المقالة طيوب النص

خرافة الإنسان الكامل: بين الإرادة والإدارة

مقدمة كتاب “متلازمة العافية”*
تأليف: كارل سيدرستروم (و) أندريه سبايسر

كتاب The Wellness Syndrome
كتاب The Wellness Syndrome

يوجّه السياسيون (ويردّد الاقتصاديون) رسائلهم إلى الجموع، ولكنهم يعمدون إلى تفريغ الأفراد من أدوارهم الحقيقية، هكذا يحصلون على مجتمع لا معنى فيه للإرادة الجماعية، فتتفتّت المصائر بعدد الأفراد (المواطنين) الذين يُلقى على عاتقهم بثقل المسؤولية. وليست المسؤولية هنا إلا اعترافاً بالامتثال المعزّز مؤسساتياً.

(1)

أنظمة العافية والإصحاح، وبرامجها المعلنة والمتداولة أقرب إلى المبادرات الصحيّة والمعنوية التي تتوخّي رفاهية الأفراد، وتحسين فعاليتهم، ورفع إنتاجيّتهم، بما يحقّق تناغماً اجتماعياً عاماً. هذا –تقريباً- هو مجمل الإطار الشكلي الذي يدافع عنه متبنّو هذه الأنظمة والمعنيّون بتطبيقها وانتشارها. في هذا الكتاب ينبّهنا كارل سيدرستروم وأندريه سبايسر إلى مستوًى آخر تتفاعل فيه الأشياء، ويَعْمِد السياسيون والصناعيّون إلى إخفائه، وهو مستوًى مدمّر، بالرغم من أنه ليس مرئياً تماماً، ويجب وضع حدّ له لكي لا يواصل المجتمع انزلاقه إلى هوّة مظلمة. نحن (القرّاء) سوف نكتشف بعداً تطبيقياً يترك المفاهيم جانباً، ويعمد إلى دراسة وتحليل آثارها كما نلمسها في الحياة اليومية، وهذه هي ميزة كتاب “خرافة الإنسان الكامل: متلازمة العافية”، فلننتقل إذن من ظلال الفلسفة إلى تصدّعات الواقع الذي نعيشه في القرن الحادي والعشرين، حيث تُقاس قيم الأشياء بما يقابلها من “ربحيّة”، بما في ذلك قيمة الإنسان نفسه.

هذه هي رسالة الكتاب العامة: إن الأشياء ليست كما تبدو لكم، وأن تكونوا أصحّاء من وجهة نظر المؤسسة، لا يعني أنكم معافون فعلاً، أو أنكم تتميّزون بغير خاصية الامتتثال التي رُوِّضتم عليه. إن نظام العافية الذي تدعمونه ويدّعي تمكينكم من الرفاهية والسعادة إنما يدمّركم من الداخل، ويسلبكم إرادتكم.

رسالة صادمة، بالنسبة إلى القارئ الغربي، وتستحقّ منه أن يمعن النظر، وأن يُعمل فكره في ما هو متوقَّعٌ منه، محاولاً العثور على تلك الأجندات الضمنيّة والمستترة التي تعيد تشكيل ذاته ومحيطه دون وعي منه، وتجعل سعادته المفترضة زلقةً وهشةً ومراوغة.

(2)

ليس هذا الكتاب بحثاً منهجياً منتظماً، سوف تجد هنا أساليب متنوعة، أكاديمية وتوثيقية وصحفية وانطباعية، وجميعها تقود إلى الغاية نفسها: ماذا يمكننا أن نكتشف وراء ما نسمع ونشاهد ونقرأ ونمارس؟

يقود سيدرستروم وسبايسر حجاجهما بطريقة متدفّقة، وهما يعوّلان على ثقافة متوسطة من قراء افتراضيين يُشترط في قابلياتهم أن تتعامل بمرونة مع مختلف المصادر؛ من العلوم “الحقيقية” إلى العلوم الزائفة، ومن حكمة الشرق إلى التعاليم الإنجيلية، ومن أحلام الفلاسفة إلى مخططات الاقتصاديين، ومن الكتّاب أصحاب المشاريع الحيوية إلى الكتّاب الترفيهيين الذين لا يكتفون بالترفيه ولكنهم يستخدمونه لترويج الخبل! إن الابتكار في هذا الفضاء الواسع قد يكون فكرة جادّة تحثّ على تغيير الأشياء، وقد يكون مجرد فكرة ضحلة أو كذبة كبرى (بعض النظر عن قائمة أكثر الكتب مبيعاً التي تحشر ثقافات القراء في نفق ضيق).

من الممتع حقاً أن يتابع القارئ هذه المحاججة التي لا يفشل المؤلفان في إثباتها، ولكنه في حاجة أولاً إلى الإطلاع على معطياتها، ومراكمتها تدريجياً، بقراءة هذا الكتاب الصغير بدءاً من المقدمة. إن المؤلّفين يبدآن بوضع القارئ أمام تعريف الإنسان المثالي، أو الكامل، الذي تدّعيه أنظمة العافية، وسرعان ما يكشفان عن الجانب المظلم في ما يبدو للجميع أنه غاية بريئة وإيجابية، ثم يعمدان إلى كشف الكيفية التي تتحوّل بها برامج الرفاهية إلى “بازار” غريب، عن طريق نشر “عقيدة السعادة” والدعوة لها، وصولاً إلى خيارات ضئيلة ومتناقضة على الأفراد أن يكرّسوا أنفسهم لخدمتها، قبل أن يخلص المؤلفان إلى النتائج الحرجة، كما تصوّراها. إنها خمسة فصول قصيرة متّصلة تنصح القراء بإنقاذ أنفسهم من ذلك الخداع المستمر الذي يتلخّص في الامتثال، وتنبّههم إلى أدوارهم الحقيقية الغائبة، وتحرّضهم بطريقة غير مباشرة على الاضطلاع بأدوارهم السياسية، لأن الأصل في السياسة هو إدارة المدينة التي تصنعها إرادة الفرد قبل كل شيء.

(3)

بغض النظر عن الالتزامات الكاملة التي تفرضها “متلازمة العافية” على الأفراد، يعمل الأفراد –منعزلين عن بعضهم بعضاً- من أجل تحسين مستويات حياتهم العملية، عن طريق اتباع حميات غذائية مدروسة، واستثمار الوقت، وممارسة الرياضة، فإذا بهم ينتهون إلى الإعياء والشعور بالذنب، والإحساس الدائم بالإجهاد، وتفاقم الضغوط والتوترات، والإصابة بالأمراض، والتشتّت الذهني، والمحصلة: أنت لست أنت، طالما لم تُفلِت من تلك الدائرة الجهنمية التي تسمّى “متلازمة العافية”.

إن متلازمة العافية بقدر ما تبدو حلاً جذرياً متقدّماً لمشكلات العمل والحياة، بقدر ما تنذر بالخطر وتفاقم الأوضاع سوءاً واضطراباً، وتخلق مجتمعاً عاجزاً. هكذا تكتمل معادلة هذا الكتاب الافتراضية، وهو يكشف لنا “أيديولوجيا العافية” التي تفرضها الأجندات السياسية والصناعية على مجتمع ما بعد الحداثة بما يخيّم عليه من مرض وقصور. لا أحد يرفض أن يكون سعيداً ومنتجاً وأكثرَ صحّةً، كما لا يقبل أحد بأن يكون نرجسياً وقلِقاً وأسيرَ الشعور بالذنب. حسناً، إن متلازمة العافية تؤدي إلى كلّ هذا في آن واحد. إذ بينما تمنحك أنظمة العافية مُثُلاً وروحاً طيّباً، فإنها تدفع بك إلى الاغتراب وفقدان الهوية الذاتية. وإذا كان بإمكاننا أن نتحدّث عن “أبطال” العافية، فلا يجب أن نغفل الحديث عن “ضحاياها”، لأن الطرفين متلازمان.

(4)

ثمة مستوى آخر أكثر حرجاً تعمل فيه أنظمة العافية، وهو حقن الوعي الطبقي بالتعصّب والعنف، بما يساهم في إذكاء الصراعات السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية بطريقة غير سويّة، وإذا كان من السهل برمجة الوعي الطبقيّ وفق أجندات مرسومة مسبقاً لصالح السياسيين وأرباب العمل، فإننا لا نتحدّث –إذن– عن خللٍ فئويّ فحسب، بل عن آفة عامّة تقلب المُثُل والغايات، وتحيل كل أمنية طيبة إلى نقيضها المعتم، والنتيجة الطبيعية هي إضفاء الشرعية على المؤسسة السياسية والاقتصادية في مقابل استشراء تفاقم الظلم والفقر والانقسام الطبقي. أما على مستوى الأفراد في مواقع العمل والمصانع والإدارات، أو في منازلهم وفي الأسواق والشوارع، فإن الحدّ الأدنى من سيطرة أيديولوجا العافية وخبل السعادة هذا هو إصابتهم بأمراض عقلية ونفسية لا سبيل إلى التعافي منها.

(5)

عندما يوجّه السياسيون (ويردّد الاقتصاديون) رسائلهم إلى الجموع، يعمدون إلى تفريغ الأفراد من أدوارهم الحقيقية، وهكذا يحصلون على مجتمع لا معنى فيه للإرادة الجماعية، فتتفتّت المصائر بعدد الأفراد (المواطنين) الذين يُلقى على عاتقهم بثقل المسؤولية. وليست المسؤولية هنا إلا اعترافاً بالامتثال المعزّز مؤسساتياً. كلما زاد الأفراد قلقاً وعزلةً زادت نسبة امتثال المجتمع، وهذا ما يساهم في إحلاله انتشار متلازمة العافية، وإجبار الأفراد على الانخراط في برامج “ترشيد” يسيّرها ويشرف عليها “خبراء” معتمدون من طرف المؤسسات ذاتها. ولا يتبقى أمام الأفراد من ثم سوى اللهاث وراء برامج “إعادة التأهيل الشخصي” عن طريق “برامج العافية” التي تشترطها المؤسسات الرسمية (السياسية والإدارية). إن السياسيين عندما يستبدلون التركيز على الشأن العام بالتعبير عن الأحوال الشخصية فإنهم يقومون ببساطة بصرف الأنظار عن المطالب السياسية في المجتمع، وأهمّها: إعادة توزيع الموارد المادية، والاعتراف بالهويات المتضرّرة، وتمثيل الخصوم السياسيين. والنتيجة في كل الأحوال تفريغ إمكانية التأثير في القرارات إلى الدرجة صفر، وتحويل الأسئة الكبرى، مثل عدم المساواة والتمييز والاستبداد، إلى مجرّد أوهام مفرطة يجب تهذيبها أو التخلّص منها. هذا بالطبع ما يمكننا أن نسمّيه “إلهاءً” أو “خداعاً” يعمل على تغيير مسار التداول العام وإعادة توجيه تدفق المعلومات إلى غايات مصطنعة لصالح فئة أو مجموعة أو حزب أو شخص. 

(6)

باختصار: نعيش مع “خرافة الإنسان الكامل” صراعاً عنيفاً بين التماثل والامتثال، الإرادة والإدارة، العمق والعقم. هذا الكتاب يقع في منطقة وسطى بين التسيير والتفكّر، بين معاش الحياة ومعنى الوجود، وهو لا يترك مجالاً في معظم أجزائه لأي حلّ تلفيقي يوفّق بين الخصوم والأنصار؛ إما أن تكون مع فكرته العامة أو تكون ضدّها، أما بينهما فيمكنك أن تقرأ لكي تدعم اختيارك الخاص أو تتنازل عنه. هذا نوع من ديمقراطية التأليف مهمّ جداً لمن لا يكتفي بالحُكم سلباً أو إيجاباً، بل يقبل أن يختار أو أن ينفي. أنتَ هنا مدعوٌّ إلى موقفٍ ما، ولن تبقى على حياد.

بغض النظر عن كل الأهداف الإنسانية والصحية، المثالية والبرئية، التي يتمّ الإعلان عنها، سياسياً واقتصادياً، فإن شيئاً ما، منحطّاً وغير بريء، يتحرّك في ظل الرأسمالية. إنه ببساطة “سطوة المال”! كم يجب أن تدفع لكي ننقذك؟ وكم من المتوقّع أن تخسر المؤسسة إذا لم تستجب لشروطها؟ مع سؤال حاسم أخير، هو في الواقع تهديد صارم، لا هوادة فيه: هل أنت على استعداد لكي تخرج من الحياة، وتعيش منعزلاً كئيباً لا يهتمّ أحدٌ بك، إذا لم تُبدِ خضوعك وامتثالك، ورفضتَ ما تعرضه عليك المؤسسة؟ هناك إشارات في الكتاب إلى “القتل الرحيم”، وبالرغم من أن المؤلفين لم يتناولاه صراحةً، ولكنه يلوح كإجابة متوقّعة عن هذا السؤال الحاسم. إن سيدرستروم وسبايسر يعزّزان تفكيرنا “غير الإيجابي” في أن قوانين المؤسسة هي اللوياثان الجديد، ويواصلان الإشارة بدأب إلى التناقض بين الحرية الفردية (معبراً عنها بالتطلّع والرغبة والحلم) من ناحية، والتسيير الأبوي (متمثّلاً في السلطوية والمؤسساتية والنزعة الشمولية) من ناحية أخرى، وهو الخلل الدائم الذي لم يُعالج في معادلة الخاص والعام، ولكن إذا كان الخاص مفكَّكاً ومدرَكاً في لا-معياريّته الشخصية، فمن يملك حقّ تصنيف العام وحصره معيارياً بحيث لا يمكن تجاوزه أو نقضه؟ هذا أحد أسئلة الكتاب التي لا إجابة عنها، بل يبقى الأفق مشرعاً لإعمال التفكير والتطلّع، وهو -على وجه آخر- سؤال الأخلاق والمُثُل، الحرية والنظام، الرغبة والمعاش، أو كيف يعيد السياسي (المشرّع أو القانوني أو المستبد) كتابة السّجل الأخلاقي (السلوكي أو العرفي أو العام) في المؤسسة (الأمة أو المجتمع أو المصنع). وقس على ذلك من الثنائيات المتناقضة التي تشتّت مفهوم الإرادة في مقابل إحلال مفهوم الإدارة والإيمان شبه الديني بها. لا أحد يستطيع إقناع أحد بمفهوم “الوسطية” المفترى عليه عبر تاريخٍ من التحيّزات، ولكننا مدعوون إلى البحث من جديد وإعادة ترتيب الثنائيات، من أجل إنقاذ أنفسنا، من أجل صنع الحياة، ومن أجل إدراك نقائص التعلّم والامتثال والاسترشاد بالآخرين، تلك الطرائق التي صنعت كياناتنا الفردية، أو ربما من أجل الخروج –أخيراً- من الحياة كما دأبنا على الإيمان شبه الديني بها دون أن نفهمها.

(7)

ختاماً.. يكشف هذا الكتاب جزءاً قد يبدو هامشياً لدي بعض علماء الاجتماع المعنيين بالنظريات الكبرى، ولكنه مع ذلك واقعيّ جداً، وصادم أيضاً.وهو يشرّح الكيفية التي يتم بها استغلال قوة العمل للحصول على ربحيّة أعلى: تستطيع المؤسسة أن تعيد شحن الأفراد كلما اقتضى الأمر، وتحوّلهم إلى مصدر لا تنفد طاقته، على الأفراد إذن أن يعملوا وأن ينتجوا دون توقّف، ولتذهب تطلّعاتهم وأحلامهم الشخصية إلى الجحيم. إنه إطار مُحكم يلتقي فيه الشرق والغرب، وإذا استدعينا حدثاً تاريخياً هنا، أمكننا القول بأن الفرق بين نموذجي الستاخانوفية والتايلورية مثلاً إنما هي “طريقة التغليف” التي قُدّمت بها بضاعة كل منهما. أما الإنسان –من حيث هو قيمة وجوديّة- فلم يكن في منظوريهما أكثر من كائن حي تتمظهر فيه تلك “الآلات” التي لا هدف لها إلا المحافظة على سير النظام وتعزيز وثاقته. حسناً، ليس هذا الكتاب دعوة يخيم عليها شبح هوبزيّ حديث، ولكنه يدعونا –بكل صراحة- إلى إعادة التفكير في صدق المُثُل والغايات التي نحيا بها، متوهّمين أنها تعبّر عن “طبائع الأشياء”.


* خرافة الإنسان الكامل: متلازمة العافية، من تأليف السويدي كارل سيدرستروم، والنيوزيلندي أندريه سبايسر، صدر عن دار  پوليتي، البريطانية-الأمريكية، وتصدر ترجمته العربية عن دار “الصفحة السابعة” السعودية https://page-7.com  قريباً.

** ملاحظة: دأبنا على ترجمة Wellness بكلمة “عافية” وقصرناها على دلالة البرء وسلامة الجسد، إلا أن دلالة Wellness أشمل من معنى الصحة البدنية أو اللياقة الجسمية، وتتصل بجودة الشيء (أو الحال)، والصحة ضمناً، فهي أقرب إلى الإصحاح عامةً، بدلالة حسن ملكات الإنسان الروحانية والنفسانية والعقلانية، ناهيك بصحته الجسمانية، وتشمل الصحة البدنية (الخلو من الأمراض = العافية)، والصحة الشاملة (عقلاً ونفساً وجسداً)، والصحة العامة (بيئةً ومجتمعاً)، والثقافة الصحية (التعليم والثقافة العامة وتنمية المهارات الحياتية)، بما يتضمن اشتراط الصحة والرفاه. ولعل “متلازمة الإصحاح” كانت أجدر بعنوان الكتاب، ولكننا فضّلنا الإبقاء على ترجمة الكلمة كما تُدُوْوِلِت. 

مقالات ذات علاقة

ثلاثية التكرار الليبية: نداء الحياة في زمن الكوليرا*

نورالدين خليفة النمر

لسنا عرب

المشرف العام

العنوان: سرطاناتنا الحميدة

علي الخليفي

اترك تعليق