يغوص المنقبون عن الذهب في الوحل، يغربلون أطنانا من التراب كي يحصلوا على جرامات قليلة من الذهب، هذا ما يسمونه الخلاصة، بالمعنى نفسه الذي يعطيه الكاتب يوسف الشريف لكتابه “الخلاصة: أسئلة وكلمات” الصادر عن مكتبة طرابلس العلمية العالمية 2017، والذي يحاول من خلاله بلورة تجربة مثقف شغوف بالأسئلة في مجتمع شغوف بالأجوبة الجاهزة، ولم يسع من خلال هذا السرد لأن يكتب سيرة بالمعنى الأوتوبيوغرافي التقليدي، لكنه عمل على غربلة معيش هذه السنين الطويلة من أجل الحصول على خلاصة يقول عنها في مفتتحه الإجباري “هي ليست خلاصة سيرة ما بين ميلاد وموت. هي خلاصة بعض أفكاري وأسئلتي وما اعتقد في الناس والحياة وقليل من سيرة حياتي، لم أخترها وفق أية معايير أو وفق أية لغة إذ تركتها في أقصى درجات عفويتها وصدقها” بمعنى أنها سيرة ثقافة، ومثقف تأثر وأثر، أكثر منها سيرة ذات، ينطلق فيها من كون الثقافة والأسئلة والأفكار هي المشترك الذي يجمعه بالآخرين الذين لا تعنيهم وقائع حياته الخاصة إلا بقدر ما يكون الآخرون فيها، أو بقدر ما يكون لهم دور في تكوينه الثقافي، وفي شحنه بالأسئلة الشائكة التي لاحقته منذ الطفولة، ومنذ إن كان اسمه عند مولده “سافو” الذي لا يعرف معناه ولا يعرف من أطلقه عليه، لتغدو كل هذه السنين محاولة دائبة من أجل البحث عن إجابات لهذه الأسئلة، أو على الأقل طرحها بطريقة مختلفة.
أسئلته التي يحس أنها الوشيجة التي تجمعه بالفضول الإنساني أينما كان. أسئلة “توقفت على ضفة القلب وعلى طرف اللسان ورأيت أن أطلقها لعل بعضها يلامس أسئلة أخرى في مكان ما وزمن ما” وما يلفت في هذا البوح جملة (توقف الأسئلة على ضفة القلب) رغم أنه من الموضوعي أن تذهب الأسئلة إلى العقل، لكن هذه المفارقة هي جوهر مشروع يوسف الشريف الثقافي والإبداعي، الذي تميز بعاطفة حارة رغم عقلانيته الظاهرة التي تتبدى في جدية وجرأة طرح أرائه دون مواربة ، وهذا ما يجعل من الصدق سمة كتاباته الرئيسية، الصدق الذي تميز به يوسف بين أصدقائه وفي كل مواقفه، حتى وإن كان على حساب علاقاته، أو على حساب الخيال أحيانا أو جمال العبارة، لأنه لا يرى الجمال في محسنات بديعية أو في بلاغة ولكن في صدق ما تقوله الصياغة، صدق العبارة، صدق المفردة، وبالتالي صدق الأسئلة، لأن الأسئلة التي لا تنهض من تجربة، أو من حرقة، أو من ألم، مشكوكٌ غالبا في صدقها.
يهدي الشريف الكتاب لصديقه نجيب الحصادي مع جملة “حيث يبدأ القلب” ومن هذا الإهداء نتلصص على المنهج الوحيد الذي يحكم هذه الفصول، وهو الاستعانة بذاكرة القلب في كل ما سوف يأتي وبلسان القلب في كل ما سيقول، لأن ما يقع خارج القلب جدير بالنسيان حتى وإن تبجح العقل به. الخلاصة من المفترض أن تعني الختام أو النهاية لكن “حيث يبدأ القلب” تدحض هذا المعنى التقليدي لتجعل من مفهومه للخلاصة ولادة جديدة للأسئلة والأفكار، أو كما يقول “الخلاصة ليست نهاية لمن كان موجودا، بل هي خلود لهذا الكائن”. وما الذي يجعلنا نكتب إلا هاجس الخلود الذي لاحق الفنانين والشعراء والنحاتين والحكائين والراسمي خلاصتهم على جدران الكهوف منذ فجر البشرية.
يعيد الشريف الاعتبار للقلب حين يفكر ويسأل في زمن كان التغني بالعقل كوجيتو المثقفين الذين يعتقدون أن الفكر تلوثه العاطفة، غير أن هذا الكتاب الذي تمليه الحواس جميعا على مؤلفه يقول أن المعرفة تدين للتجربة، وأن التجربة لا يمكن أن تمارس إلا بالحواس جميعها، لذلك يدين الكتاب في جل فصوله لكل ما سمعه ورآه ولمسه وشمه وقرأه وتذوقه المؤلف في كل هذه السنوات ، وهذا المزيج الشامل من مصادر المعرفة ومن تحسس الأسئلة بالأذن والعين والأصابع يجعل من هذا الكتاب/ الخلاصة متفردا إلى حد كبير، حيث يحل فيه صراع الأسئلة والثيمات محل الترتيب الزمني، وكرونولوجيا الشغف بدل ترتيب المراحل، فلكل فصل عنوان خاص، وكل عنوان حكاية، وكل حكاية لها شخوصها التي تظهر وتختفي بعد أن تركت ذكرياتها منحوتة على جدار القلب الكبير.
حينما أقرأ كتبا كنت أحس كأني أسمع طرقات الآلة الطابعة لمؤلفه وهو يكتبه كلمة كلمة، وفي كتاب الخلاصة لم أسمع إلا طرقات نبض يوسف الشريف؛ آلة هذا الكتاب الطابعة، ولا يمكن إلا أن نحس بطزاجة الأفكار وحرارتها، وبأنفاس الأسئلة اللاهثة، وبفضول الطفل وهو يطوح بأسئلته في كل اتجاه دون أن ينتظر إجابة، وكم كانت أسئلة الأطفال التي تحرجنا أجوبةً في حد ذاتها.
ما يميز أيضا هذا القلب أنه ظل قلبَ طفل دائما، أو مثل ما يكتب الناشر في تصديره على الغلاف، بحصافة، عن ميزة هذا الكتاب المتمثلة في “صدقه الذي يذهب إلى أقصى مدى لأن قلب كاتبه لم يغادر طفولته.”. نعم لم يغادر طفولته وهذا شأن كنا نختبره دائما في علاقتنا الشخصية مع يوسف الشريف، فهو المندهش دائما والمبهور بكل جديد وجميل، والطارح أسئلته بعفوية، والخائف دوما من العتمة ومن الأشباح خلف “الجدار”، الذي لا يتوانى عن الإجهاش بالبكاء كطفل مفجوع عند كل فقد. ولعل ولع الشريف بالطفولة والأطفال، وتسخير حياته من أجلهم ومن أجل الكتابة لهم والغناء لهم والترجيب عليهم، ما جعل قلبه أبدي الطفولة، أو لعل قلبه الأصيل الطفولة هو ما جعله ينذر حياته وجهده وقريحته من أجل الأطفال في علاقة عضوية جوهرها الجدل، وهو المشروع الذي يعتبره خلاصة الخلاصة، أو كما يعترف دون تردد “بالنسبة لي لو خيرت عن أي خلاصة أتمنى أن تبقى مني لقلت ما كتبت للأطفال، فقد ألفت ونشرت عشرات الكتب والمعاجم لمراحل الطفولة الثلاث، وترجمت وكتبت بلغة أجنبية، وكنت السابق فيها جميعا. أنشأت (مكتبة الطفل) لتوزع الكتب على الأطفال مجانا تشجيعا لهم على القراءة ، أما ما عداه فليس له من قيمة استثنائية يمكن أن يدعيها، رغم أن رحلة حياتي كانت في بعض من محطاتها سيرا بطيئا على الأشواك، لكن من قال أن الآخرين قد مشوا على الورود؟”.
الآخرون مرة أخرى، دائما حاضرون في كل ما كتب الشريف، وحتى محطات سيرته التي اختار توثيقها هي التي يشاركه فيها آخرون شكلوا وجدانه، وكانوا وراء ما كانه. والآخرون الذين أنا منهم يحق لنا أن نقول أن لكل ما كتبتَ يا سافو قيمة استثنائية في تاريخ هذه الأرض، ليبيا، التي عشقتها ملتفتا إلى الخلف بغضب، ومراهنا على مستقبلها المتمثل في الطفولة التي كانت محور اهتمامك، وشاخ أطفال كتبت لهم، وشاخ بعدهم آخرون، لكن قلبك الطفل لم يشخ، وظل يكتب للطفولة المستمرة التي لا تنضب، لأنها الخلاصة، ولأن “الخلاصة هي خلود الكائن”.
________________
نشر بموقع بوابة الوسط