طيوب عربية

براءة مظلومة

من أعمال التشكيلية شفاء سالم
من أعمال التشكيلية شفاء سالم

مرّت أمامي فتاة جميلة وكان يمكن من أوّل نظرة أن أحبّها، نعم كان يمكن من أوّل قبلة أن أصارحها بعدد النّجوم في السّماء وبعدد السّجائر التي أحرقتها في المساء وبعدد النّظرات التي تهاطلت كالأمطار في الخريف أو بعدد الأزهار التي زرعتها في ذلك البستان أو بعدد الثّمار التي قطفتها من تلك الأشجار تتعرّى أمامي باشتياق تدعوني تعال إن شئت اقطف الثّمار التي تتدلّى كالنّجوم على جسدي تعال اشرب من الكؤوس التي احمارت فوق طاولتي…. نعم لقد كانت نظراتها مثل أزهار بريّة في مسالك جبلية ضيّقة تدعوك إلى العناق وقد حان قطافها قبل هبوب تلك الرّياح الموسميّة العاصفة تنسف كلّ شيء…  تذكرت وأنا أشمّ رائحة حبيبتي تفوح كالعطر في أدغال تلك الغابة ما تركته الطّيور فوق بيوتنا من أعشاش وما فعلته الرّياح العاتية بتلك الثّمار تتدلّى على الحاجبين الجبليّين وتصلان إلى أعلى الخدّين الصّحراويّين… تلك كانت حبيبتي وقد التقينا قرب قوس قزح الذي استولى على تلك الأزهار في السماء لا أتذكر متى التقينا فوق تلك الأرض الطيبة التي كانت حسب اعتقادي دون حدود مرسومة و معروفة من الجانبين وهما يكتبان بنفس القلم و بخط غليظ نفس القصيدة بل يتعذّر عليك معرفة الحدود الفاصلة بين القصيدتين أو القلمين أو بين الحبرين وقد جفّا كما يجفّ ذلك النهر الفاصل بين الخدين …كم اختصمنا على المياه الجارية في ذلك النّهر….حين التقت العين بالعين والسيف بالسيف؟ نعم نازعتها كثيرا على حقوقي المشروعة في تلك الثّروة المائيّة الجوفيّة في تلك الأرض الواقعة بين مفترقين قرب النّهدين وافترقنا كثيرا عندما اتهمتني بأنّي نهبت كلّ ثرواتها الباطنيّة قرب الشّفتين العلويّتين تقعان بين نهرين وترتفعان فوق عشّين…وإلى الآن لا أعرف من صاحب الحق الشرعيّ في تلك الأرض…. هي وحدها تعرف نوع الخط ونوع الحبر وشكل القلم حين لا يكتب هي التي ادعت أثناء تعلم الخط والكتابة بأنّ أرضها تمتدّ من الحاجبين وتفضي إلى الخدّين البرتقاليّين….كم تعمدت أن أتوغّل في حدودها الشرقيّة متجاهلا الحدود التّاريخيّة المرسومة على الأرض بين النّهدين شرقا وغربا… هي وحدها لم تبال بتلك الحدود الفاصلة بين الخدّين المعلقين فوق شجرتين ترتفعان كالنّجمتين وقد أخذني فضولي فكسّرت الحدود المعروفة بيننا من نظرتين وتقدّمت بحذر ووجل إلى أرضها وقطفت من شفتيها قبلتين وسط عشّين وقد قتلت على نهديها حمامتين بريّتين جعلتها على النّار شواء كما أعطتني الإناء شرابا هكذا التقيت بها في ذلك الممرّ الجبليّ الفاصل بين شجرتين وافترقنا على أمل أن نعود إلى ذلك الممرّ الصّحراويّ وقد جلست بين الجبلين الفاصلين بين دمعتين و كانت تستظلّ تحت تينك الشّجرتين الوارفتين ملتقى العشاق ومهبط الطّيور المهاجرة…. تذكرت كم فوق نهديها من أزهار بريّة تنمو وتتكاثر  تاركة  رائحة تتسلّل كالشّيح والزّعتر والاكليل تفوح في كلّ مكان من تلك الغابة وهي  تستولي بفستانها الهنديّ على كلّ الممرّات داخل الغابة و لا أدري كيف استسلمت تلك الأزهار الجبليّة وأعطتني من أول وهلة كلّ رائحتها  دون أدنى مقاومة تذكر وقد أخذتني القبلات الصّحراويّة التي قطفتها من ذلك العنقود في أقصى تلك الشّجرة إلى ذلك الغصن ينثني قرب ذلك النّهر الواقع بين الحاجبين قرب النّخلتين المرتفعين كالسّيفين المنتصبين في معركة ضارية جدا؛  لم أشعر كيف التقت العين بالعين و السّاق بالسّاق والكتف بالكتف في ذلك النّهر الفاصل بين الجبلين… ترى من كسّر تلك الحدود الوهميّة الفاصلة بين الخدّين ينتهيان إلى جزيرتين…هي جزيرة يلفّها عشب ومرعى ماؤها عذب فرات يتدفّق من الشّفتين المعلقتين مثل نجمتين بارزتين علويّتين وتنتهيان إلى تينك النّخلتين العاهرتين لا تمنعان جلوس العشّاق في ظلّها يحتفلون كالرّهبان بعيد الحبّ و قد جعلوا من تلك النّخلة المباركة مزارا شريفا مقدّسا يطوف فيه غلمان كأنّهم ولدان مخلّدون يؤدّون صلوات خمس على أرضها، غير أنّ أحد العشّاق رفض الطّواف وامتنع عن الصّلاة قرب الخدّين في مقام الحرمين الشّريفين و بعد دهر ارتكب أحد الحجاج إلى ذلك الحرم أو المزار الإثم ومارس الفسوق حين قطف من الشّفتين قبلة بعد قبلة قال: كنت أشتهي  أن أقطف من تلك الشجرة تفاحة نعم كنت اشتهي من شفتيها قبلة وقد دعتني إلى ذلك بكلّ سرور فجاء أمر ربانيّ يقول: يا آدم أخرج من تحت تلك النّخلة ملعونا بما اقترفت يداك وقد أكلت دون إذن  كلّ ذلك التّمر الذي يتلاصف كالذّهب والمرجان لقد سوّلت لك نفسك أن تصعد الجبل وتتذوّق دون أمر من حبّات التّمر في ذلك العرجون العلويّ الواقع في حدود مملكتي بين الشّفتين السّفليّتين رغم أني حذّرتك من ذلك مرارا… وفي ذلك الممرّ الضيّق سحاب خفيف كرذاذ المطر في الصّحراء قلت: ترى من أشعل تلك النّيران فوق تلك التّلال الصّخريّة و قرب النّهدين المعلّقين بين جبلين كالسّيفين محرّم لمسهما؟ ترى من قطف من تينك الشّجرتين النّائيتين والناتئتين فوق ذلك الجبل ثمرتين متحصّنتين بين جبلين كالدّمعتين تترقرقان على الخدّين وفي العناق قويّتين؟ أخيرا تحرّكت رياح رمليّة عاصفة احتلّت مساحة كبيرة من تلك الأرض المجاورة لحدودها الشّرقيّة قرب الخصرين… شدّني فستانها الدّمشقيّ يحمل حدودا وهميّة لم أعترف بها بل نددت بمن وضعها كما نددت بمن أشعل النّار وقد رأيتها تتبختر في مشيتها تحاول أن تقلّد أجمل الأميرات في بغداد هي لا تعترف إلاّ بالحكم الاستبداديّ وقد مارست ضدّي أقصى أشكال العنف ولم تعترف بحقوقي في تلك النّخلة أو في ذلك المرعى قرب ذلك النّهر فجأة امتطت قبل صعود الفجر أو قبل صعود النّشوة من فراشها حصانا خرافيّ الحسن وطارت قرب شجرة العصافير وتوغّلت في أقصى الذّكرى حيث وصلت إلى جبلين بعيدين… هزّتني برموشها وقد جحدتني بنظرتين ممتلئتين سقطت بعدها كما تسقط أمطار الخريف في الصّحراء… تتفتّح العيون كما تتفتح أزهار الصبّار والفلين والصّنوبر وقد انفصلت عن أغصانها كما تنفصل النّجوم عن سمائها وحين عدت ألتقط من شفتيها أنفاسا حارّة رأيتها تغزو بعطرها وكحلها  ذلك المكان و تدخل كالطّير من ذلك الباب الخلفيّ للذكرى وتخرج كالجرح العميق من ذلك الباب الأماميّ هكذا التهبت في جسدي ذكريات وسط ذكريات هي بحجم كلّ النّيران التي اشتعلت في تلك الغابات  نعم هي بالتأكيد بفعل فاعل مجهول اخترق تلك الأشجار الكثيفة في تلك الغابة المجهولة الواقعة بين الخدّين الصّخريين … قالت: هو من اختار دون موعد ذلك الموعد مع الحبّ وهي من اختارت ذلك الموعد خارج الموعد وألغت موعدا مع الحبّ و حسب تقديري هو موعد نهائيّ وحاسم لا يمكن أن يتحدّد بالوقت منذ طلوع الشّمس إلى غروبها كم أردت  أن أتسلّق تلك العيون وهي تحلّق كالطّيور النّاعسة تتثاءب كسولة و خجولة وهي تسكن في بيت مهجور اصفارت جدرانه بحيث لا يمكن أن تتذكر من رسم تلك اللوحة أو علقها بين نهدين كالجرحين في الجبل وكنت على ثقة عمياء أنّنا التقينا ذات مرّة في تلك اللّوحة الأثريّة وفي ذلك اللّون البنفسجيّ بالذّات واختبرنا نفس القلم بل ونفس الحبر هي من علّمتني الكتابة وأنا من علّمتها القراءة.. ونحن نرسم تلك اللوحة ونتعلّم الخطّ…هي من اختار الألوان و. أنا من اخترت الأشكال ولكن أين ذهب ذلك الفنان التّجريديّ لماذا ترك الفنّان اللّوحة على ذلك الجدار الفاصل بين زمنين أو بين نظرتين منذ عهدين منذ حبين وقد احتفظت بتلك اللوحة لأنّها مازلت تحتضن حبّا إلى ما لا ينتهي وهل بدأ الحبّ حتى ينتهي …. كلّ اللّوحات تحمل حبّا ضائعا كالحبر الضّائع لا معنى له …لم يعد هناك معنى وقد وضعت صورتي فوق ذلك الجدار قلت: بل ربّما كانت هي من تعمّد إشعال النّيران في تلك الأرض المجاورة. نعم هي من بادرت بالاعتداء وغزت أرضي وتركتها دون عصافير تغني….  حيث تجلس على حافة النّهر أنثى تملأ جرّتها ماء على حافة الذّكرى نعم كانت تجلس حافية تغزل الصّوف في تلك اللوحة هي تفضّل أن تبقى قرب جرحها تداوي جرحها وتتذكّر تفاصيل من حزنها قرب ذلك الموقد يلتهم كلّ شوقها ويعلو مع النّيران التي التهمت كل شيء ولم تترك شيئا هي التي خرجت من الذّكرى ولم تعد إليها وعندما خرجت لم تعرف من أين دخلت ومن أعطاها الإذن بذلك……ما فتئت تراقب بكبرياء الملوك تفاصيل ذلك الجبل الواقع بين النّهرين لا يبرح مكانه مزهوا بقوّته… كم حاولت إقناعها بضعفه وكم حاولت أن أنتزع من تفاصيل جسمها الصينيّ يرتفع مع الرّياح اعترافا بأنّي صرت ملكا عليها وهذا عرشي وقد رأيتها تتجاهل حدود مملكتي الشرقية قرب الحاجبين وقد توسعت بعد ذلك كثيرا على حساب حدودها الغربية بين الخدّين الصحراويّين كما أمرت جنودي البواسل باحتلال أرضها وأسرها وجلدها حتى تعترف بسيادتي على نهديها فما ضاع حقّ وراءه طالب ولو بالقوّة المهمّ أن أشعر بالانتصار عليها وهي تتسلّى ببقايا السّجائر تنشر دفئا كأريج العطر في الواحة وفي الصّباح الباكر ارتفعت الطيور إلى شرفتها تنذرها بتقدم الجنود على الأرض وما عليها إلا الاستسلام فوق هذا الفراش الصوفيّ وبعد معركة ضارية وقتال استمر إلى الهزيع الأخير من الليل قبل أن تطلع النشوة رأيتها تعلّق في شرفتها فستان الصّباح الورديّ ودون إنذار بالخروج أو بالعودة رأيتها تختفي وراء تفاصيل ذلك الثوب الهنديّ  وقد تعددت ثقوبه و بفضول الملوك اقتربت  من تلك الفسيفساء القديمة وعلقت اللوحة على الجدار ……. مازلت أراقب من بعيد تفاصيل الذّكرى تحترق أشجار الصّنوبر الكثيفة وتحلق مع طيور الصباح، حاولت جاهدا اختراق الذّكرى كما حاولت إطفاء النّيران وقد تعاظمت حين اقتربت من نهديها وقد تشكلا مثل وردتين أخذهما نعاس خفيف قرب عشّين ارتفعا بطائرين إلى أعلى شجرتين سحيقتين لا يدركهما إنس أو جان وقد زادت ألسنة اللّهب. لقد تحرّك في داخلي شيطان ماكر أمرني بالوصول إلى أطراف الغابة حتى أغتال ذلك النهد … هناك جزيرة نائية فيها عشب ومرعى وأبقار ترعى في طمأنينة وقد خشيت الذئب فقد يترصّدني فلا أقوى على مواجهته وحدي وقد انسحب جنودي وتلك أكبر خيانة عظمى عشتها بعد أن عدت من الذكرى أخيرا استسلمت إلى تلك النّيران وقد طوّقت جسدي من كلّ جانب، ارتفع الدّخان إلى السّماء غطّى ثوبها البنفسجيّ كنت واثقا أنّها هي من أشعل النّيران في جسدي؟ هي من ألقى تلك السّجائر في تلك الغابة التي تمتدّ إلى تلك الذّكرى تسكن في أعالي الجبال،  كم حاولت أن أتسلّق ذلك الجبل العنيد ينتفض بجناحيه مثل طائر بريّ داهمه الظّلام ويرفض الاستسلام ويكره منطق الهزيمة كم حاولت إخماد النّيران تلتهب في جسدي وقد عصفت به الرّياح من كلّ جانب بعد نظرتين قالت: أنا التي  اشعلت النّيران في ذلك الجبل… نعم أنا من دخل إلى تفاصيل تلك الذّكرى في تلك الغابة وحين دخلت لم أفكّر أنّي أستطيع الخروج؛ الطرق كثيرة وملتوية وضيقة… لا يهمّني وقت الخروج من الذكرى بل يهمّني وقت الدّخول إليها… لا يهمّني إطفاء النّيران بل يهمّني أن أرى ألسنة اللّهب تغتال ما بقي من بيوت بدت مثل مصابيح متناثرة تهدي كل عابر سبيل وقد تحمي تلك المصابيح الصفراء الذّكرى من الضياع قلت: ترى من شيّد تلك البيوت كالأزهار في البحر؟ ومن ترك الأبواب دون أبواب والنّوافذ دون نوافذ مفتوحة على أجمل ذكرى؟ من فتح تلك الجروح العميقة في جسدي؟ من صنع هذا الدّمار الشّامل بفراشي الصباحيّ؟ بعد جهد جهيد حددت الأبواب والنّوافذ داخل تلك الذّكرى تعبر خارج هدف حددته من تلك الذّكرى، قالت: أنت فجر لا ينتهي… قلت: ولكن هيهات هيهات… أنّى لي أن أصل إلى تلك الطّيور الفاجرة تدخن في أعلى شرفتها…، لقد رأيت في سيجارتها الفاخرة براءة مظلومة. كنت أعرف أنّ العاشق في طريق عودته من الذكرى وهو يتوغّل داخل الذّكرى لمسافات تقصر أو تطول كالمتهّم بريء حتى تثبت إدانته، لقد طلبت منها أكثر من نظرة، نعم أكثر من سيجارة؛ لقد أردت أن أحتوي كلّ نظراتها البريّة وحتى الصّخريّة منها  تعدو كخيول حمراء تشقّ ذلك النّهر دون استئذان، كما أردت أيضا أن أشعل كلّ السّجائر التي أطفأتها في هذا الكون دون أن تأخذ مني إذنا  بذلك؛ تلك جريمة حرب …ليس من حقّها أن تتجاهل نداء طيوري المحلقة في أجوائها الشمالية وقد تسللت خلسة إلى حدود أرضها الواقعة بين النّهرين وأعلنت الحرب…بعد أن فشلت كل الحلول السلمية ولم نخرج باتفاق يرضي الطرفين فعلا ليس من حقّها أيضا أن تجلس قرب النّخلتين العاهرتين تتذوّق تمرتين فاجرتين، لم أعرف من أعطاها الأمر بذلك؛ لقد بحثت عن سبب داخل سبب مقنع يجعلها تشعر ولو من بعيد أنّي أسير بجانبها لحظة بلحظة ودمعة بدمعة… لا تكفي نظرة واحدة أو سيجارة واحدة حتى أنشغل بالتّفكير لأني مازلت مترددا ولم أجب عن سؤال أين شاهدت هذا الوجه من قبل أنا أعرفه ولا أعرفه وأتذكره ولا أتذكره نعم لم أتذكر متى التقينا لماذا لم تتخلص الفتاة من السيجارة رغم أنها بدت كالزهرة الذّابلة بين شفتيها ترفض فراقها وهل كان يمكن أن تعترف أنّي مازلت أحبّها أو كان يمكن أن أحبّها؟ هل كان يمكن أن تلتقي العين بالعين ويذوب الكتف في الكتف دون تلك النّظرة العابرة لكلّ القارات؟ من حدّد ذلك الموعد داخل الموعد؟ أعرف أنّ الوصول إلى تلك الجزيرة النّائية صعب المنال… هي التي أدانتني بنظراتها تجوب الفضاء مثل طيور بريّة كاسرة ترفض الاستسلام وتستطلع المكان بحذر شديد؛ فجأة غيّرت وجهة السّير …ألقت سيجارتها أرضا… وتسلّقت بنظراتها النّجوم في كبد السّماء؛ حاولت أن أرتفع الى تلك الطّيور في السّماء وهي تتعرّى أمام نهرين يتركان تحت الشّفتين السّفليّتين حبرا للكتابة أو خريرا عذبا كالغناء وقد نقرت شفتيها بدفء لا يوصف…. أخيرا وقعت على عشّ لا يقترب منه إنس أو جان؛ هكذا أرادت أن تكون حيث لا يمكن أن أكون.. هي لا تعترف إلاّ بغرورها يخترق تلك الجبال ويناطحها

أثناء تسلق الممرّ الجبليّ الواقع بين القرصين الذهبيين تأخذك الذّكرى إلى فنجان القهوة يتبختر في تلك الشّرفة الضيّقة وقد أعطتني سيجارتها الأخيرة تعبر تفاصيل تلك النافذة المفتوحة على الذكرى شعورا بأنّي رأيتها ذات يوم أو ربّما كنّا التقينا في مكان ما بحيث لا يمكن أن نلتقي إلاّ نحن: أنا وأنت …كلانا لا يعرف لماذا قطف من البستان وردة بل لماذا خرج دون معطف يتحدّى طقسا باردا ينذر بهبوب العواصف؛ لم أجد بابا أتسلّل منه إلى جسدها الصّخريّ… نعم لم أجد حتّى ثقبا صغيرا في نافذة ما أتسلّق منه إلى فستانها أو غرفتها ….أمّا شرفتها فهي بعيدة؛ حقّا الطّيور بعيدة كذلك لحظات الحبّ قد تموت كما تموت النّجوم، حقّا الطّيور بعيدة كذلك لحظات الفرح وقد اختارت وهي تطوي الأرض طيّا و ربّما عن قصد أن تستفزّني بذلك اللّون الأحمر يغطي تفاصيل مهمة من فستانها وقد أخذني فضولي إلى دخول كلّ الحقول الشّاسعة فوق أرضها البعيدة كما أعطاني غرورها وهي تدّعي أنّها صاحبة الأرض ولا يمكن أن ينازعها في ملكيّتها أحد شعورا بأنّي اذا غامرت و انتزعت منها ذلك الحقّ وخاصمتها في ملكية الأرض سوف تتراجع وتعترف بأنّ أملك جزءا من تلك الأرض وقد زرعت فيها أكثر من نظرة بل أكثر من حبّ والان ومن حقّي أن أجمع  الحصاد ربما أغوتني تلك النّظرة وشجعتني على التمسّك بحقّي في الميراث وتطبيق قواعد الشرع فللذّكر مثل حظّ الأنثيين وللعاشق أيضا مثل حظّ العاشقتين بعد وقوع النظرتين وسقوط السيفين يأخذ العينين واليدين والشفتين دون رحمة وقد هددتك بذلك مرات وحذرتك من امتلاك  أسلحة الدمار… لن اترك لك شيئا فوق تلك الأرض فأنا صاحبها أنا من زرعت الأرض و ليس من الشهامة في شيء أن ترفضي حقّي الشرعيّ  في الميراث أنا رجل مقدّر عليك ويجب أن تعترفي بهذا الحقّ لابد أن تطبقي الشريعة وإلاّ كنت كافرة مرتدّة…أخيرا دون استئذان قمت  بتسلّق شجرة التّفاح وقد امتدت أوراقها ونشرت بظلالها الوارفة على كامل فستانها لم تمانع لأنها أحسّت أني أصرّ على ذلك لكنّها في المقابل تجاهلت حدود أرضي وحاولت أن تستولي على كلّ شيء في جسدي وقد رفضت الاعتراف بحقّ خيولي وقد غزت أرضها  في شرب الماء من تلك البئر العميقة  لقد كنت أنانيّا جدا  فقد سوّلت لي نفسي أن أستولي على كلّ أشجار التّفاح فأكون على إثم كآدم وحواء وبئس المصير نعم سقطت في الإثم.. ها قد طعنتني من الخلف وأردتني قتيلا، هي من فكرت بقتلي وقد أصابتني في مستوى العين بجرح عميق  يجعلك تحسّ أنك فقدت إنسانيتك؛ كنت على اعتقاد راسخ أن الانسان إذا عاد من الذكرى دون حبيبة تواسيه فقد انسانيته لقد تجاهلتني عدة مرات … كانت مثل خاتم ضائع في الظلام  من الصّعوبة بمكان أن تحدد صاحبه…أحسست أنها تعرفني أو ربما التقينا ذات يوم…في زمان ما حيث لم يعد هناك زمان أو لم يبدأ الزمان بعد…أحسست أنها تحمل حبّا ضائعا توفي صاحبه من نظرة واحدة…كنت بحاجة اليها…أردت أن أضمها إلى صدري…هي بالتأكيد حين خرجت كانت على موعد مع حبّ  أو ما يشبه ذلك الحب… لا يهم الوجه حتى لو كان ضائعا؛ المهم هو حبّ أردت أن اتمسك به وأنا أسير في هذا الطريق دون أن أحدد طريقي…ما أكثر الطرق …هذا شارع السعادة وهذا شارع الحرية وهذا شارع الحب؛ كل الأسماء أو الشعارات التي كتبت بالخط الأبيض جميلة وبراقة وقد جعلتني اواصل البحث عن السعادة فلا اجد حريتي… كما جعلتني أبحث عن الحب فلا أدرك السعادة حقا أذا أردت أن تبحث عن السعادة فما عليك الا أن تجلس في شارع السعادة واذا اردت أن تحقق حريتك فما عليك الا أن تخرج إلى شارع الحب… كل علامات الطريق تحرضك على الوقوف وترك الأولوية…وقد كرهت علامة “قف” لأنها تدفعني إلى الوقوف أنا وأنت…. لا أريدك أن تقفي في طريقي لا اريد من يتخلى عن احلامنا ومشاعرنا القومية؛ فهذا شارع فلسطين وهذا شارع العروبة …كل القضايا العربية نلقي بها في الطرق الضيقة ربما لأننا لم نجد لها من حلول كل الحلول على الطاولة مستعصية فكان من الافضل أن نلقي بها في تلك الازقة والانهج لأنها ضيقة جدا وليست بحجم الآمال العربية لم أفهم لماذا تحولت أحلامنا في الدول العربية إلى مجرد أسماء وتماثيل وأصنام معلقة في الطرقات والأنهج بل لماذا نرهق ذلك الشارع ونحمله مسؤولية تحرير القدس؟  كل الطرق الفرعية تحمل طموحات عربية لم تتحقق وفي مقابل ذلك نتباهى في شوارعنا الرئيسية باسم شارع باريس وشارع إنجلترا؟ أفهم أني لا أستطيع أن أفهم ولكن احاول أن أتذكر أسماء بعض المدن أو أسماء بعض العشاق ربما دفعني فضولي حتى أتذكر عروبتنا حتى أتذكر قضيتنا ما أكثر القضايا وما أكثر الأسماء البراقة …كل طرقاتنا مظلمة دون إنارة من تعمد أن يجعل شارع فلسطين دون إضاءة من تعمد أن يجعل شارع الحب دون ورود؟ لم تعد هناك حلول مات الحل ماتت الأزمة أو هكذا أرادوا لها أن تموت حتى تلك الفتاة الجميلة وقد كانت تشق الطريق بمفردها هي كالجرح على الجبل لقد جعلتني اشعر أنها جزء من أزمتي كل حركاتها واندفاع قدميها في الظلام قد زادا من شعوري بالأزمة حقا أنا في أزمة لم أجد حبا أنا بحاجة إليه لم أجد وردة أنا بحاجة الى رائحتها وقد فكرت أن أعاكسها في هذا الظلام عساي أنتزع منها اعترافا بأنها تحبني لقد تجاهلتني وهي تندفع واثقة من قدراتها الفنية على إغرائي بفستانها القصير هي تدرك أنها جميلة نعم  تدرك أنها مغرورة؛ حتى نداء السيجارة تجاهلته؛ حتى نداء الشارع الى الحب تجاهلته…شعرت حينها أني رجل فقير لا أستحق الحياة …لا استحق السعادة لا استحق الحرية مؤلم أن تتجاهلك أنثى في طريق عام  دون إضاءة أردت في ذلك الطريق الفاصل بين السعادة والحب أن أعاقبها فكرت في رفع دعوى ضدها لأنها تجاهلتني ورمت سيجارتي أرضا…. سيدي القاضي أنا لست براض على ذلك وأقسم بذلك وأدعوك أن تسلط عليها أكبر عقوبة قد تصل إلى السجن المؤبد بل قد تصل إلى إجبارها على الاعتراف بحبي لها …. يكفي أني أحبها لا يهمني تصرفاتها أو نظراتها بل يهمني استرجاع حقي…. أنا صاحب حق لأني أحبها وهي مدانة بهذا الحب إلى يوم القيامة حتى تتحقق العدالة أخيرا أصدر القاضي بعد مفاوضات عسيرة أمرا بأن يعود الحق إلى أصحابه فما ضاع حق وراءه طالب رفعت الجلسة حكم على المتهم بعدم سماع الدعوى.

مقالات ذات علاقة

صرخة

المشرف العام

تأثير السلطة المعرفية على الفرد والمجتمع

إبراهيم أبوعواد (الأردن)

رسالة إلى سلمى

فراس حج محمد (فلسطين)

اترك تعليق