يقدم كتاب (أدنى من الموت) تجربة شخصية مميزة للصحفي الليبي الأستاذ عبدالرحمن الجعيدي الذي عمل مراسلاً ومديراً لمكتب (وكالة الجماهيرية للأنباء) “سابقاً” أثناء حرب لبنان وحصار بيروت في صيف سنة 1982م وسجل بلغته الشاعرية المقاتلة مشاهد عديدة تعكس وحشية الحرب، ومرارة المعاناة، لجميع الطوائف العربية بكل انتماءاتها ومعتقداتها الدينية والايديولوجية والسياسية، وإن ظل منحازاً في لغته لمقاتلي الثورة الفلسطينية والمقاومة الوطنية اللبنانية والفكر اليساري العروبي المتقدم.
يكتسي هذا الكتاب أهمية موضوعية من حيث السبق الذي سجله هذا الصحفي الليبي القدير مبكراً في عمله كمراسل صحفي ليبي يتنقل بين الدشم والخنادق ووسط القذائف والتفجيرات فوق أرض عربية ملتهبة تتقاطر عليها صواريخ غارات الطائرات الإسرائيلية المجنونة، ودوي انفجاراتها المتواصل ليلاً ونهاراً، وكذلك بتقديم جميل من الشاعر العراقي الكبير (مظفر النواب). كما تضمن الكتاب الصادر سنة 1983م مقالة مميزة للكاتبة فوزية شلابي بعنوان (تقديمٌ للحِبرِ المحاصر: قبل، بعد .. أن نقرأ) أنشرها عقب المقدمة التي كتبها المؤلف الأستاذ عبدالرحمن الجعيدي لكتابه (أدنى من الموت).
ويوفر هذا الكتاب التوثيقي القيم تجربة صحفية شخصية مثيرة ومليئة بالمغامرة وتصادم المشاعر الإنسانية ومكابدات الحياة وقت الحرب، والمخاوف والقلاقل التي تعتمر نفس الكاتب/ المؤلف/ المراسل في أرض الحرب الشرسة مع أنفاس أخرى في ليبيا تترقب بكل شغف مقالاته ومراسلاته للإطمئنان يومياً على سلامته ونجاته من الموت أولاً، ولمطالعة ما يكتبه عن تلك الأحداث ثانياً، لما تحتويه تلك الكتابات من صدقية الخبر الطازج من عين المكان وتحليله ونقده الذي صاغه بروح عروبية قومية .. ثورية.
يقول الأستاذ عبدالرحمن الجعيدي في مقدمة كتابه (أدنى من الموت):
عندما عملتُ في لبنان مدةً تربو على السنتين كصحفي وبالتحديد كمسؤول عن مكتب وكالة الجماهيرية للأنباء في بيروت لم أفكر يوماً في إصدار مخطوط عن لبنان… فهناك العشرات من الكتب التي تناولته. وإنما بقيتُ أسير الأحداث المتلاحقة والمتعاقبة التي يعيشها، فالانفجارات ما كانت تسكت .. والمعارك بين الأطراف المختلفة تهدأ وتعود .. وما يدور في كواليس السياسة والإعلام ينتهي في السويعات الأولى من صباح اليوم التالي.
واضطررتُ لأجل إرضاء ميولي ورغبتي الصحفية إلى التحايل على هويتي، كنتُ صحفياً لبنانياً بعض الأحيان، وأخرى عراقياً، أو جزائرياً، أو مغربياً، ومرات أخرى دبلوماسياً ليبيا. هكذا تعلمتُ والصحفي عليه أن يغامر وصولاً لهدفه .. ومع ذلك لم أفكر في إعداد كتاب يتضمن تجربتي في بيروت.
لقد عشتُ حصار بيروت ولم أتركها إلاّ بعد خروج المقاومة في صبيحة يوم 4 سبتمبر 82م. كنتُ أثناء الغزو والحصار كغيري من الصحفيين الذين يغامرون .. وكالفقراء الذين لا يستطيعون مغادرة بيروت إلى الجنوب بعد احتلاله. بزجاجة ليتر من الماء كنا نستحم، وننام نرقب القصف، نلمح الطائرات تغير تلعننا، نتقاسم أكفاف الخبز يأتينا من النافذة. أصبحنا نختار الموت، بعضنا يحبذ أن يموت نائماً، وبعضنا رأى الحياة في الملاجيء فداهمه الموت وآخرون استشهدوا في الخنادق .. وقد كتبتُ سلسلة مقالات أثناء الغزو لصحيفة “الجماهيرية” التي تصدر في ليبيا وهي الجزء الثاني من هذا الكتاب، ورغم أنها بنظري تختلف كثيراً في لغتها وصياغتها عن الجزئين الأول والثالث إلاّ أنّ البعض سمّاها “شهادات” ولذا أخذت مكانها ولم تُستبعد.
وهكذا وبعد انقضاء أكثر من ثلاثة أشهر على رجوعي إلى طرابلس الغرب وجدتُ نفسي أفكرُ تحت وطأة إلحاح بعض الزملاء في كتابة مادة هذا المخطوط الذي يتضمن تجربتي مع الموت خلال مدة بقائي في لبنان، ومع ذلك ترددتُ مرات ومرات وكدتُ أرمي بمسودات هذا العمل وأنزعُ هذه الفكرة من ذهني لولا تزايد إلحاح وتسابق الكثيرين من المبدعين الذين عاشوا حصار بيروت بصور مختلفة في نشر إبداعهم .. وليس كل ما يتضمن “أدنى من الموت” تجربتي المتكاملة في لبنان وإنما هي جزءٌ رأيتُ أنها الأقرب لهذه البداية .. ولا أدّعي هنا بطولة أو تفرداً وإنما كتبتُ ما عايشته وما صنعته بيروت المحاصرة. فمن هنا نبدأ وفي البدء كانت الكلمة. المؤلف.
أما مقالة الأستاذة فوزية شلابي المعنونة (تقديمٌ للحِبرِ المحاصر: قبل، بعد .. أن نقرأ) فقد اتسمت بالمراوحة بين النص الأدبي والمقال السياسي واللغة الشاعرية وتأثيته بالعديد من الأسماء الصريحة وبالتفاصيل الدقيقة لمجريات العمل والتحرير الصحفي وعفويته بكل ما تملكه الذات الكاتبة من حس إبداعي تتجسد روعته في البساطة والإدهاش بجانب ما تعتمرها من مشاعر إنسانية مرهفة تلاحق بها عصفور القلب في بيروت الذي كان يتفادى الموت في كل خطوة ونفس بصمود وشجاعة وإيمان.
)عاجلاً وسريعاً ومفاجئاً كسهمٍ ناري.
كنورس بحري.
كشظية تنبت بين نافذة البنت والولد.
كاحتمال شتوي في حزيران.
كقرار الحبيبة بالرحيل، وكالرحيل.
ومن طقس الحرب. من تكتمه القوال وتجربة أخرى يخوضها الشعر. جاء ذلك الفلسطيني، وشرع يدلق مياه الليطاني على الحملة الانتهازية والأصفر ووجه الاجتراء الصفيق.
وها الحرب تهتك أسرارنا المسقوفة بريش النعام!
ها الحرب تنزع صمام الأمان من قنبلته الحارقة التي ألقاها ومضى، لتحفر في الصعوبة أسماء ثلاثتهم يعيدون ترتيب أحوال القصيدة وسط الحصار.
– “محمود ومعين وسعدالله هناك(1)
إنهم يعملون في مكتب وفا في بيروت”
يقول هو. وتركض هي نحو شغفة القلب.
أيتها النسّاية!
قولي اسم شجرتنا الليبية التي لا تشبهها الطحالب. لا تسقى بالزيت. ولا يحتطب منها الفصل البرجوازي.
قولّي!
– “عبدالرحمن الجعيدي أيضاً لا يزال هناك.
إصبع على الموت، وعلى فوهة الكلام إصبعه الآخر!
– نعم. في مكتب أوج في بيروت”
كنتُ وفاطمة وفرج قررنا الذهاب إلى بيروت خلال الأسبوع الأول من الحرب. وكان صوت عبدالرحمن يأتينا صريحاً ونابتاً في المدى الارجواني الذي يعيد تشكيل هيئة التليفون لتكون ساحة حرب وخطوط دخان وأحذية بلا أقدام!
– لم أمت بعد!
– ولم أزل للكلام الفصيح!
– وأقول له:
– قد لا أتمكن من المجيء، وربما يصلك فاطمة وفرج هذه الليلة!
ويحدث ألاّ يصله أحد أبداً، وأن يمتد إلينا إصبعه القابض على فوهة الكلام لنداري به المواعيد الباهتة والصدأ ودمنا الذي لا يحين!
عندما كتب عبدالرحمن مقالته الأولى وسط الحصار، حدث أن انقطع خط الإبراق بين المركز الرئيسي في طرابلس وبين مكتب بيروت، فأرسلت إلينا المقالة مبتورة!
كنتُ أصرُّ على نشرها كما هي: مبتورة، وكان الزملاء يعترضون على ذلك خوفاً من أن تندفع أسرته إلى الاعتقاد بأن شيئا ما قد حدث كأن يفهم بأنه مات (!). وكنتُ أرى في نشرها كما هي اقتراباً بالقاريء من طقس الحرب. من دغل الموت. من وعورة الأحمر!
ونشرت المقالة كما هي مبتورة، ثم أعيد نشرها كاملة بعد استئناف الاتصال بالمركز الرئيسي ومكتب بيروت.
وكنا –ولم نزل- نرى أن كلام عبدالرحمن الفالت من الحصار كان من أهم ما نشرته (الجماهيرية) في تلك المرحلة. ربما نحن المسترخين في طرابلس نكتب كلاماً أجمل وأقوى وأوضح، نحن الذين كنا نتفرج على (حيرم)(1) في التلفزة التونسية ونشتم البلدية لانقطاع الماء ونتبرّد بالدلاع الجنزوري، ثم نكتب عن بيروت المحاصرة!
كنا نهمّش الحرب، وكان عبدالرحمن يكتب الحرب.
كنا نختار المانشيت، وكان الموت يختار عبدالرحمن لاحتمالاته.
كنا نفرز ألوان الماكيت، وكان عبدالرحمن يفرز أصابع القتلى.
ولم أكن أسمِّي ذلك انحيازاً لعبدالرحمن.
كنتُ أسميه انحيازاً للقاريء، للجريدة، للحقيقة!
ربما كان عبدالرحمن موضوعاً لبرغماتية من نوع ما!
فهل كنا – حقاً – ننتفع من دم عبدالرحمن على حساب دمه، وهل كان هاجسنا تجارب (همنغواي) و(أراغون) و(سارتر)َ!
وهل كنا نردد مع (ممدوح عدوان):
“ينقصنا شهيد”!
ونقول يا عبدالرحمن كن أنت لنكون نحن!
عبدالرحمن الخارج لتوه من ديناميك الحصار إلى إرشيف الحصار، كان مثخناً .. مصاباً بانفساخ الذاكرة. وعلنياً إلى درجة الفضيحةَ!
كنا نتحلق حوله كما يتحلق صغار الشارع حول باعة الحلوى وحكايات الجدّات، ولم يكن ينتظر السؤال ليتكلم.
كان يتكلم. كان يضغط على الجرح فتنهل التصاوير التي من وسنٍ ومن رماد. كان يتسربل بالوجع وبانشداه العائد من الآخر إلى الأول. وكنا ننصاع للمفاجأة .. للفجيعة. للأسماء المنسية.
كنا مأخوذين، فنسمع ويتكلم، يتكلم ونسمع.
قال عبدالرحمن – ضمن ما قال – عن قصف الإسرائيليين للصنايع عقب مغادرة ياسر عرفات لها بثوان، وعن اضطرار الفلسطينيين لنقل غرفة العمليات إلى أكثر من موقع بعد أن تم كشف عدد من العملاء.
في اليوم التالي، مباشرة قرأتُ ما أسمته مجلة (المجلة) السعودية سبقاً صحفياً عالمياً وأسراراً تنشر للمرة الأولى عن قصف الإسرائيليين للصنايع وبقية التفاصيل التي رواها عبدالرحمن.
وكان أن ناوشتنا فكرة كتاب لتجربة عبدالرحمن. فكان (أرشيف الحصار)(1) مبتدأ المشروع.
وثانية أقترح على عبدالرحمن أن يعيد نشر المقالات التي أرسلها من بيروت وقت الحصار كما هي. دون تزويق، دون اعتداء على براءة التجربة، دون أكسجة كلام الحرب المؤكسد!
قبل أن نقرأ.
بعد أن نقرأ.
هل نتبادر إلى سؤال عن:
أقال عبدالرحمن كل الحرب؟
أيقول عبدالرحمن كل الحرب؟)
(أدنى من الموت)، عبدالرحمن الجعيدي، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، الطبعة الأولى، 1983م، ص 13-15