في عام 1977 قام شاه إيران محمد رضا بهلوي بزيارة رسمية إلى أمريكا واستقبله الرئيس الأمريكي آنذاك جيمي كارتر بالبيت الأبيض بحفاوة بالغة، فقد كان الشاه ابرز مؤيدي السياسة الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط. وكانت الدوائر الاقتصادية الأمريكية تتطلع بنهم إلى الثروة الإيرانية المستجدة والتي نجمت عن ارتفاع أسعار النفط بشكل جنوني أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية؛
حرص المضيف الأمريكي على إرضاء غرور ضيفه الإمبراطوري فبالغ في الاحتفاء به واصطحبه إلى حديقة البيت الأبيض ليستعرضا معا طابور الشرف المصطف بالحديقة. ولكن مراسم الاحتفال هذه لم تخل من المفارقات، فقد كان المئات من الشبان الإيرانيين المعارضين لحكم شاه قد تجمعوا في الشوارع المحيطة بالبيت الأبيض وهم يصرخون بأعلى صوتهم بهتافات تدين الفساد والتعسف الذين تميزا بهما حكم الشاه؛ وما هي إلا دقائق حتى اشتبكت الشرطة الأمريكية مع الشباب الإيراني الغاضب و أدى ذلك إلى معركة شوارع استخدمت فيها الشرطة الهراوات و قنابل الغار المسيل للدموع بكثافة أدت إلى سقوط بعض منها بالقرب من طابور الشرف والزعيمين الدوليين.
ولقد عرضت شاشات التلفزة آنذاك صورة،أصبحت شهيرة فيما بعد، للرئيس الأمريكي يغالب دموعه و هو يخطب مرحبا بالشاه واصفا إيران بأنها “واحة من الديمقراطية في الشرق الأوسط ” وهو رأي دحضته الأحداث فيما بعد وتبين بعده عن الحقيقة. فإيران لم تكن أبدا دولة ديمقراطية. وكان الشاه صنيعة المخابرات الأمريكية التي أعادته للحكم عبر تخطيط وتنفيذ انقلاب على الدكتور محمد مصدق رئيس الوزراء الذي تجرأ وأمم الشركات النفطية آنذاك.
كان للرئيس كارتر إلا يقع في هذا الخطأ القاتل لو أنه قرأ كتاب ” إيران: الدكتاتورية والتنمية ” الذي أصدره المفكر والأكاديمي الأيرلندي فريد هاليدي في نفس العام وتنبأ فيه بسقوط وزوال ” واحة الديمقراطية..” هذه؛ فالكتاب دلل على القدرات التحليلية وعلى الرؤى الثاقبة للبروفيسور الشاب الذي ارتبطت حياته وأعماله بالشرق الأوسط ارتباطا وثيقا و جعلت منه أحد ابرز الأصوات المستقلة والمبدعة في حقل دراسات الشرق الأوسط.
وُلد هاليداي بدبلن عام 1946، وتابع دراسته في جامعة أكسفورد و”مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية”، ليلتحق فيما بعد بمدرسة لندن للاقتصاد وينال منها شهادة الدكتوراه عن أطروحته حول العلاقات الخارجية لليمن الجنوبي، وليعمل في عددا من مراكز البحوث الأكاديمية، حتى تقاعده عام 2008 ليصبح باحثا في “معهد برشلونة للدراسات الدولية” في كاتالونيا بإسبانيا، والتي بقى فيها حتى وفاته.
أثرى فريد هاليدي المكتبة العالمية بأكثر من 20 كتابا ومئات المحاضرات واللقاءات الصحفية والإذاعية والتلفزيونية. وبالإضافة لجهده في التأليف، فقد كان لفريد هاليدي مقالا شبه أسبوعيا في موقع الديمقراطية المفتوحة Opendemocracy.net
غطى فيه الأحداث العالمية من كوبا إلى فلسطين و من فنلندا إلى ليبيا.
ولقد تعرفت على الكاتب من خلاله كتابه الشهير ” الجزيرة العربية بلا سلاطين” Arabia without sultans والذي صدر عام 1975 وظل لسنوات عديدة احد أهم المراجع عن منطقة الخليج العربي. ورغم أن التنبؤات في الكتاب لم تتحقق، حيث بقي السلاطين واختفي الآخرون، إلا أن ذلك لم ينقص من قيمة الجهد المبذول أو من ثراء المعلومات حول الصراعات القائمة آنذاك بين الأنظمة المحافظة وبين التيارات اليسارية الممثلة في جبهات التحرير الشعبية و النظام القائم آنذاك في عدن.
ولقد مرت كتابات هاليدي بثلاثة مراحل، أولها أيام شبابه الذي اتسم بالنضال من اجل الأفكار اليسارية والماركسية واهتم فيها بمنطقة الخليج العربي التي جابها بحثا عن الثورات المنشودة في جبال ظفار وعمان وجنوب اليمن.وكذلك اهتم فيها بالثورة الإيرانية وخصوصا جناحها اليساري الممثل في فدائيي ومجاهدي خلق.
والثانية تلت سقوط الاتحاد السوفياتي والتي خرج فيها من العباءة الأيديولوجية متخليا عن أفكاره اليسارية السابقة ليعلن أن الاشتراكية والماركسية كانت مجرد نزعات طوباوية خُلعت عليها القداسة. وأن الديمقراطية والرأسمالية بإمكانهما أن تحدثا تطويرا في المجتمعات خصوصا أن تم تنظيمهما و أنسنتهما؛ وبالطبع فقد جلب عليه هذا الموقف انتقادات شديدة من رفاق الأمس.
أما المرحلة الثالثة فقد اتسمت باهتمامه الشديد بالمسائل ذات العلاقة بين الإسلام والغرب وسجالات العولمة والخصوصية الثقافية. فكان كتابه عن “العرب في المنفي: المهاجرون اليمنيون في مدن بريطانيا “، وكتابه “الإسلام والغرب : خرافة المواجهة” الذي يبين فيه كيف تكتسب الخرافة قوة ذاتية وتتحول إلى وقوداً للصراعات السياسية. وبعد هجمات 11 سبتمبر نشر فريد هاليداي كتابه «ساعتان هزتا العالم» (2001) الذي يدحض فيه الأفكار المسبقة لدى الغرب عن الإسلام، وينتقد بشدة فكرة صراع الحضارات.
أما كتابه ” مائة وهم حول الشرق الأوسط” فقد خصصه لدراسة البنية الثقافية لشعوب الشرق الأوسط وطرح من خلاله أراء مثيرة للجدل. تميز هاليداي بإتقانه للغات فإلى جانب العربية التي كان قادرا على إلقاء المحاضرات بها كان يتقن الفارسية والألمانية والفرنسية والروسية والاسبانية، إضافة إلى إلمامه باللاتينية واليونانية والإيطالية والبرتغالية.
بعد حياة غنية بالعطاء والتقلبات وبالإبداع الفكري والنضال من أجل العدالة والقيم الإنسانية رحل هاليدي بسلام يوم 22/4/2010، والعزاء أن أفكاره وأرائه ومواقفه ستضل مرجعا لكل من يسعى لفهم العالم في الفترة من عام 1945 وحتى عام 2010 ولكل من يسعى لاستيعاب السياسات المعقدة والصراعات الصعبة التي جرت على أرض العالم في تلك الفترة.
* بعض كتابات فريد هاليدي التي نشرت بالعربية:
– الإسلام وخرافة المواجهة: الدين والسياسة في الشرق الأوسط.- القاهرة: مكتبة مدبولي, 1997.-
– الأمة والدين في , 2000الأوسط.- لندن: دار الساقي, 2000.-
– ما بعد الماركسية.- دمشق: دار المدى 1998.
– دقيقتان هزتا العالم 11 أيلول/سبتمبر 2001- بيروت: دار الساقي 2002
– الكونية الجذرية لا العولمة المترددة.- بيروت: دار الساقي 2003
– 100 وهم حول الشرق الأوسط.- بيروت: دار الساق 2006
– صراع الأصوليات الثقافية.- ندوة التحولات المجتمعية وجدلية الثقافة والقيم الدوحة: 2007.