخر الستينيات. أثنى على الكتابِ وصاحبه، وتحفّظ على رأيه في مالك بن نبي وآخرين من رجال المدرسة الإصلاحية. لم أوافقه الرأي في ذلك، وقلتُ له: ربما اشتطّ الدكتور غازي بعضَ الشيء، ولكنّ انتقاداتِه في مجملها تقوم على أساسٍ صحيح، ولا تُقلّل من أهمية تلك الرموز الثقافية، وربما عيبَ عليه أنه أقحم بعض المفكرين في غير مدارسهم التي كان أولى أن يدرجوا فيها. وكتاب غازي التوبة وكتب محمد محمد حسين من الكتب التي انفتحت عليها أعيننا في أواخر السبعينيات والثمانينيات.

ومن الشخصيات التي كان الأستاذ الجفائري مشدوداً إليها الدكتور والمفكر الإسلامي المغربي الكبيرمهدي بن عبود، وهو في أصل تخصصه طبيب أمراض تناسلية وجلدية. اشتغل بالفكر الإسلامي والفلسفة. عالم ربّاني جمع بين الشريعة والحكمة، وعين أستاذا بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس، وأسند إليه تدريسُ مادة علم النفس المرضي، ومادة سيكولوجية المشكلة الاجتماعية، ومادة المذاهب الفكرية المعاصرة، ومادة العقيدة الإسلامية.

حينما زار الأستاذ الجفائري المغرب إبّان دراسته للدكتوراه. وكان طالباً غير مقيم حيث لم يُعْطَ منحةً دراسية، وهو لم يسع إلى ذلك لسبب ظاهر لا نجهله، وهو أنه كان يطلب المعرفة لذاتها ويسعى لتحصيلها، ولا يختلف الأمر عنده أن يُنادى بالأستاذ أو الدكتور أو الشيخ، أو أن ينادى باسمه خِلواً من أيّ لقبٍ. ثم إنه لم يسع لذلك طلباً لتحسين وضعٍ ماديّ، أو للحصول على مكانةٍ اجتماعية أو وظيفةٍ مرموقة، شأن أكثر الطلاب عادةً. فهو يقرأ بنهم قبل الحصول على الشهادات وبعدها والحال عنده سِيّان.

بعد عودته من زيارته إلى المغرب سألته عن الدكتور مهدي بن عبود، وهل نجح في البحث عنه وزيارته، وقد تحدثنا مرّاتٍ عديدةً عن هذه الشخصية الكبيرة التي يجهلها كثيرٌ من الناس. أذكر أنني أخبرته بمحاضرةٍ ألقاها د. ابن عبود في المركز الثقافي العربي المصري بشارع عمر المختار بطرابلس، وكانت على هامش المؤتمر الأوّل للدعوة الإسلامية المنعقد في عام 1970. وتعجّب الأستاذ الجفائري كيف لصبيّ مثلي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره أن يحضر هذه المحاضرة التي ما زلت أذكرها بحذافيرها حتى هذه الساعة. قلتُ له: لم أكن وحدي بل كان معي يومئذٍ صديق العمر الأستاذ محمد لطفي الحواسي، وإلى زمنٍ قريب كنا نستذكر تلك المناسبة وغيرها من المناسبات الثقافية. وأذكر أنّ البرنامج الثقافي الذي أعدّه المركز لذلك اليوم كان يتضمّن محاضرتين. الأولى للدكتور أحمد الحوفي عن الطبيعة في شعر أحمد شوقي والثانية للمهدي بن عبود. وكانت محاضرةُ الدكتور الحوفي مملّةً ورتيبةً يقرأها من صفحات بيديه دون أن يرفع رأسه للحاضرين، مما يعطيك إحساساً بمبلغ القطيعة بين المتحدث والمتلقي، فضلاً عن أنّ الموضوع تقليدي صرف لا يشدّ انتباه القارئ. ثم قُدّم الدكتور بن عبود ليلقي محاضرته عن واقع الأمة المتردي وسبيل النهوض به، وإذا بالمحاضر لا يجلس فوق المنصّة كما هو معتادٌ، إذ أخذ يجول بين مقاعد الحاضرين، متحدثاً بأسلوبٍ آسر ولغةٍ مشرقة حتى إننا نشكّ أنّ الحاضرين ممن لا يعرفونه يصدقون أنه غير مشرقي. قلتُ للأستاذ الجفائري: “كان الدكتور ابن عبود يستخدم لغة الجسد في توصيل فكرته وهو يشخّص العلل التي أدّت إلى انحطاط الأمة وترديها، رادّاً ذلك إلى ابتعادها عن منهج الله، والوقوع بين براثن التخلّف والخرافة، والابتعاد عن العقيدة الصحيحة التي هي مفتاح الظفر والنهوض ومكمن القوّة في هذه الأمة، وشرع يقرأ قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}. كان، رحمه الله، يُصوّر لنا بيديه ذلك الهُويّ حتى لكأننا نتمثله واقعاً حيّاً”.

قال لي الأستاذ الجفائري أنه ظفر بمقابلة الرجل وحظي بالاجتماع به في عيادته في الدار البيضاء أو في مدينة (سلا) التي ينحدر منها ابن عبود، لا أذكر على وجه التحديد. وحدثني أنه قابل رجلاً عظيماً يندر وجوده في هذا الزمان. وكان يتحدث في أسىً وحزن لانفراط عقد الأمة وتشتتها بعد أن أوشكت أن تنهض، وردّ ذلك لجسامة التآمر عليها من بنيها قبل أعدائها. ومما أخبرني به الأستاذ الجفائري أنّ الدكتور مهدي بن عبود له مؤلفاتٌ قيمة لا نعرفها ولم نرها للأسف الشديد، ويبدو أنها نفذت من السوق أو لم يُطبع منها نسخ عديدة.

وللأستاذ الجفائري شغفٌ بالأدب الإسلامي المعاصر: شعراً ونثراً. فكلما جئنا على ذكر الشعر يهمّ بالحديث عن عصام العطار، وترتسم على مُحيّاه ملامح الحزن حينما أذكر له قصيدة الرثاء التي كتبها العطار في زوجه (بنان) وهي ابنة الشيخ علي الطنطاوي وقد قُتِلت غيلةً في السابع عشر من مارس عام 1981 بألمانيا بدلاً من زوجها الذي كان أعداء الحياة والإنسانية يتربصون به الدوائر. يقول العطار في مطلع تلك القصيدة:

(بَنانُ) يا جبهةَ الإسلامِ داميةً *** ما زال جُرحُكِ في قلبي نزيفَ دمِ

(بنانُ) يا صورةَ الإخلاصِ رائعةً *** ويا مثالَ الفدى والنّبلِ والكرمِ

ومن الشعراء المفكرين الذين استأثروا بتفكير الأستاذ الجفائري الشاعر الإسلامي الكبير عمر بهاء الدين الأميري الذي يهتزّ عقلُه لفكرِه، ووجدانُه لشعرِه الحيّ النابض. وكأني به الآن وهو في العالم العلويّ بين يدي ربّ عادلٍ رؤوف يترنم معي بقول بهاء الدين الأميري:

تُسائلني يا خِلُّ عن همّي الذي *** أُعاني، وهل يرتاحُ من همّه الحُرُّ

مُــروءتُه مِلءُ الحياةِ حوافــزٌ *** تَزُجّ به في مِسْلَكٍ سَهْلُهُ وَعْرُ

أمّا عن شاعر الإسلام محمد إقبال فكانت له مكانةٌ عاليةٌ في عقله وقلبه معاً. فدواوين إقبال تُزيّن مكتبته بترجماتها المتعددة للشيخ الضرير الصاوي شعلان، وعبد الوهاب عزام. كانت له معرفة وحكايات مع أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وروّاد الدعوة في العصر الحديث لم أجدها عند غيره، وهي ليست مجرد أسماء تُذكر في المحافل تباهياً واستعراضاً، وإنما هي عنده فهم واستيعاب عميقين.

في مطلع التسعينيات أو في منتصفها، لستُ أذكر على وجه التحديد، عاد الأستاذ الجفائري من الحجاز بعد قضاء منسك الحج أو العمرة، فزرته في بيته مهنئاً، وكان أوّل ما حدثني به، كعادته، تلك الكتب التي أحضرها معه، وكان من بينها الجزءان الأولان من السيرة الذاتية للشيخ علي الطنطاوي، وكتاب (في صالون العقاد كانت لنا أيام). وكان مبتهجاً بذلك لأن الكتابين لم يدخلا إلى البلد بعد حسب ظنه. فسألته أن يعيرني أحدهما أو كليهما لأقرأه إذ يتعذر الحصول عليهما، فقال لي: ستكون ثاني من يقرأهما بعدي. وقد أوفى بوعده. فأعطاني أولاً كتاب (في صالون العقاد كانت لنا أيام) لأنيس منصور، وهو كتاب يقع في سبعمائة صفحة. وسألته عن مدة الاستعارة، فقال لي قولاً يدلّ على خبرة في القراءة والاستمتاع: “هذا يتوقف عليك، فالكتاب رائع وشائق، وبقدر حبّك للعقاد وفكره، واستمتاعك بأسلوب أنيس منصور الرائق فما أراك في حاجة إلى أكثر من ثلاثة أيام”. قلتُ له: “اجعلها سبعة أيام”. أجاب: “لا بأس”. وصدق الرجل فيما قال إذ شدّني الكتاب بما فيه من معلوماتٍ عن الحياة الثقافية في مصر التي تزينها معاركُ العقاد الأدبية والسياسية مع خصومه. وكدت أجمع الليل بالنهار في قراءته حتى فرغت منه في ثلاثة أيام كما خمّن الأستاذ. ثم دفع إليّ بالجزء الأول من الكتاب الآخر (ذكريات) للطنطاوي ولم يشترط عليّ موعداً لإرجاعه، ربما لأنه اطمأنّ أن كتابه في يدٍ أمينة. وقد ذكرتُ طرفاً من هذه الحكاية في كتابي (حياتهم: أزاهير واشواك).

وقد حكى لي قصة أليمة حلّت به في الحجاز تركت في نفسه أثراً غير محمود. يقول الأستاذ أنه بينما كان يطوف بالبيت رأى شيخاً تحيط به جمهرةٌ من الحرس، فسأل: من الرجل؟ فقيل له: الشيخ عبد العزيز بن باز. فاقترب الأستاذ الجفائري ليسلم عليه، فدفعه الحرسُ بشدة فأسقطوه أرضاً، وأخذ الأستاذ يصرخ فيهم: ” أنا في حرم الله ويحكم ما اقتربت إلا مُسَلِّماً “. ويبدو أن الشيخ عبد العزيز وهو رجلٌ ضرير لا يدري ما يصنع حرسُه بالناس فانتبه للضجةَ التي أحدثها الأستاذُ الجفائري، فأمرهم بأن يُدنوه منه. هنا صاح الأستاذ الجفائري مرةً أخرى وهو لما يقف من سقطته بعد: “أمّا الآن. فلا”. وفي الفندق حيث يقيم جاءه نفرٌ من قِبَل الشيخ يدعونه لمقابلته، فرفض المقابلة. قلتُ له مهدئاً ومُطيّباً خاطره وملتمساً عذراً للشيخ عبد العزيز بن باز: “يقولون إن الشيخَ عبد العزيز رجلٌ مؤدب ومتواضع ولا يصدر عنه مثل هذا التصرف الأخرق فضلاً عن أنه رجلٌ ضرير، وما أظنّ أنه يأمر مرافقيه بالعدوان على ضيوف الرحمن “. هنا ارتاح الأستاذ قليلاً، وأظنه قال معقّباً: “لكنه يُسأل عن ذلك. فما مصائب القوم إلا في بِطانة السوء”.

سعى الأستاذ الجفائري إلى الحصول على درجة الدكتوراه من جامعة محمد الخامس بالمغرب، فسجل أطروحته (مالك بن نبي: آثاره العلمية ومصادر فكره) وأشرف عليه فيها الأستاذ القدير عبد السلام الهرّاس، غير أنّ المنية اخترمته قبل وقت قصير من انتهائه من أطروحته، ولعلها!! هي التي قام مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية بنشرها بعد موته تحت عنوان (مالك بن نبي حياته وعصره).

وللأستاذ الجفائري أعمال مخطوطة لم تر النورَ بعد أذكر منها كتابه (دراسات قرآنية) وقد أراني نسخةً منه في بيته، وأخبرني يومها أنه سلّم نسخةً للدكتور محمد أحمد الشريف أمين جمعية الدعوة الإسلامية لطبعها، ولكن للأسف لم يتمّ ذلك، وهو ما أحزن المؤلف رحمه الله، واخشى أن يكون مخطوط الكتاب قد ضاع.

هذا ما استحضرته من عفوِ الخاطرِ عن هذا الرجل النبيل ، فما كان مطابقاً لما سمعته منه أو من غيره فذلك من توفيق الله ولطفه، وما كان غير ذلك فمن بلادة ذاكرتي التي أصابها الوهنُ، وارجو الله أن يغفر لي ما بدر مني، وأن يصوّب الإخوانُ ما جانبني الصواب فيه، وأن يلتمسوا لي العذرَ فما أردت إلا أن أُحيي ذِكرَ رجلٍ كبيرٍ غفلت عنه الأيامُ في حياته، وغيّبته بعد مماته.

وإني لأرجو من صحبه وخلانه أن يجمعوا تراثه المتناثر هنا وهناك فَيُسْدوا بذلك خدمةً للفكر والمعرفة في بلادنا، وليقدموا شيئاً للناشئة يبقى على كرّ الأيام والسنين. وأذكّر بأن للأستاذ الجفائري مقالاتٍ عديدةً منشورة في الصحف والمجلات المحلية، مثل: طرابلس الغرب، والرائد، و مجلة جيل ورسالة، ومجلة الرواد، ومجلة الناشر العربي، ومجلة كلية الدعوة الإسلامية، ومجلة الشهيد، ومجلة البحوث التاريخية، ومجلة الوثائق والمخطوطات. رحم الله الأستاذ القدوةَ والمفكّرَ النبيل الذي غيّبه عنا الموتُ وهو في قمة عطائه الفكري.

علمتَ مَنْ حملُوا عــلى الأعـــوادِ * * * أرأيتَ كَيفَ خبا ضياءُ النادي

مَا كنتُ أعلُم قبل حطِّكَ فِي الثَّرى * * * أنّ الثرى يَعْلو على الأطُــــــوادِ

مقالات ذات علاقة

الذكرى 30 لرحيل محمّد مسعود عبد المجيد فشيكة

المشرف العام

رضوان أبو شويشة…الذكرى السنوية الأولى

مهند سليمان

حدث في مثل هذا اليوم: رحيل الكاتب الساخر محمد طرنيش

محمد عقيلة العمامي

اترك تعليق