ترك كل شيء وخرج وحيداً يجرجر خطواته كالمهزوم . لا أحد يتمنى له رحلة موفقة ، ولا مودع .. سوى نباح الكلاب التي بدت وكأنها متواطئة مع أهل القرية على سوء معاملته والتعجل برحيله خارج حدود القرية .
وقف لبرهة واستدار للخلف ، ملقياً آخر نظرة على بيوت القرية التي ظهرت من بعيد كبيوت للأشباح ، بلونها الرمادي الكئيب الغارق في بحر من اللون الأحمر الكابي ، المنبعث من عين النهار الكبيرة المائلة نحو المغيب .
كان المنظـر برمته حالماً ، لكنه بدا لناظريـه موغلاً في الكآبة رغـم الأحاسيس المتضاربة التي يعج بها صدره ، والتي بدأت تستيقظ فجأة لتضغط ببطء وانتظام على جدار ذاكرته جاعلة إياه يستسلم في خدر لجلال لحظات الوداع القسري المهيب .
هنا وجد نفسه ، منذ أكثر من ستة عشر عاماً ، من طين هذه الأرض جبل ، ما زال عبق النسمة الأولى التي تسللت إلى رئتيه لأول مرة متغلغلاً في تجاويف عقله ، وهذا التراب الحبيب كم استف منه وهو طفل يحبو ، وهذا الحيز الذي يراه الآن ليس به موطأ قدم إلا وطأه ، حافياً ومنتعلاً ، كل أشجار التين اعتلاها بشقاوة الصغار وجنى ثمارها خلسة هو ورفاقه ، كل حمير القرية امتطى ظهورها الواحد تلو الآخر في غفلة من أصحابها ، قاطعاً بها أشواطاً طويلة وهو يمتشق سيفه الخشبي كمحارب قديم .
وهذه الكلاب التي ظهرت جلياً وكأنها جاءت لتتشفى منه كم سامها سوء العذاب ، حتى بهائم القرية لم تنج من عصاه الغليظة التي كان يهوي بها على أجسادها في قسوة .. متلذذاً بأنينها المكتوم ، حتى طيور السماء كان ينصب لها الفخاخ والحبائل ، متحايلاً عليها بطعم صغير ، أو حبة قمح ، ثم عندما تقع في شراكه كان يدق أعناقها في لذة وغرور .
كل شيء يشهد بأنه ابن القرية ، وواحد من أفرادها ، تلاميذ القرية يعرفونه جيداً ينادي الصغير باسمه حين لا يجد شطيرته التي سطا عليها وازدردها في لمحة عين ، نساء القرية يعرفن “موسى” حق المعرفة ، بجسمه النحيل ووجهه الأسمر المشوب بصفرة خفيفة ، فكانت إحداهن عندما تفقد إحدى دجاجاتها ، ترفع يديها نحو السماء مستمطرة اللعنات على رأسه الصغير ، حتى الأعمى الوحيد بالقرية لم يسلم من شقاوته ، فكان كلما تعثرت قدماه بحجر في عرض الطريق يبدأ في صب الشتائم كصنبور معطوب لعلمه المسبق بأنه وراء هذه الأفعال الدنيئة .
كان أهل القرية يتطيرون منه ، بل كان بعضهم يستعيذ بالله منه ، لدرجة أن الحاج محمود شيخ المسجد أفتى بوجوب رحيله كي ينزل الله المطر بعد سنوات القحط ، وكي لا يعذب الله أهل القرية ما دام بين ظهرانيهم هذا المارق الملعون ، الذي مات أبوه وهو في بطن أمه ، وماتت أمه وهي تلده ، ومات عمه بعد شهر من مولده ، ومات كل من يمت إليه بصلة قربى قبل وصوله العام السادس .
كان يسترق السمع من خلال كوة صغيرة أعلى الجدار الشرقي لمسجد القرية الوحيد بعد صلاة العشاء الليلة البارحة ، وكانت علامات الدهشة تطغى على ملامحه حين رأى من مكانه أشخاصاً لم يتعود رؤيتهم يرتادون المسجد ، فطفق يفكر في كنه تواجدهم الليلة ، حتى أقنع نفسه بأنهم قد أتوا لاجتماع مهم دعاهم إليه “مختار القرية”
ربما للتشاور في كيفية محاربة أسراب الجراد التي علموا بأنها في طريقها إليهم ، أو ربما حضروا للتوقيع على طلب للحصول على الكهرباء أسوة بالقرية المجاورة ، أو للنظر في عملية تعبيد الطريق الترابي الذي سيصل القرية بالطريق العام والتي تعثرت لنقص الموارد المالية .
كان سابحاً في بحور الخيال وكان الملأ يأتمرون به ، حتى خرقت أذنه كلمات الحاج عبد السلام الذي قاطع شيخ المسجد قائلاً :
ـ ولكنك يا حاج محمود لم تكن مصراً على رحيله كهذه المرة ..
هل لأنه دس الدبابيس بقطعة الخبز التي أماتت كلبك؟
وما يدريك لعل أحد الصبية الأشقياء فعل ذلك ؟
.. ربما هو بريء هذه المرة ،
وهنا وقف الشيخ كالمصعوق متكأً على عصاه وهو يقول :
ـ لا أنه هو، لقد شاهده الأطفال وهو يلقي بقطعة الخبز
قالها الشيخ جازماً قبل أن ترتفع كل الأصوات لتؤيده في ضرورة رحيله غداً قبل أن يحل الخراب بالقرية .
لم يكن يتصور أنهم جادون ، وأنهم عازمون حقاً على طرده حتى أنه أخرج لسانه في الظلام وغادر المكان قبل خروجهم ، مسرعاً نحو كوخه الصغير الذي صنعه بمفرده من أغصان الأشجار الميتة وألواح القصدير الصدئة .. هناك على أطراف القرية بجانب شجرة التين العملاقة التي زرعها جده في الزمن الغابر .
بدأ الظلام يلف القرية بستائره الكثيفة فبدت من بعيد وكأنها تغرق في لجة معتمة ليس لها قرار فتوقف عن الاسترسال في استرجاع الأحداث واستدار للخلف ، ومشى بخطوات متثاقلة كأنه ينتشل قدميه من وحل ثقيل ، تراءت له على مدى الأفق الضارب في البعد هالة من الضوء المتألق تتسامى نحو السماء رويداً … رويداً .
ترى أهي بداية ليل طويل .. ؟
أم هو فجر جديد قد انتظر طويلاً .. وحان وقت بزوغه .
طبرق1997 م