في روايته عشب الليل يتساءل الكاتب إبراهيم الكوني مدعياً الكلام بضمير أبناء شعبه التوارق “هل خذل الخفاء إنسانا استجار به يوما ووجد ماخوذا على غفلة؟”
رغم مبالغته الأسطورية في إبراز هويته الأثنية، إلا أن الكوني لا يستطيع أن ينأى بإثنيته التوارقية أو أن ينسلخ عن هويته كاتباً، متموضعاً في الثقافة الوطنية الليبية التي تحاكم أساطيره وتضعها بمنهجيات التحليل العلم ـ أدبي في سياق الأنتروبولوجيا العلامية، بدل سياق الفلسفة الذي يفتقد الكوني لكفايته المعرفية والأبستمولوجية.
بالعودة إلى سيرته كاتباً. ابتدأ إبراهيم الكوني كأقرانه الكتاب الليبيين بكتابة القصة القصيرة فنشرت له ـ في انقطاعات زمنية ـ مضمومة في أربع مجموعات قصصية قصيرة .بعد نشره لـ “خماسية الخسوف” في أربعة أجزاء، وبدء من روايته “المجوس” أثقل المكتبة الليبية بجبل من الروايات الملحمية تتمدد في صحراء كتاباته الكبرى سراب يتبعه سراب. الملفت في زخمه الروائي بعد رواية “المجوس” أنه جاء بعد انقطاعات زمنية. فبين أول مجموعة قصصية “الصلاة خارج نطاق الصلوات الخمس” التي نشرت للكاتب، وثاني مجموعة “جرعة من دم” فارق تسعُ سنوات، وثالث مجموعة “شجرة الرتم “فارق أربعُ سنوات، ورابع مجموعة “القفص” فارق ستُ سنوات. وسنة بعدها يستنفذ الكوني رمزيات عالمه الأيقونية المحدودة الدلالات كـ موضوعة درسنا “اللثام” فيضطره نفاذ زاده الواقعي إلى اللجوء فيما بينته إنثروبولوجية جلبير دوران إلى المُخيلي والرمزي ويقصد التصعيد من الأيقوني إلى الطقسي إلى الأسطوري فتصدر له القصتين الطويلتين (نوفيلا) “نزيف الحجر”، و “التبر”. اللتان تسبقهما بثلاثة أعوام “خماسية الخسوف” التي صدرت كرباعية روائية، لم تكتمل بكتاب خامس .
وبناء على ما سلف فإننا نُقرّ ما أورده جلبير دوران في إنثروبولوجيته في الرمزية التخييلية بأن “التصنيف الموجز للرمز، بما هو دالول يعود لمدلول خفي، ومن هنا فهو مجبر على تجسيد مادي لهذه الملائمة التي تفلت منه”. إشكالية عدم الملائمة العلامية، نرصد الإخفاق في تجسيدها المادي متتبعين ذلك في نصوص الكاتب إبراهيم الكوني المبتدئة قصصاً قصيرة في مجموعاته: 1 ـ ” الصلاة خارج نطاق الصلوات الخمس” دار الكتاب العربي ـ طرابلس ط 1. 1974 :”لم ينبس (الدامومي ،استمر صامتاً، لاهثاً امتدت يدها (تميما وانتزعت لثامه المبلل، لم يشعر بالحياء” ص34 ـ 35 .(… راقب الهادي (سي الحافي وهو يصر على أسنانه ،ثم يستغفر الله ،تساءل عن السبب ،مع دخول مبروكة ،ترتدي لباس المناسبات تحجب عنه وجهها ،تسلّم عليه من خلال طرف ردائها الملون في جلال كما تفعل مع كبار الضيوف .سبحان مغيّر الأحوال ،هل لأنني ارتديت لثاماً كبقية الرجال؟!!“(ص74 .2 ـ “جرعة من دم” المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان ط 1 1983 “كلما عاد ( آخنوخن من رحلة صيد إلى البيت مهزوماً يُحكم اللثام حول رأسه ،لايجرؤ حتى أن ينظر في عيني إمرأته، يدفن رأسه في الصحن: يأكل التمر ،يشرب الحليب، وغالباً ما يخفي عاره متظاهراً بمداعبة الطفل ،أو الاعتناء بالمهري” ص22 .3 ـ “شجرة الرتم “،المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان ،ط1 1986 “يعود مجللاً بالعار أحياناً أخرى، في غيبوبة، حاسر الرأس، حافي القدمين، بعد أن سلب العطش الوحشي وعيه” ص38 .4 ـ”القفص”، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان ـ دار الآفاق الجديدة المغرب ط2 ـ 1991 “التقت النظرات، وتسابقت الأيدي لإنزال الأقنعة على العيون . عمّ الخجل” ص 115 . في القصتين الطويلتين نوفيلا “نزيف الحجر” ،و”التبر” الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان ـ دار الآفاق الجديدة المغرب،ط2 ـ1992 :في نزيف الحجر “لم يعرف آسوف، ماذا يفعل بنفسه. لعن يوم وُلد ويوم سكنه خجل العذارى”ص44 و”لم يعرف ماذا يصنع آسوف بيديه، فأخفى ارتباكه بتعديل العمامة على رأسه” ص40 .”وفي التبر” تقاطع الشاعرة الخبيرة أوّخيد فجأة بأنه : لا يعيب الفارس أن يعدد خصائص مهريه،ويتحدث عنه كملاك، ولكن لقصائد المديح شروطاً .مهريك لم يذع صيته في معركة، ولم يشتهر في حفلات الرقص”.”إرتبك أوخيد وأخفى خجله خلف زمالته”.
المتتبع لخماسية الخسوف بأجزاءها الأربعة: البئر ، الواحة، اخبار الطوفان الثاني، نداء الوقواق. يلحظ أن الراوي العليم يمحور سرده حول الشيخ غوما الذي لثامه أو قناعه مفردة أساسية من مفردات شخصيته أو بالأحرى سيكولوجيته التي يتفق فيها مع الدامومي، والهادي، وآخنوخن، وآسوف، وأوخيّد، الخ. يمكن تلخيصها في: ” الحياء ، ادعاء الرجولة، الخجل من مواجهة الأغراب، عار الخجل ،إخفاء عار الفشل في الصيد، عار غياب العقل بسبب العطش. بل يضيف إليها في الخماسية ،والمجوس فيما يخص الشيخ عوما الذي” يخفي وراء قناعه (لثامه أشياء غير الخجل من الهزيمة، والوقاحة في احتقار المزارعين مثل بقية أهل الصحراء”. هنا نحن بإزاء منعطف تأويلي للثام به يحوّل الكوني وظيفته الطبيعية، مسقطاً عنه عفويته ليصيره ايقونة إخفاء ثم تطور ليصير قدراً ميتافيزيقا مُسلطاً على مخلوقات سرده الملحمي ،فمن وسيلة للتلثم أو للتقنع هي عنصرٌ من العمامة والزمالة يستجير بها التوارق الدين أطلق عليهم وصف “أمّة التكوين في صحرائي الكبرى” ،وأسمى معتقداتهم في التخفي بأساطير أمّة الملثّمين. “يستطرد المتحدث في أخبار الطوفان الثاني للحاضرين : “يُجمع حكماء الواحة أن الشيخ غوما نسيج وحده من البشر .يُجزمون أنه الوحيد الذي يخفي وراء قناعه (لثامه أشياء غير الخجل من الهزيمة، والوقاحة في إحتقار المزارعين مثل بقية أهل الصحراء ،يخفي أشياء تخفى حتى على الحكماء وأهل المعرفة والعلم. فيؤكد الخبراء في التعامل مع الدنيا الآخرة أن ـ وهنا يلتفت المتحدث يمنة ويسرى ويُخفض صوته ويهمس في أُذن اقرب جليس ـ إن صلته بمعشر الجن وثيقة!ـ ،ويضيف محاولاً أن يُضفي على نبراته الغموض الذي تعود الأهالي أن يصبغوا لغتهم عندما يتحدثون عن عالم ما وراء الطبيعة” ص13 . ففي هذا المقتطف من الجزء الثالث “أخبار الطوفان الثاني” من خماسية الخسوف أبوذر الغفاري للنشر ط 1 .1989 ينقل الكوني اللثام من وظيفته الذرائعية كوسيلة في كتاب الطبيعة إلى حافز ووظيفته الحوافزية يستمدها في كتاب مابعد الطبيعة بنسبته إلى الأشياء المتخيّلة التي توهم بما هو واقعي، ويدخل في ذلك حتى ما يسميه جلبير دوران بـ” لعبة المبالغات الأسطورية، الطقسية والأيقونية ،التي تصحح، وتكمل عدم الملائمة بلا انقطاع” .