عيد ! عليه مهابة وجلال ***** عيد! وحسبك أنّه استقلال!
واستقبل التاريخ مظهر دولة*** فأهلّ في برج السعود هلال
وزها بتاج النصر شعب قاده******* ملك، أغر، كأنه الرئبال
ملك ،عصامي الجهاد، لأصله **** في الملك أجداد له أقيال
( الشاعر احمد رفيق المهدوي)
(الصورة الملك إدريس يعلن للشعب استقلال ليبيا من شرفة قصر المنار)
أحمد رفيق المهدوي الذي بوّأه الليبيون بسبب ممانعته للاستعمار وما بعده … ! مكانة شاعر الوطن ،والذي توسّل الضحك مطيّة لنقد إكراهات الحياة التي جوهرها السياسة ،واعتمد النسيان بوصلة يتجاوز بها ضياعات الماضي ،مثبتا بصره وبصيرته في مستقبل الوطن ووعوده ،لم يجهل،أو ينسى يوما أن جلال الاستقلال ،وهيبة الملك صانعه ، وجهان لعملة واحدة .
محمّد إدريس السنوسي ملك ليبيا الأوّل والأخير الذي خذلته كما أشاع المؤرخون والسياسيون المعاصرون له عائلته التي سمّمت ابنه الوليد ليخذله فيما بعد عقمه في إنجاب وريث لعرشه من صلبه ممّا جعل وراثته مطمعا لأقاربه الموتورين وبعض رجال قصره الفاسدين ،وبطانته السياسية التي أبطرها النفط فأجّج أطماعها ،وعمّق خلافاتها وتجاذباتها ، وضبّاط جيشه الذين تقاسمت كبارهم الأطماع والقبليات و تجاذبت صغارهم الأيديولوجيات والأفكار القومية التي سادت في النصف الأوّل من القرن العشرين ،وأنتجت الانقلابات العسكرية المشؤومة في نصفه الثاني . كما ساهمت الشركات النفطية والاستخبارات الغربية التي تتخّفى وراءها والتي لم يلبّ إدريس اجنداتها فأحكم إغلاق ملكيته بهيبته الدينية ورمزية جهاد أسلافه السنوسيين ومشروعيته التي استمدها ليس فقط من الدستور الذي كتب باسم الشعب وروعيت فيه إرادته . بل أيضا من حنكة سياسية وحكمة حققّت إنجاز الاستقلال المجيد ، وأسست لتقاليد دستورية وقانونية ومؤسسات سياسية أسبغت تنمية وحداثة على البلاد كانت مضربا للمثل في بلدان العالم الثالث حسب الظروف المتاحة في ذلك الوقت . وهو ما دفع هذه القوى أن تدبّر عليه انقلابا نفّذه ضّباط صغار جلّهم من أصول ريفية يقودهم ملازم مسكون ببرانويا البداوة وعقد النقص والمراهقة الفكرية .
كل أنواع الخذلان هذه لم تكن حاسمة في رأيي المتواضع حسم صوته الشاحب المحشرج المثقل بوطأة المسؤولية ،المضمر مخاوف الغد ، وهو يعلن بيان الاستقلال من شرفة قصر المنار بمدينة بنغازي في الرابع والعشرين من ديسمبر عام 1951م . هذا الصوت الذي كان مثار ضحك أبي الأمّي المسكون بصوت (جمال عبد الناصر) الشجّي الرخيم الذي دفعه مبكّرا لشراء راديو ماركة (فيليبس) جديد بالتقسيط لأجل التمتع بسماعه ، ومن أمي التي عادة ما تنذّرت كغيرها من الليبيين دون اعتبار للهيبة الملكية على شحوب صوت الملك فوصفته بحشرجة الطفل المصروب .
تنذّر أمي الباسم ودعابة أبي الضاحكة الموروثان من روح الشاعر (أحمد رفيق) الليبية في عفويتها هما ربما من مهّد الطريق لذلك النوع من الضحك الخطر الذي، وصّفه ببراعة (ميلان كونديرا) في روايته (كتاب الضحك والنسيان) مسمّيه بـ”ضحك الشيطان” لما فيه مما هو شرير . ذلك الشّر الذي دفع كما أشيع في ذلك الوقت شبّانا ليبيين منتمين لحزب سياسي قومي عروبي لكتابة منشورات سياسية مسيئة للملك الورع كانت من ضمن ممهّدات انقلاب الجيش في 1969م فضّلت الشيطان إبليس على إدريس ذاته الذي جلب لهم استقلال ليبيا على طبق من ذهب فلم يشعروا بقيمته التي نبّه لها دائما بنبوءته التي كان يبثها راديو المملكة باستمرار في العشرية الأخيرة من عهده الملكي الدستوري بأن : (المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله ) .
لقد أسدلت السنون الأربعون للعهد الانقلابي المشئوم في 1.سبتمبر 1969 ستارا من النسيان على حدث الاستقلال المجيد مما جعل جيل أو جيلين من الليبيين يجهلون أن بلادهم استقلت عن الاستعمار وانتدابات بعض الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وأطماع بعضها الآخر ،ليفّتك الليبيون شعبا ونخبا سياسية وملكا بدأبهم وإصرارهم استقلالهم تحت رعاية (الأمم المتحدة) من براثن هذه القوى الدولية الطامعة والمتنافسة على الكعكة الليبية الشهيّة والواعدة استراتيجيا وبعد ذلك نفطيا .
(ميلان كونديرا) الذي يفلسف بعمق وذكاء في جلّ رواياته تناصّاته مع كتّاب كـ: غوتة ورمبو وهيمنغواي، وفلاسفة أوروبيين آخرين كـ : نيتشة ، يدفع الفتاة الأمريكية (غبرييل) التي تدرس الأدب الفرنسي في مدينة فرنسية نائية أن توافق تأويل صديقتها (ميشيل) : أن هدف رمز (وحيد القرن) في مسرحية( يوجين يونسكو) التي تحمل هذا الاسم هو أن يخلق تأثيرا مضحكا .فالأشياء التي تتجرّد ، فجأة حسب كونديرا من معناها المفترض ، ومن موقعها الذي أعطي لها في نظام الأشياء المزعوم ، تحدث فينا الضحك الذي هو من الشيطان لما فيه ممّا هو شرير .
لقد حمل خطاب إعلان الاستقلال القصير المقتضب كل المعاني والبلاغيات التي يمكن أن يحملها خطاب استقلال بذلت في إنجازه تضحيات جمّة غالية فالملك يفتتح كلامه باسم حلم الأمة الليبية الكريمة وليس باسم واقع أسمه الليبيين يتكوّن من شتات من الفقراء الجوعى والمرضى والأميين عانوا لأزمان ضروبا شتى من الحرمان والأذلال. ويؤسس لحرية وسيادة بلاد نفّذت بقرار أممي كانت ورائه تضحيات الشهداء وحلم الليبيين في حياة حرة كريمة وسعي النخب السياسية الوطنية الدؤوب وتوافقها على وحدة البلاد واستقلالها ، وإرادة ملكية مؤسسة على شرعية الدستور وهو ما مثل تحوّلا ثوريا في ذلك الزمن العربي الذي كانت تهيمن عليه ملكيات وإمارات خرافية قوروسطوية ، وستهيمن عليه فيما تلى من الأيام دكتاتوريات عسكرية استمدت شرعيتها التي نفّدت بالمدفع والدّبابة وصيغت ببيان انقلابي أرعن .كما يشير الخطاب أيضا إلى رمزية العلم الوطني بأيقوناته التي يصفها بالقداسة مع رجاء أخير بأن يفتتح الاستقلال عهد رخاء وسلام للبلاد الليبية .
(الصورة الملك إدريس يتلو إعلان الأستقلال وبجانبه رئيس الحكومة محمود المنتصر)
ما لفت انتباهي وأن أستعرض الصور الفوتوغرافية التي أرّخت لحدث خطاب إعلان الاستقلال ، تواضع مظاهر الهيبة التي جلّلت طقوسه ، إذ رافقت رمزية الملك إدريس التي هيمنت على الصور ، رمزية النخبة السياسية التي ستقود البلاد فيما بعد والتي مثّلتها صورة أول رئيس حكومة اتحادية (محمود المنتصر) ورمزية الشعب الذي اصطف بانتظام وبهاء على الأرصفة المحاذية والمقابلة لقصر المنار في مدينة (بنغازي) يحذوه الأمل في غذ فتّحت وروده وفاح الياسمين من حقف طيوبه التي ستطمسها بعد ثماني عشر سنة من يوم الاستقلال إيدي ثلة من العسكر المغمورين الانقلابين الذين امتطوا دّبابة لطّخت بشؤم ودّم ، هو ما نخوض فيه حتى اليوم .