من أعمال التشكيلي عادل الفورتية
قصة

سيدة المطار

محبوبة خليفة

من أعمال التشكيلي عادل الفورتية

 

سألتني عن مدينتي – ولا علاقة لعملها بالطبع بهذا السؤال – غير أنني عرفت السبب بعد أن حدّدتُ لها هويتي الدرناوية فأردفَتْ باسمة: كثّرتوا علينا ياعرب درنة!! فهمتُ من السياق أنها تقصد كثرة، الركاب الدراونة! أدخلتني غرفة التفتيش الخاصة بالجنس اللطيف، وفتشتني بدقة بعد أن اعتذَرتْ قائلةً: ما نفعله من أجل سلامتكم !فشكرتها والتحقتُ بصالة الإنتظار، سألتقي بهذه السيدة مراراً وستُظهِرْ علامات صحبة خفيفة فأرى ابتسامتها دائماً-على غير عادتها مع الآخرين -عندما تراني فابتسم وأحييها وتفتشني واشكرها…

أعود لذلك النهار الطويل، فما أن انتهت السيدة من مهمتها حتى توجهتُ لما يسمى بصالة الإنتظار! وفي طريقي اليها سأمرُ حيث تفتيش الرجال كانت أصوات مرتفعة وجلبة تثير إنتباه الركاب فتلفتُّ أنا ايضاً فإذا بشابٍ جامعي يحاور ويداور بلا فائدة ليُفهِم رجال أمن المطار أن الصندوق الذي يحمله لا كتابَ غريب فيه وأن مافيه كتب للمنهج وكانت معه في درنه وهو عائدٌ لطرابلس لأداء الإمتحانات، لاحظتُ وجود ثلاثة خبراء بشباشبهم يتبادلون الكتب بعد فحصها فحصاً دقيقاً!! ويصرّون على صاحبها ألّا يأخذها إلّا بعد التأكد من عدم خطورتها!!…

هدأت الضجة ولم أعرف مالذي جرى للطالب المتورط بحمل منهجه الدراسي في رحلة داخلية! إلتحقتُ بالركاب الجالسين في الصالة التعيسة وكانت بصحبتي زوجة عمي والتقيت براكبات من درنة… كنا في تلك الأيام لا نسأل عن موعد الرحلة فهو في علم الغيب، فإن تكرّموا علينا ونادى المنادى أو (البرّاح) بيننا بأنّ الطائرة في الأجواء وستقلع بعد ساعة مثلاً فهذا تأكيد على أن الرحلة (صاير منها)، وإن ساد الصمت المطبق فالمعنى أن الرحلة صاير منها أيضاً لكن الموعد في علم الغيب، ذلك النهار كانت الرحلة في علم الغيب، كان الركاب والراكبات يتبادلون الحكي همساً إلّا زوجة عمي التي ماتوقفت عن السؤال فالسيدة معها مرض السكر وتحتاج لتناول شيء يقيم أودها، فتذكّرَتْ أخيراً أن في معيتها زاد الطريق ففتحت (الساكّو) المبارك وأخرجت ترمس الشاي – وكانت أعدته كاحتياطات يقوم بها المسافرون في ذلك الوقت عن طريق ذلك المطار الأعجوبة – وأخرجت خبزة التنور التي تحملها كهدية لشقيقاتي المقيمات بطرابلس!! ستتأجل الهدية فالأمر طاريء ولابد من التدخل السريع…

دارت الطاسات وبها قليل من الشاي على الركاب المتواجدين حولها ومعه قطع من الخبزة المنكهة بالزهر وسرت بين المنتظرين نفحات بهجة وسرور فانطلقت النكات على الحال الراهن في هذه الصالة البائسة، وحال المنتظرين للمجهول وضحكت إحداهن وذكّرت الركاب بأن غداً (ميلود) – المولد النبوي الشريف – وسألت زوجة عمي: ازعَمَهْ انحصلوا عصيدة ياحاجة؟!! فأجابتها الأخيرة :(نعم العسل معاي والسمن على عرب الابرق والدقيق انجيبوه مالبيضاء!!) وانطلقت ضحكات الركاب فتناسوا لسويعات تعبهم وانتظارهم وقلقهم وبرودة الطقس التي تفري العظام، وانهماك الموظفين في محادثاتهم الزاعقة بلا إبداء أدنى إهتمام بهذه الصالة ومرتاديها الذين لا حول لهم ولا طول…

صار من الرحلة بعد انتظار طويل ووصلنا لبيوتنا غير أن ما وجدته في كيس خبز التنور الذي كان بيدي والذي أعطته لي شقيقتي أثار رعبي، وتخيلت لو كانت تلك الرحلة دولية فماذا سيحدث لي!! كان في الكيس سكين لقطع الخبز كبير وحاد ومخيف ويبدو ان شقيقتي نسيته وهي تقطع فردة خبز التنور لنصفين… تذكّرت تلك السيدة التي قامت بتفتيشي وتذمرها من عرب درنة، كيف تلمست كيس الخبز بحرفية وغفلت عن ذلك السكين!! سلامٌ عليها أينما تكون (ولمطار الأبرق) حنينٌ وتوقٌ لتلك الأيام الخوالي… يالها من أيام!!!

____________________

* مطار الابرق في سنوات 2000م وما بعدها.

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

الجهة القديمة للريح

المشرف العام

دوائر الأشباح

أصفـعـكم وأمــــضي..!

غازي القبلاوي

اترك تعليق