المقالة

بمناسبة الهجرة.. هل عرفنا حقا من هو محمد؟

محمد صلى الله عليه وسلم (الصورة: عن الشبكة)

في واد قاحل أجرد منسي من الزمان بعيدا عن هدير الحضارة ولد آخر النبيين.

عاش سنوات عمره في هذا الوادي المنعزل رجلا طيبا نبيلا كريما شجاعا عطوفا طيب اللسان والقلب مفرط الحنان.

وحين صدع الأمر الإلهي باحتبائه ليكون رسول آخر الزمان أخرج من موطنه مكة قسرا، وأسس دولته في المدينة بعد رحلة شاقة من الصبر على الأذى، والصبر أيضا على تعليم الناس المبادئ والقيم الجديدة لرسالته الشريفة.

أسس دولته الحديثة في يثرب، وأقر حرية الفكر والمعتقد، وعاش عشر سنوات هناك قبل أن يتوفاه الله، ولم يجلد أحدا ولم يرجم أحدا ولم يقطع رأس أحد ولم يضرب طفلا، ولم يكتب التاريخ أنه زجر خادما أو نهرا سائلا أو شتم حتى دابته، أو أسس هيأة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقبض على الناس وتكسر عظامهم بالعصي وتكرههم على الالتحاق بالمساجد، بل وصل الأمر إلى أن الناس كانوا يتركونه وحيدا قائما يصلي ويهرعون إلى متاع الدنيا من تجارة أو لهو، ولم يغضب ولم يعنفهم ولم يشعر بأن كبرياءه جرح أو أن عظمته أهينت..

أكرم المرأة، ورفع عنها الكثير من الأغلال، بل رسخ مبدأ المساواة التامة بينها وبين الرجل في كل مناحي الحياة.

وكان يأمر الناس بالبر والإحسان والرأفة بالمساكين وهم فئة المعاقين ذوي الاحتياجات الخاصة، وإكرام الأيتام والضعفاء، ويأمرهم بالإحسان حتى للطير والشجر والحجر، وكان يحب الصفح والعفو، وينهاهم عن الظلم والبغي وقول الزور وأكل السحت، وكان يحذرهم تحذيرا شديدا من مغبة سفك الدم الحرام والعدوان والفساد في الأرض.

وهو لم يحارب إلا من حاربه وبدأه بالعدوان، لذلك حتى الحروب التي خاضها مُكرها كان يوصي جنده بالتقوى ويوصيهم بألا يظلموا أحدا وألا يقتلوا شيخا أو طفلا أو امرأة أو رجلا يتعهد غرسة أو راهبا في صومعة، وكان يحسن معاملة الأسرى ويوصي بالإحسان إليهم وعدم إذلالهم أو تعذيبهم، بل كان يشرف بنفسه على إطعامهم ومداواة الجرحى منهم قبل إطلاق سراحهم.

عاش في دولته في سلام مع طوائف شتى، يهود ونصارى ومنافقين ومشركين ومن حول المدينة من الأعراب، ولم يكن جبارا باطشا، ولم يجبر أحدا على اعتناق دينه بل ترك حرية الاختيار للناس تحقيقا لكلمة الله التي سبقت بأن الناس أحرار في اعتناق ما يشاؤون ولكنهم مسؤولون عن هذا الاختيار، ولم يقتل أو يشنق مرتدا خرج من دينه.

وحين قبض بعض أصحابه على رهط من قريش ارتدوا عن الإسلام بعد صلح الحديبية وأحضروهم أمامه مقيدين بالحبال قال لهم اتركوهم فلا حاجة لنا بهم، ولم يأمر بقتلهم أو قطع رؤوسهم.

وحتى ما يقال على أنه حكم على بني قريظة بقتل الرجال وسبي النساء فهذا غير صحيح، وهذه الروايات إنما من الأشياء التي دُسّت عليه زورا ونسبت إليه وهو منها براء.  فبنو قريظة عندما أرادوا قتله غدرا ونكثوا بالمعاهدة التي أبرموها معه رفضوا حكمه وأبوا إلا أن يُحكّموا غيره، واختاروا سعد بن معاذ ليحكم. فحكم فيهم بحكم التوراة كتابهم الذي يقول: (أما أَعدائي، أُولئِكَ الذين لم يريدوا أَن أملك عليهم، فَأْتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي). فحكم فيهم سعد بن معاذ بحكم التوارة الذي اختاروه هم بأنفسهم، ولو رضوا بحكمه لكان خيرا لهم.

 لم يكن يعرف الغل ولا الحقد أو الانتقام ولا التشفي، ولم يسمعه أحد يتضرع إلى الله متمنيا الهلاك والحرق في جهنم لمن لم يتبعه، ولم يسمعه أحد يلعن أحدا أو يشتم أحدا، ولم يشهد أحد أنه أرسل عسسه لاقتحام بيت منافق أو كافر في المدينة أو مكة التي وقعت في قبضته بعد ذلك، بل احترم حرمة الناس ولم يرسل جنده لدخول البيوت في مكة وتطهيرها من الأصنام، بل أمر فقط بتحطيم أصنام الكعبة وتطهير البيت منها سيرا على خطى جده إبراهيم (وهو أمر لم يكرره نبي بعد إبراهيم).

كان يقول للناس لا إكراه في الدين، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إن أنا إلا نذير، وكان يوصي الناس بالمحبة ومد يد الخير والإحسان حتى للدواب والبهائم، وكان يقول خيركم خيركم لأهله، ويقول عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل، وكان يقول أوصيكم بالنساء خيرا، ويقول ادفع بالحسنة السيئة تمحها وخالق الناس بخلق حسن، وكان يقول كلكم لآدم وآدم من تراب.

ولم يقبضه الله إليه إلا بعد أن ختم المحرمات (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ……)، ولهذا لا يحق لأحد بعده مهما علا شأنه أن يوقع باسم الله ويقول هذا حرام، لأن رسالته هي الخاتمة وهي للناس أجمعين حتى نهاية الحياة، ولأن التحريم هو حق إلهي وحصري لله فقط. ولذلك اكتفى النبي بالنهي والأمر فقط وسن القوانين (ضمن المتغير وهو مبدأ تقييد وإطلاق الحلال) بما آتاه الله من سداد رأي وحكمة ونفاذ بصيرة وبما تقتضيه مصلحة الدولة والضرورة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحاجات الناس.

هكذا عاش محمد الأعظم، إنسانا ونبيا ورسولا وحاكما لأول دولة مدنية في التاريخ أرست حقوق الإنسان والحيوان وأقرت التعددية، وبنت قواعدها على المساواة والعدل بين الرجل والمرأة، وبين الجميع، أدى رسالته ثم غادر هذه الدنيا أمينا عفيفا نظيفا طاهر الروح واليد.

هذا هو محمد الذي عرفته..

وهذا هو محمد الذي أخبر أطفالي عنه.

صلى الله عليه وسلم ما دامت السموات والأرض.

مقالات ذات علاقة

الزهايمر والكُتّاب – الجزء الأول

محمد قصيبات

“سافو” يكتب خلاصة “يوسف الشريف”

سالم العوكلي

الصالونات الأدبية بين “الفيسبوك” وجدلية الواقع

سعاد الورفلي

اترك تعليق